بداية الإختلاف بعد رحلة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 13 سنةبداية الإختلاف بعد رحلة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
ارتحل النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ملبّياً دعوة ربّه في العام الحادي عشر من هجرته ، بعد ما بذل كل جهده لتوحيد الاُمّة ورصّ صفوفها ، منادياً فيهم بقول سبحانه : ( إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وانَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم كما دعا إلى كلمة التوحيد دعا إلى توحيد الكلمة بأمر منه سبحانه في الذكر الحكيم حيث قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) وقال سبحانه : ( إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَة ... ) (3) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يُحذِّر المجتمع الإسلامي من التفرّق والتشرذم ، وقد وصف التحزّب والتعصّب لقوم دون قوم « دعوى منتنة » (4).
وقد خاطب معشر الأنصار بقوله : « الله الله أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله بالإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به أمر الجاهليّة واستنقذكم من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » (5).
ومع كلّ هذه الأوامر العديدة والتحذيرات الشديدة نرى ـ يا للأسف ـ أنّ المسلمين اختلفوا بعد وفاته ـ وجثمانه بَعدُ لم يُوار ـ إلى فرقتين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول ويفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية وهاتان الفرقتان هما :
1 ـ فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن وقالت إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نصّ على خلافة علي وولايته في مواضع عديده ومناسبات كثيرة ، أعظمها وأشهرها يوم الغدير في منصرفه عن حجّة الوداع في العام العاشر ، فقال في محتشّد عظيم : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » وقد بلغ الحديث في كلّ عصر حدّ التواتر بل تجاوز حدّه ، ومن المتبنّين لهذه الفكرة ، أكابر بني هاشم وشخصيّاتهم البارزة كعبّاس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما ولفيف من الأصحاب ، كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبي التيهان ، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، الذين شايعوا عليّاً ، ونفّذوا ما أوصى به النبي الأكرم في حقّ وصيّه ، وهؤلاء همّ نواة الشيعة وهم جزء من المسلمين الاُول ، فقد بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول.
2 ـ فرقة تبنّت فكرة الشورى ، وانّ لها اختيار القائد ، وانتهت تلك الفكرة بعد مشاجرات ومشاغبات بين متبنّيها إلى خلافة أبي بكر بن أبي قحافة ، وتمّت البيعة له في سقيفة بني ساعدة ، ببيعة عدّة من المهاجرين ، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح ، وبيعة الأوسيين من الأنصار ، وهؤلاء قد نسوا أو تناسوا النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا الإجتهاد على النصّ ، ورجّحوا المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي ، والعجب انّ أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين والأنصار كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة بأدلّة ومقاييس كانت سائدة في الجاهليّة ، والتي لا صلة لها بالكتاب والسنّة :
مثلاً : إنّ الأنصار رأوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة ، لأنّهم آووا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونصروه في حروبه في زمان أخرجه قومه فيه من موطنه وخذلوه ، وقال خطيبهم الحبّاب بن المنذر بقوله : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين.
هذا منطق الأنصار ، وهلم معي نستمع منطق المهاجرين فقال أبوبكر ناطقاً عنهم : إنّ المهاجرين أقرباء النبي وعترته ، ودعمه عمر فقال ردّاً لمنطق الأنصار : والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ولا تمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته ؟
ترى أنّه ليس في منطق كل من المرشّحين أيّ استناد إلى الكتاب والسنّة فهذه تستدلّ بايوائهم رسول الله ونصرتهم إيّاه ، وتلك تستند إلى قرابته منه ، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق عارف بالكتاب والسنّة ، مدير ومدبّر يملك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة سواء أكان من المهاجرين أم من الأنصار أو من طائفة اُخرى
كلّ ذلك يعرب عن أنّ الفكرة كانت غير ناضجة أوّلاً ، وانّ الانتخاب والاختيار لم يكن صادراً عن مبدأ الإسلامي ثانياً.
