نظرية الوحي النفسي
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 135 ـ 146
(135)
النظرية الثانية : الوحي النفسي
إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي ، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين
لا هدف لهم إلاّ تفنيد رسالة النبي الخاتم ، وتخطئتها ، فتشبث هؤلاء بكل وجه
خادع ، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر ، وآخر ما توصلت إليه الحضارة من
النظريات الفكرية ، والإبداعات العلمية ، ثمّ طبقوه بعبارات وقوالب متجددة
على حياة النبي الأكرم ، والوحي المنزّل عليه.
________________________________________
( 136 )
وإرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين
المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا..
الأولى : الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية
هذه النظرية مأثورة عن المستشرق « مونتييه » ، وفصّلها «إميل درمنغام » ،
وحاصلها أنّ الوحي إلها يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج . وذاك أنّ
منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ، وترك
ما سواها من عبادة وثنية ، وتقاليد وراثية رديئة ، يكون لها في جملتها من التأثير ما
يتجلى في ذهنه ، ويُحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحية ، فيتصور ما
يعتقد وجوبه ، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة ، أو يتمثل له رجل
يلقنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنه إنّما
يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة ، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الّذي هو
مظهر من مظاهر الوحي ، عند جميع الأنبياء ، فكلُّ ما يُخْبر به النبي أنّه كلام القي
في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خير صادق عنده.
ويقول أصحاب هذه النظرية : لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا
رأوْا وسمعوا ، وإنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه ، وليس فيه شيء جاء من عالم
الغيب الّذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة(1).
ويقولون في نفس النبي الأكرم إِنَّه توصَّل إلى الوحي بالإنقطاع إلى عبادة الله
تعالى ، والتوجه إليه في خلوته بغارِ حِراء ، وقَوِيَ هنالك إيمانُه ، وسَما وُجدانُه ،
فاتّسع محيطُ تفكُّرِه ِ، وتضاعف نور بصيرتِه ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات
البيّنات في ملكوت السموات والأرض ، الدالّة على وحدانية مبدع الوجودر، وسرّ
النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلاً لهداية الناس ، وإخراجهم من
الظلمات إلى النور ، وما زال يفكّر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلّب بين
الآلام والآمال ، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الّذي يبعثه الله لهداية البشر . فتجلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لا حظ الوحي المحمّدي : صفحة 66، الطبعة السادسة، 1960 م.
________________________________________
( 137 )
له هذا الإعتقاد في الرؤى المنامية ، ثمّ قوي حتى صار يتمثّل له الملك ، يلقّنه
الوحي في اليقظة.
وأمّا المعلومات الّتي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك
الينابيع الّتي ذكرناها ، وممّا هداه إليه عقله وتفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها وما
لا يصحّ ، ولكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء ، وأنّها خطاب الخالق عزّ
وجلّ ، بواسطة الناموس الأكبر ، وملك الوحي ، جبرئيل روح القُدس(1).
وبكلمة أدقّ : إنّ معلوماته وأفكاره وآماله ، ولّدت له إلهاماً ، فاض من
عقله الباطن ، أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية ، وانعكس
اعتقاده على بصره ، فرأى الملك ماثلاً له ، وعلى سمعه ، فوعى ما حدّثه الملك
به(2).
تحليل هذه النظرية
أ ـ نُبُوّةٌ أو أضغاث أحلام
هذه النظرية الّتي جاء بها بعض الغربيين ، وإن كانت تنطلي على السذج من
الناس ، وتأخذ بينهم رونقاً ، إلاّ أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء
جديد قابل للذكر ، وإن هي إلاّ تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة
والوحي ، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم ، ويعرض ما أكل الدهر عليه
وشرب ، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أُناس مُخَبطون ،
استغرقوا في التفكير في أُمنياتهم عقوداً من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم وأمام
حسّهم.
إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من جملة مقالات العرب وافتراءاتهم على النبي
الأكرم ، وَصْم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة الّتي كانت تراود خاطره ، ثمّ
تتجلى على لسانه وبصره.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر السابق : ص 90.
2- المصدر السابق : ص 35.
________________________________________
( 138 )
قال تعالى : (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم)(1) أي قالوا: إنّ النبي ليس
مختاراً فيما جاءَ به من الكتاب ، وشَرَّعه من الأحكام ، وإنّما هو وحيُ الأحلام ،
وطوارق الرؤى تجري على لسانه.
