حقيقة الوحي في النُبوّة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 128 ـ 131
(128)
الأمر الثالث : حقيقة الوحي في النُبوّة
إنّ الإدراكات العادية الّتي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق
التفكر والاستدلال ، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية ، فإدراك المبصرات
والمسموعات وغيرها ، رَهْنُ إعمال الحواس . كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية
والعلمية ، نتاج إعمال الفكر والعقل ، فإنّ قولنا : « كلُّ ممكن ، فهو زوج تركيبي
له ماهية ووجود » ، أو : « إنّ كلَّ معلول يحتاج إلى علة » ، لم نقف عليه إلاّ
بالرياضات الفكرية ، وهكذا الحال في القوانين العلمية.
كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم الذات ، ويطلق عليها الوجدانيات ، أو
الفطريات ، كإدراك حسن الأشياء وقبحها ، وإدراك الإنسان جوعه وعطشه ،
فإنّ الجميع من ومضات الفطرة والغريزة ، ونظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون
والآداب والرسوم والأعمال اليدويَّة الظريفة ، فإنّها كلّها من وحي الذوق والغريزة
إذا وقعت في إطار التربية والتوجيه.
وبالجملة ، فإنّ كلَّ ما يدركه الإنسان ، نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها
المختلفة ، حسيّة كانت أو عقلية أو وُجدانية.
وأمّا الوحي الّذي يختص به الأنبياء ، فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر
الإدراكات ، فإنّه ليس نتاج الحسّ ولا العقل ولا الغريزة ، وإنّما هو شعور
خاص ، لا نعرف حقيقته ، يوجده الله سبحانه في الأنبياء ، وهو شعور يغاير
الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة ، لا يغلط معه النبي في إدراكه ،
ولا يشتبه ، ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله
________________________________________
( 129 )
سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر ، أو التماس دليل ، أو إقامة حجّة ، ولو
افتقر إلى شيء من ذلك ، لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية ، لا تلقياً من
الغيب ، من غير توسيط القوة الفكرية.
قال سبحانه: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ)(1).
فهذه الآية تشير إلى أنّ الّذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي
الشريفة ( قَلْبِكَ) ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، الّتي هي الأدوات
المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ، فالنبي يرى ويسمع حينما يوحى إليه ، من غير
أن يستعمل حاسَّتَيِ البصر والسمع.
قال سبحانه : (وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم
عَظِيم * قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا
مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(2).
فالأنبياء كلّهم يُسندون تعاليمهم وتنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك ،
الّذي لا مصدر له إلاّ عالم الغيب ، وخالق الكون ، ومثل هذا لا يمكن أن يُدْرَكَ
كُنْهُه ، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلِّ أمر غيبي لا يحيط الإنسان المادي
بحقيقته ، وإنّما يذعن به عن طريق المُخبِر الصادق . قال سبحانه: (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ)(3).
وعلى هذا ، فالوحي حصيلة الإتصال بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله
بأدوات المعرفة ، ولا بالأُصول الّتي تَجَهَّزَ بها العلمُ الحديث. ولمّا كان العاِلُم الماديُّ
غيرَ مذعن بعالَم الغيب ، ويرى أنّ الوجود مساوقٌ للمادة والطاقة ، فيشكل عليه
الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادة وأُصوله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الشعراء: الآية 193 و 194.
2- سورة يونس: الآيتان 15 و 16.
3- سورة البقرة: الآية 3.
________________________________________
( 130 )
قال الشيخ محمّد عبده ، معرضاً بأولئك المنكرين للوحي:
«إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم ، لمن يختصه الله
بذلك ، لا أراه ممّا يصعب إدراكه ، إلاّ على من يريد أن لا يدرك ، ولا يحبّ أن يرغم
نفسه الفهّامة على أن لا تفهم . نعم يوجد في كلّ أُمة وفي كل زمان أُناس يقذف
بهم الطيش ، والنقص في العِلْم ، إلى ما وراء سواحل اليقين ، فيسقطون في
غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخَمْس ، بل يدركهم الريب فيما
هو من متناولها ، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع
أخرى من الحيوان ، فينسون النقل وشؤونه ، ويجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن
قيود الأوامر والنواهي . فاذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات والأديان ،
وهم من إنفسهم هامّ بالإصغاء ، دافعوه بما أُوتوا من الإختيار في النظر ، وانصرفوا
عنه ، وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم ، فيلزمهم
العقيدة ، وتتبعها الشريعة ، فيحرموا لذّة ما ذاقوا ، أو ما يحبون أن يتذوقوا ، وهو
مرض في الأنفس والقلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء الله».
ثمّ أضاف : « قلت : أي استحالة في الوحي ، وأن ينكشف لفلان ما لا
ينكشف لغيره ، من غير فكر ولا ترتيب مقدمات ، مع العلم أنّ ذلك من قبل
واهب الفكر ومانح النظر ، حتى حَفَّت العنايةُ من ميَّزَتْهُ هذه النعمة.
فما شهدت به البديهة ، أن درجات العقول متفاوتة ، يعلو بعضها بعضاً ،
وأنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلاّ على وجه من الإجمال ، وأنّ ذلك ليس
لتفاوت المراتب في التعليم ، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر الّتي لا تدخل
فيها ، لاختيار الإنسان وكسبه.
فمِنْ ضَعْف العقول ، والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول
إليها ، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل
الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأُفق الأعلى ، وتنتهي من
الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ، ما لم يصل غيرها إلى
تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً
________________________________________
( 131 )
على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعليم . ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم
ماعلمت ، ودعوة الناس إلى ما حُملت على إبلاغه إليهم ، وأن يكون ذلك سنّة الله
في كلِّ أُمّة ، وفي كل زمان حسب الحاجة ، يظهر برحمته من يختصه بعنايته ، ليفي
للإجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته ، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشُدّه ، وتكون
الأعلام الّتي نصبها لهدايته إلى سعادته ، كافية في إرشاده ، فتختم الرسالة ،
ويغلق باب النبوة»(1).
ثمّ إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم موقفاً مسبقاً في سعة الوجود وضيقه ،
وسعة أدوات المعرفة وضيقها ، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن
الإدراكات البشرية ، حاولوا تحليله بأُصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق
الأنبياء ، وعدم اتّهامهم بتعمد الكذب ، فمالوا يميناً وشمالاً في بيان حقيقته : فتارة
يرون الوحي نوعاً من النبوغ الخاص بالأنبياء ، وأخرى نتيجة ظهور الشخصية
الباطنية للرسول ، فتلهمه بما ينفعه وينفع قومه. ونحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين
النظريتين ، ونحللهما الواحدة بعد الأخرى ، ثمّ نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في
حقيقة الوحي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- رسالة التوحيد : ص 109 ـ 111.
التعلیقات