هذا وانّ طائفة من الأنصار أعنى الأوس بايعوا أبا بكر بحجّة أنّهم إن لم يبايعوه ليكوننّ للخزرج عليهم فضيلة (6).
وهكذا ظهرت فرقتان بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمبدأ الذي اختلفتا فيه هو : مسألة الخلافة وقيادة الاُمّة ، وكان المترقّب بعد هذا الشقاق والإختلاف ، طروء حروب دامية بين الطرفين ، ولولا القيادة الحكيمة للإمام علي عليه السلام ومساهمته مع الخلفاء في مهامّ الاُمور ، والتنازل عن حقّه لَانجّر الأمر في حياة الخلفاء إلى الهلاك والدمار ، خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون تلك الفرصة ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى ليصطادوا في الماء العكر ، وفي التاريخ شواهد تؤيّد ذلك وانّ القيادة الحكيمة لصاحب النصّ أعني الإمام علياً أفشلت تلك الخطط الشيطانيّة نكتفي منها بما يلي :
روى الطبري : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : « والله إنّي لأرى عجاجة لايدفها إلّا دمّ ، يا آل عبد مناف فيما أبوبكر من اُموركم ؟ أين المستضعفان أين الاذلّان علي والعبّاس ؟ وقال : « أبا حسن أبسط يدك حتّى اُبايعك » فأبى علي عليه السلام فجعل أبوسفيان يتمثّل بشعر المتلمّس :
ولن يقيم على خسف يراد به |
إلّا الأذلّان غير العير والوتد |
|
هذا على الخسف معكوس برمّته |
وذا يشجّ فلايبكي له أحدى (7) |
قال : فزجره علي عليه السلام وقال : « إنّك والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك ».
كان الإمام معتقداً بشرعيّة امارته وخلافته ، ويرى نفسه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد سبقت البيعة له في يوم الغدير وغيره ، وكان يحتجّ به وبغيره من النصوص على استحقاقه لها ويعترف نفسه وأهل بيته بقوله : « ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصّية والوراثة » (8).
ومع ذلك رأى أنّ في مواجهة هذا الإنحراف في تلك الظروف العصيبة مفسدة أعظم من فوت الولاية فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً ، وطوى عنه كشحاً ، وهو يصف الحال في بعض خطبه ويقول : « ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أهل بيته ، ولا انّهم منحوه عنّي من بعده ، فما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمئن الدين وتنهنه » (9).
قام أبوبكر بأعباء الخلافة ، وحارب أصحاب الردّة ، إلى أن مضى لسبيله ، فأقام مكانه عمر بن الخطاب وهو أيضاً سار بسيرة من قبله ، وكان المسلمون يجتازون البلاد ، ويفتحون القلاع ، ويسيطرون على العالم بفضل الدين والإيمان ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة من قريش وزعم أنّ رسول الله مات وهو عنهم راض وهؤلاء هم : عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقال : رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثمّ نظر إلى كلّ واحد من هذه الستّة إلى أن نظر إلى عثمان وقال : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني اُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس ، آثرتهم بالفيء فثارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلت ليفعلنّ ثم أخذ بناصيته فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن (10).
فلمّا دفن عمر ، اجتمع أصحاب الشورى في بيت فتكلّموا فتنازعوا ، غير أنّ تركيب الأعضاء منذ عيّنها الخليفة كان يعرب عن حرمان علي ونجاح غيره ولأجل ذلك تمّ الأمر لصالح عثمان ، فقام بالأفعال التي تنبّأ بها عمر بن الخطاب ، وأحدث اُمراً نقم بها عليه ، وأوجدت ضجّة بين المسلمين ومن أبرز معالمها انحرافه عن الحقّ وإليك صورة من أعماله التي ثارت لأجلها ثورة الأنصار والمهاجرين :
1 ـ تعطيل الحدود الإلهيّة :
شرب الوليد بن عقبة الخمر فسكر فصلّى بالنّاس الغداة ركعتين أو أربع ركعات ، فانْتُزعَ خاتمه من يده وهو لايشعر من سكر ، وقد قدم رجل المدينة وأخبر عثمان ما شهده من الوليد فضربه عثمان ، فكثرت الشكوى على عامله بالكوفة ولم ير بُداً من عزله ولم يجرِ الحدّ على الوليد ، فقال الناس : عطّلت الحدود وضربت الشهود (11).