وقد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع آخر من كتابه ـ من دون أن يذكر
تُهمتهم ـ بقوله: ( وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى * وَ مَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّة
فَاسْتَوَى * وَ هُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى *
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَاَى * أَفَتَُمارُونَهُ عَلَى مَا يَرى *
وَ لَقَدْ رَاَهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى * لَقَدْ رَاَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرى)(2).
فهذه الآيات تركز على صدق الوحي ، وكونه أمراً واقعياً مُفاضاً من الله
سبحانه. وأنْتَ إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين ، يتجلى لك بوضوح حقيقةُ
ذلك.
أ ـ قوله: (ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رَأَى).
والمعنى لم يكذّب فؤاد محمّد ما أدركه بصره ، أي كانت رؤيته صحيحة غير
كاذبة ، وإدراكاً على الحقيقة.
وهذا ، سواءٌ قُرِءَ «كذب» بالتشديد ، فالموصول مفعولُه ، أو قُرِءَ
بالتخفيف ، كما هو القراءة المعروفة ، فهو يتعدى إلى مفعول ، قال الشاعر:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنبياء: الآية 5.
2- سورة النجم: الآيات 1 ـ 18 . والمراد من ( شَدِيدُ الْقُوَى ) ، هو ملك الوحي ، والضميران في
( فَاسْتَوَى ) ، و ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) ، يرجعان إلى شديد القوى ، وكذلك الضمير في قوله:
«أوحى» ، وأمّا الضمير في عبده فيرجع إلى الله سبحانه.
وقد اشتبه الأمر على كثير من المفسّرين في تفسير هذه الآيات ، فزعموا أنّ النبي رأى الله سبحانه
وتعالى.
________________________________________
( 139 )
كذَبتك عينك أَم رأَيْتَ بواسط * غَلَس الظَّلام من الرباب خيالاً
وعلى كل تقدير ، فالآية بصدد بيان أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق
القلب ورؤية العين ، فإذا صدّق القلب ، تكون الرؤية حقيقةً.
ب ـ قوله: (مَا زَاغَ ألْبَصَرُ وَمَا طَغَى...).
أي ما زاغ بصر محمّد وما طغى ، وهو كناية عن صحة رؤيته ، وأنّه لم يُبصر ما
أبصره على غير صفته الحقيقية ، ولا أبصر ما لا حقيقة له ، بل أبصر غيرَ خاطئ
في إبصاره.
والآيتان بصدد بيان مصونية قلبه وبصره عن الخطأ ، في مقام الأخذ
والتلقّي ، ولا تتم الصيانة إلاّ بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي.
فهو ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يُبصْر بعينه ، ويسمع بأُذنه ، ويدرك بقلبه الأشياء والحقائق
على ما هي عليه من دون خطأ.
ب ـ نُبُوَّةٌ أَو جنونٌ
ولك أن تقول ، إنّ مقالة هؤلاء المتجددين ، ليست بعيدة ولا غريبة عن
اتّهام الأنبياء بالجنون الّذي هو في حقيقته مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات
الخيالية. هذه التهمة الّتي افتراها العرب على النبي الخاتم ، كما في قوله تعالى:
(وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا الذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لََمجْنُونٌ)(1). وأشار إليها القرآن في
موارد عديدة أخرى(2)، وافتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم ، كما يقول
تعالى: ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)(3)، ثمّ افتراها هؤلاء القساوسة والمستشرقون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الحجر: الآية 6.
2- قد جاءت هذه الفرية في المواضع التالية من الذكر الحكيم:
سورة سبأ: الآية 8، سورة الصافات: الآية 36. سورة الدخان: الآية 14. سورة الطور:
الآية 29. سورة القلم: الآية 2. سورة التكوير: الآية 82.
3- سورة الذاريات: الآيتان 52 و 53.
________________________________________
( 140 )
بصياغة أدبية وقوالب علمية ، تحت إسم «تجلّي الأحوال الروحية». والمغزى
والجوهر واحد.
سبحانك يارب ، ما أعظم جناية الإنسان على أوليائك والصالحين من
عبادك ، البالغين القمة في العقل والدراية والفكر والحكمة ، حتى وسمهم هؤلاء
المفترون تارة بالخبط ، وأخرى بالجنون.