2 ـ عطياته الهائلة لبني اُميّة من بيت المال :
بين ليلة وضحاها صارت جماعة من بني اُميّة بفضل خلافة عثمان ، أصحاب الضياع العامرة والثروات الطائلة منهم : مروان بن الحكم ، وعبد الله بن أبي سرح ، ويعلى بن اُميّة ، والحكم بن العاص ، والوليد بن عقبة وأبى سفيان ، وقد حفظ التاريخ صورة عطيات الخليفة لهم ولغيرهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مظانه (12).
ويكفيك أنّه أعطى مروان بن الحكم ـ ابن عمّه وصهره ـ خمس غنائم أفريقيا ، وكانت تقدّر بمليونين ونصف مليون دينار ، وفي ذلك يقول الشاعر :
واعطيت مروان خمس العبا |
دِ ظلماً لهم وحميت الحمى (13) |
3 ـ تأسيس حكومة أمويّة :
كان الخليفة يبذل غاية جهده في تأسيس حكومة أمويّة في العواصم الإسلامية فنرى أنّه عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولّاها الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لاُمّه.
وفي سنة 27 من الهجرة عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل عليه عبدالله بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة.
وعزل أباموسى الأشعري فولّى مكانه على البصرة عبد الله بن عامر وهو ابن خال عثمان (14).
وأبقى معاوية على ولايته على الشام ، ولمّا كثرت الشكوى على عامله بالكوفة ، الوليد بن عقبة ، عزله وولّى مكانه سعيد بن العاص (15) حتّى قيل إنّ خمساً وسبعين من ولاته كانوا من بني اُميّة (16).
4 ـ مواقفه العدائيّة تجاه الصحابة :
كان للخليفة مواقف غير مرضيّة مع أصحاب رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد سيّر أباذر إلى الربذة وهي أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا كلاء ، فهناك لفظ آخر أنفاسه غريباً فريداً (17) وأمر بضرب عبد الله بن مسعود فكسر ضلع من أضلاعه (18) كما أنّه ضرب عمّار بن ياسر حتّى غشي عليه بحجّة أنّه انتقد عمل الخليفة في بيت المال (19).
5 ـ ايواؤه طريد رسول الله :
طرد رسول الله الحكم بن عاص مع ابنه مروان إلى الطائف ، فردّهما إلى المدينة أيّام خلافته.
يقول الشهرستاني : ردّ الحكم بن اُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان يسمّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أيّام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ، نفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً (20).
إلى غير ذلك من الاُمور التي أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ، حتّى اجتمع المسلمون من المصريين والكوفيين والبصريين ، وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه بتبيين سوء مواقفه وأعماله وجنايات عمّاله في البلاد ، ولكن كان ردّ فعله تجاه هاتيك الإحتجاجات ، سلبياً فلم يستجب لطلباتهم ، بل غضب على كل من احتجّ عليه بسوء فعله أو فعل ولاته ، ولكن كثرة السخط والنقد على الخليفة ، شحنت النفوس نقمة وغضباً ، فانفجرت ثورة عارمة لم تجمد إلّا بقتله في عقر داره.
قتل الخليفة عثمان :
والمهاجرون والأنصار ومن تبعهم باحسان بين مجهز عليه ، أو مؤلَّب ضدّه ، أو مستبشر بمقتله ، أو صامت رهين بيته ، محايد عن الطرفين (21).
إنّ هذه الأحداث الكبيرة لو اتّفقت في أيّ عصر من العصور التي يسود فيها الحكم الإسلامي لأثّرت نفسَ الأثر الذي خلَّفْته في عهد عثمان ولقلبت الاُمور رأساً على عقب.
ومع ذلك ترى أنّ بعض المؤرخين يريدون تبرير عمل الخليفة وانّ الثورة ضدّ الخليفة لم تكن ثورة شعبيّة دينيّة نابعة من أوساط المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في مصر والعراق ، ويزعمون انّ عبدالله بن سبأ هو الذي جهّز المصريين وكدّر الصفو على الخليفة ، وانّه وأتباعه كانوا وراء قتل الخليفة ولكن هذا من مختلقات بعض المؤرّخين (22) الذين جرّهم حبّهم وإخلاصهم للخلافة والخليفة إلى اسناد هذه الثورة إلى رجل مزعوم « عبد الله بن سبأ » لم يثبت وجوده أوّلاً ، وعلى فرض وجوده لم تثبت له تلك المقدرة الهائلة التي تثير الحواضر الإسلاميّة وعقليّة المهاجرين والأنصار على الخليفة المفترض طاعته (23).
فلو كان لعبد الله بن سبأ تلك المقدرة وانّه كان يجول في البلاد لتحريض الناس على الخليفة فلماذا لم يتمكّن الخليفة ولا عمّاله من القبض عليه ليسجنوه أو يطردوه من الحواضر الإسلاميّة إلى نقطة لا ماء فيها ولا كلاء كما طردوا أباذر إلى الربذة ، وسيّروا صلحاء الكوفة إلى أمكنة اُخرى.
قال الأميني : لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ ولم يُلْقَ القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة ، والتأديب بالضرب والإهانة ، والزجّ إلى أعماق السجون ؟ ولا آل أمره إلى الإعدام ، المريح للأمّة من شرّه وفساده ، كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القرآن الكريم يرنّ في مسامع الملأ الديني : ( إنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ الله وَرَسُولَهُ ويسْعَوْنَ في الأرْضِ فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم وارْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيا ولهُمْ في الآخِرَة عَذابٌ عَظيمٌ ) [ المائدة : 33 ] (24).
اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة علي :
قتل الخليفة بمرأى ومشهد من الصحابة ، وتركت جنازته في بيته ، واجتمع المهاجرون والأنصار في بيت عليّ ، وطلبوا منه بإصرار بالغ قبول الخلافة ، إذ لم يكن يوم ذاك رجل يوازيه ويدانيه في السبق إلى الإسلام ، والزهد في الدنيا ، والقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والعلم الوافر بالقرآن والسنّة ، والإمام يصف إجتماعهم في بيته ويقول : « فتداكوا عليّ تداكّ الإبل الهيم ، يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها ، حتّى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي » (25).
وفي كلمة اُخرى له عليه السلام يقول واصفاً هجوم المهاجرين والأنصار على بيته لبيعته : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومدد تموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم عليّ تداك الهيم على حياضها يوم وِرْدها حتّى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي ، أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب » (26).
فلمّا عرضوا عليه مسألة الخلافة والقيادة الإسلاميّة أجابهم بجدَ وحماس : « دعوني فالتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت له العقول » (27).
فلمّا أحسّ منهم الإلحاح والإصرار المؤكّد وانّه لابدّ من البيعة ورفع علم الخلافة قال عليه السلام : إذا كان لابدّ من البيعة فلنخرج إلى المسجد حتّى تكون بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار ، وجاء إلى المسجد فبايعه المهاجرون والأنصار وفي مقدّمتهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ولم يتخلّف من البيعة إلّا قليل لا يتجاوز عدد الأنامل كاُسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ونظائرهم (28).
وقد عرفه التاريخ بأنّه كان رجلاً زاهداً غير راغب في الدنيا ولا مقبلاً على الرئاسة وانّما قبل البيعة لأنّه تمّت الحجّة عليه وكان المسلمون يومذاك بحاجة إلى قيادته وخلافته وهو يصف أمره : « والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها » (29).