الثانية : الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة
وقد أسهب الأُستاذ فريد وجدي الكلامَ فيها في موسوعته ، نأتي منه بما
يكفي في بيان المراد منها:
كان الغربيون إلى القرن السادس عشر ـ كجميع الأُمم المتدينة ـ يقولون
بالوحي ؛ لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء . فلما جاء العلم الجديد بشكوكه
ومادياته ، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة ،
وغالت حتى أنكرت الخالق والروح معاً . وعلّلت ما ورد عن الوحي في الكتب
القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم ، وتسخيرهم
لمشيئتهم ، وإمّا هَذَيانٌ مَرَضَيٌ يعتري بعض العصبيين ، فيخيل إليهم أنّهم يرون
أشباحاً تكلّمهم ، وهم لا يرون في الواقع شيئاً.
وقد راج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي.
وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام 1846 عندما ظهرت في أمريكا آية الأرواح ،
وسرت منها إلى أوربا كلها ، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني ، آهل
بالعقول الكبيرة ، والأفكار الثاقبة ، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية ، وأُحييت
مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة ، وأعاد العلماء البحث فيها
على قاعدة العلم التجريبي المقرر ، لا على أُسلوب التقليد الديني ، ولا من طريق
الضرب في متاهة الخيالات.
فقد تألّفت في لندرة سنة 1882 جمعية دعيت باسم « جمعية المباحث
النفسية » ، برئاسة السير « جويك » المدرس في جامعة كمبريدج ، وهو من أكبر
________________________________________
( 141 )
العقول في انكلترا ، وعضوية السير « أوليفرلودج» الملقب بـ « داروين علم
الطبيعة » ـ أي أنّه لعالم الطبيعة ، كداروين للتاريخ الطبيعي ـ مع عدّة من
الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية. وكان
الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية ، وتحقيق حوادثها بأُسلوب النقد
الصارم ، والحكم بقبولها نهائياً في العلم إن كانت حقيقةً ، أو تقرير إبعادها عن
العلم والفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية.
وفي خلال مدّة تربو على خمس وأربعين سنة ، حققت هذه الجمعية أُلوفاً من
الحوادث الروحية ، وعملت من التجارب في النفس وقواها ما لا يكاد يدرك ، لولا
أنّه مُدوَّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلداً ضخماً ، فكان من ثمرات
جهادها:
1 ـ إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا
الحاضرة ، لا بكل قوى الروح الّتي فينا ، بل بجزء من تلك القوى ، سمحت لنا
بها حواسنا الخمس القاصرة ، ولكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه ، حياة
أرقى من هذه الحياة ، لا تظهر بشيء من جلالها إلاّ إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية
العادية بالنوم العادي ، أو بالنوم المغناطيسي.
وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم يظهر
بمظهر من الحياة الروحية والعلم ، لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ، ويخير
عن البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الجسمية ، ويكون ـ وهو على تلك
الحالة ـ على جانب كبير من التعقل والإدراك.
قالوا : وتكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي ؛ والدليل على ذلك ، ما
يأتيه المصابون بمرض الإنتقال النومي من الأفعال المعجزة ، والمدارك السامية.
2 ـ ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية ،
وعلموا أنّها هي الّتي كوّنت جسمه في الرحم ، وهي الّتي تحرّك جميع أعضائه الّتي
ليست تحت حكم إرادته ، كالكبد ، والقلب ، والمعدة ، وغيرها... فهو إنسان
بها ، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة.
________________________________________
( 142 )
قالوا : وهي الّتي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حُجُبِهِ الجسمية الكثيفة ،
وهي الّتي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة ، وهي الّتي تنفث في
روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من
ملائكة الله هبطت عليهم من السماء.
قالوا : وهذه الشخصية الباطنة أصبحت مُدْرَكَةً بالحسِّ ، فإنَّ ظهور النائم
نوماً مغناطيسياً ، بهذا المظهر من العقل الراجح ، والفكر الثاقب ، والنظر
البعيد ، واكتشافه لخفايا الأُمور ، وجولانه في الأقطار البعيدة ، بينما يكون هو
جاهلاً غبياً في حالاته العادية ، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه
الحياة الجسدية ، ولا تظهر إلاّ إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي.
وهناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية ، درستها الجمعية ،
وحققت تجارب الذين درسوها:
فقد كتب الأُستاذ الدكتور « ميرس » ، فصولاً ضافية في التنويم
المغناطيسي ، والعبقرية ، والوحي ، والشخصية الباطنة ، فذكر الحاسبين على
البديهية ، وهم طائفة من الناس ، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية الّتي
تحتاج إلى زمن طويل في الحساب والعمل ، فيجيبون عليها على الفور ، وهم لا
يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم . وهذا الأمر يثبت وجود الشخصية
الباطنة بدليل محسوس ؛ لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة ،
إن لم تأت به هذه الشخصية العادية ، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا
تنكشف للإنسان إلاّ بآثارها هذه.
وحكى العلامة « ميرس » قول العالم الفرنسي « ترودم » : « حدث لي في
بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة ،
وذلك من دون أن أعيرها أقل التفات . لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات
المختَرَنَة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها ، وولّدت في عقلي البراهين
عليها ، من نفسها أيضاً».
وقال « ميرس » : لقد كتب الشاعر المشهور « موسيه » عن نفسه يقول:
________________________________________
( 143 )
«أنا لا أعمل شيئاً ، بل أسمع ، فأنقل ، فكأنّ إنساناً مجهولاً يناجيني في
أذني»!!.
هذه خلاصة هذه النظرية وتاريخ نشأتها(1) ، ويمكن تحريرها بكلمتين:
الأولى : إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان ، أسيرة قواه الظاهرية
( الحواس الخمس).
الثانية: إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى ، وتظهر آثارها ، إذا
تعطّلت القوى الظاهرية ، وتخدّرت فعاليتها ، كما في حالات النوم العادي أو
المغناطيسي.
ثمّ بلحاظ هاتين النكتتين ، يفسّر الوحي في الأنبياء ، فإنّ كل ما يحدثون به
من التعاليم والإخبارات ليس إلاّ إفاضات شخصياتهم الباطنة ، وإيحاءاتها عند
تعطّل قواهم الظاهرية.
تحليل نظرية الشخصية الباطنة
إنّ هذا التفسير للوحي ـ الناتج عن الغرور العلمي ، وحصر جميع ما في
الكون ضمن إطار الأصول التجريبية ـ فاشل من جهات شتّى:
الجهة الأولى : إنّ الفرضية الّتي جاءت بها هذه النظرية ـ لو سلّمت ـ ليست
دليلاً ولا برهاناً على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية
الباطنة ، وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية ، بل قد تكون هذه الفرضية
صحيحة ، ومع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملاً إلهياً ، يفيض تلك المعارف
والأصول والإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء وقلوبهم ، فيعرّفونها للبشر.
الجهة الثانية : إن الّذي تفيده هذه النظرية ، هو أنّ الشخصية الباطنة
للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور بآثارها المختلفة ، عند تعطّل القُوى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لاحظ فيما نقلناه ، دائرة معارف القرن الرابع عشر : ج 10، ص 712 ـ 716.
________________________________________
( 144 )
الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين ، وتبقى
مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في
حالة الفعالية والجدّ والسعي.
هذا ، وإنّ المعلوم من حالات الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ أنّ الوحي الإلهي كان
ينزل عليهم في أقصى حالات تَنُّبههم واشتغالهم بالاُمور السياسية والدفاعية
والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلياً للشخصية
الباطنة ، والضمير المخفي ، أو ما شئت فعبّر ، مّما لا يرى النور ، إلاّ في حالات
الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك ، كما يصرّح به هؤلاء؟.
وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال عن المجتمع ، وهم أولو الجهاد ،
والصبر والثبات في مواجهة الأعداء ، وتبليغ رسالاتهم السماوية؟.
فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه.
الجهة الثالثة : لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك
المعلومات الّتي تفيضها في حالات تعطّل الحواس ، من ذاتها وصميمها من دون أن
تتلقى شيئاً من خارجها . وإن دعوى ذلك ، باطلٌ ، لا قيمة له في سوق العلوم
النفسية . فإنّ الّذي توصّل إليه علماء النفس قبل « فرويد » وبعده ، هو أنّ
الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف الّتي تردّها عبر القوى والشخصية
الظاهرية ؛ وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها
وتفكرها ، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة ،
فتكمن في زواياها ، وتختبيء بين طوايها ، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية
الظاهرية ، حتى تنبعث من مكامنها ، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه
ولا ميل ، كما عرفتَ في حالات التنويم المغناطيسي ، وكما يقع غالباً في حالات
السهو والغفلة ، من تلفظ الإنسان بما لا يرغب ، أو يتحاشى إظهاره مّما أضمره في
نفسه ، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه. وفي هذا المجال يقول الإمام علي
ـ عليه السَّلام ـ : «ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إِلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات
وجهه»(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- نهج البلاغة : باب قصار الحكم، الحكمة 26.