كلّ ذلك صار سبباً لقيام علي بالزعامة والخلافة وتدبير الأمور ، ولم يكن هدف المبايعين إلّا إرجاع الاُمّة إلى عصر الرسول ، ليقضي على الترف والبذخ ، ويرفع راية العدل والقسط ، ويهدم التفاضل المفروض على الاُمّة بالقهر والغلبة ، وينجي المضطهدين والمقهورين من الفقر المدقع ، ولمّا تمّت البيعة خطبهم في اليوم التالي وبين الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي الإلتزام بها طيلة ممارسته للخلافة فعلى الصعيد المالي قال في قطايع عثمان التي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته : « والله لو وجدته قد تزّوج به النساء وملك به الاماء لرددته فانّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (30).
قال الكلبي : ثمّ أمر علي عليه السلام بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين ، فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألّا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره ، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها.
فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بـ « ايلة » في أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشر عن العصا لحاها (31).
ما مارسه الإمام لتحقيق المساواة من خلال ردّ قطائع عثمان كان جرس الإنذار في أسماع عبَدة الدنيا وأصحاب الأموال المكدّسة ، أيّام خلافة الخليفة الثالث ، فوقفوا على انّ علياً لا يساومهم بالباطل ، على الباطل ولا يتنازل عن الحقّ لصالح خلافته.
وعند ذلك بدأوا يتآمرون على خلافته الفتية في نفس المدينة المنوّرة وفي مكّة المكرّمة والشامات ، وقد كان هؤلاء متفرّقين في تلك البلاد.
وهذا هو الموضوع الذي نطرحه في الفصل التالي ، وستعرف أنّ ظهور الخوارج في الساحة الإسلاميّة من مخلّفات هذا التآمر الذي رفع راياته الناكثون والقاسطون.
الهوامش
1. الأنبياء : 92.
2. آل عمران : 103.
3. الحجرات : 10.
4. ابن هشام : السيرة النبويّة 3 / 303.
5. ابن هشام : السيرة النبويّة 2 / 250.
6. الطبري : التاريخ 2 / 446. ابن قتيبة : الإمامة والسياسة 1 / 9.
7. الطبري : التاريخ 2 / 449. ابن الأثير : الكامل في التاريخ 2 / 220.
8. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 5.
9. الرضي : نهج البلاغة الكتاب 62.
10. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1 / 186.
11. السيوطي : تاريخ الخلفاء 104. أبوالفرج الاصبهاني : الاغاني 4 / 188.
12. الأميني : الغدير 9 / 236 ـ 290.
13. ابن قتيبة : المعارف 113 ط دار الكتب العلمية. ابن كثير : التاريخ 4 / 157.
14. الدينوري : الأخبار الطوال 139. ابن الأثير : الكامل 3 / 88 ـ 99.
15. الطبري : التاريخ 3 / 325.
16. الندوي : المرتضى : ولا حظ للوقوف على أسماء عمال عثمان في السنة التي قتل فيها ، تاريخ الطبري 3 / 445.
17. البلاذري : الانساب 5 / 54. الطبري : التاريخ 3 / 335.
18. البلاذري : الأنساب 5 / 36.
19. البلاذري : الأنساب 5 / 48.
20. الشهرستاني : الملل والنحل 1 / 26.
21. الطبري : التاريخ 3 / 399.
22. الطبري : التاريخ 3 / 378.
23. لا حظ عبدالله بن سبأ لمرتضى العسكري فقد اغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.
24. الأميني : الغدير 9 / 219.
25. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 54.
26. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 229.
27. الطبري : التاريخ 3 / 156.
28. الطبري : التاريخ 3 / 156.
29. نهج البلاغة ، الخطبة 205.
30. نهج البلاغة ، الخطبة 15.
31. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1 / 270.
مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنّحل ] / المجلّد : 5 / الصفحة : 9 ـ 23
التعلیقات
١