________________________________________
( 145 )
وعلى ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا ، والشرائع والقوانين
الاجتماعية الّتي جاء بها الأنبياء ، نتاج الشخصية الباطنة ، والضمير المخفي ،
وكيف يكون ذلك ، والمصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو
الشخصية الظاهرية ، وما تأخذه الحواس من خارج الذهن والمحيط والبيئة.
والمحيط الّذي عاش فيه الأنبياء ، وترعرعوا في أحضانه ، في واد آخر من هذه
المعارف والشرائع ، لم يسمع ولم يخبر بها.
فلا يبقى بالنتيجة إلاّ أن يكون لها مصدر ومنبعٌ آخر ، غير ما يدعون.
إنّ هذه المعلومات الّتي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي ، قليلة المواد ،
ضيقة النطاق عن أن تكون مصدراً لوحي مثل القرآن الكريم ؛ فإنّ ما جاء في هذا
الكتاب من الأحكام والمعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا
المعنى.
وأنىّ يكون ليتيم فقير ، نشأ بين الأميين ، ليس عنده كتاب يرشده ، ولا
أُستاذ ينّبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، أن يأتي ولو بمعشار ما في هذا الكتاب من
السنن والنظم والمعارف والعقائد . فلا يبقى إلاّ القول بأنّه فائض من نور الله
الأعظم على رسوله وخاتم أنبيائه محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، كما يقول البوصيري:
الله أكبرُ إِنَّ دينَ محمّد * وكتابَه أَقوى وأَقْومُ قيلا
لا تذكروا الكُتُبَ السوالفَ عنده * طَلَعَ الصباحُ فاطفَأَ القِنديلا(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب ورسالة السماء إلى
الأرض ، الّتي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي ، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول
الوحي بإسهاب ، وأوضحها ، ولم يعلّق عليها شيئاً ، وكانّه بها راض ، ولها مُتَبَنّ!!. وهذا الّذي
وقع منه ، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري ، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، من أنّ الأستاذ
المذكور كان منكراً لمعجزات الأنبياء ، ومضيفاً إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت ، وقد نَقَلَ
عنه هذه العبارات:
«ولد العلم الحديث ، وما زال يجاهد القوى الّتي كانت تساوره ، فتغلب عليها ، ودالت الدولة إليه
في الأرض ، فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه ، فقذف بها جملة في عالم الميتولوجيا (أي
الأساطير). ثمّ بحث في اشتقاق بعضها عن بعض ، واتّصال أساطيرها بعضها ببعض ، فجعل =
________________________________________
( 146 )
ــــــــــــــــــــــــــــ
= ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديساً ، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية الّتي كان يستعبد
لها الإنسان نفسه ، ويقف على صيانتها جهوده ، غير مدّخر في سبيلها روحه وماله.
وقد أتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة ، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ،
ويقتبس من مدنيته المادية ، فوقف فيما وقف على هذه « الميتولوجيا» ، ووجد دينه ماثلاً فيها ، فلم
ينبت بكلمة ؛ لأنّه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله ، ولكنه استبطن الإلحاد ، متيقناً أنّه مصير إخوانه
كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية.
وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتّاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية ، فسحرتهم ، فأخذوا
يهيئون الأذهان لقبولها ، دساً في مقالاتهم وقصائدهم ، غير مصارحين بها غير أمثالهم ، تفاديا من
أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض».
لاحظ موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين : ج 1، ص 24. وفي الكتاب نصوص من
مشاهير أساتذة مصر حول معجزات الأنبياء وخوارق العادات ، وكأنّهم كانوا منكرين لها ، محاولين
توجيهها وتأويلها على نحو يلائم روح العصر بزعمهم . ونحن لا نذكر هنا أسماء أولئك الأساتذة
الذين اتّهمهم صبري بالشذوذ عن الكتاب والسنّة ، ولكن نوصي طلاب الحقيقة بمطالعة هذا
الكتاب بأجزائه الثلاثة حتى يقفوا على كيفية زعزعة العلم الحديث لأركان الأزهر الشريف ،
والضجة الكبيرة الّتي أوجدها في مفكريه حول الغيب المعاجز والوحي والملائكة والجن ، وكل ما لا
يصل إليه الإنسان بأدوات المعرفة المادية!!.
التعلیقات