العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 174 ـ 177
(174)
السؤال الثاني : العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على
من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم ، وقابليات مصححة
لإفاضتها عليهم.
قال الشيخ المفيد : « العصمة تَفَضُّلٌ من الله على من علم أنّه يتمسّك
بعصمته»(2).
وقال السيّد المرتضى : « العصمة لطف الله الّذي يفعله تعالى ، فيختار
العبد عنده الإمتناع عن فعل القبيح»(3).
وفي الآيات القرآنية تلميحات وإشارات إلى ذلك ، مثل:
قوله سبحانه: ( وَ اذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي
وَ الأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَة ذِكْرى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الأَخْيَارِ * وَ اذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ)(4).
وقوله سبحانه: ( وَ لَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَالَمِينَ * وَ آتَيْنَاهُمْ مِنَ
الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُبِينٌ)(5) والضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل.
فإنّ قوله : (إنَّهُمْ لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الاَّخْيارِ)، وقولَه: ( وَلَقدِ اخْتَرناهُمْ
عَلى عِلْم عَلى العالمين)، يدلاّن على أنّ النبوة والعصمة وإعطاء الآيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
2- تصحيح الإعتقاد : ص 61.
3- أمالي المرتضى : ج 1، ص 148.
4- سور ص: الآيات 45 ـ 48.
5- سورة الدخان: الآيتان 32 و 33.
________________________________________
( 175 )
لأصحابها ، من مواهب الله سبحانه للأنبياء ومَنْ يقوم مقامهم من الأوصياء ،
وإذا كانت موهبة منه ، فلا تُعَدّ كمالاً ومفخرة للمعصوم ، فتعود كصفاء اللؤلؤ ،
لا يستحق اللؤلؤ عليه حمداً وتحسيناً ؛ لأنّ الحمد والثناء إنما يصحّان للفعل
الاختياري ، لا لما هو خارج عن الاختيار ، والفرض أنّ المعصوم وغيره في هذا
المجال سواء ؛ لأنّ ذاك الكمال لو أُفيض على فرد آخر غيره لكان مثله.
جوابه
إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في
نفسه ، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات
والقابليات ، فخارج عن موضوع البحث ، غير أنّا نشير إليها إجمالاً.
إنّ القابليات الّتي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين:
قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.
أمّا الأوّل ـ فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق
الوراثة ، فإنّ في ناموس الطبيعة والخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات
الظاهرية والباطنية ، فالشجاع يلد شجاعاً ، والجبان جباناً.
وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عاملاً آخر لتكوُّن تلك القابليات في النفوس
هو عامل التربية ، والأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين
العاملين ، فيكّون ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم ،
ومنها العصمة والنبوة.
وأمّا الثاني ـ فهو عبارة عن المجاهدات الفردية والإجتماعية الّتي يقوم بها
رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم ، من العبادة والرياضات
النفسية إلى مقارعة الطغاة والظالمين(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر إلى ما قام به إبراهيم على صغر سنه ، ويوسف في بيت من تملكه ، وموسى في مصر الفراعنة ،
والمسيح في بني إسرائيل ، والنبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في عامة فترات حياته.
________________________________________
( 176 )
فهذه العوامل الداخل بعضها في الاختيار ، والخارج بعضها الآخر عنه ،
أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم ، فتكون
العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم ، يستحق عليها التحسين والتبجيل.
يقول العلامة الطباطبائي : « إنّ الله سبحانه خَلَقَ بعضَ عباده على استقامة
الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة ، وإدراكات
صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة
النفس ، من نعمة الإخلاص ، ما ناله غيرهم بالإجتهاد والكسب ، بل أعلى
وأرقى ، لطهارة داخلهم من التلّوث بأوساخ الموانع والمزاحمات . والظاهر أنّ
هؤلاء هم الُمخْلَصون (بالفتح) لله في مصطلح القرآن.
وقد نصّ القرآن على أنّ الله اجتباهم أي خلقهم ، قال تعالى:
(وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم)(1)، وقال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(2)»(3).
وما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الاختيار ، ولكنك عرفتَ
أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم ، فاذا انضمت تلك إلى هذه ، تتحقق
الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية.
إجابة أخرى عن السؤال
وهناك إجابة أخرى ، وهي أنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ،
ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم ، وعلم أنّهم ذوات مقدسة لو أُفيضت إليهم تلك
الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار . وهذا العلم
كاف في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدْرجوا في
أكفانهم ، بخلاف مَنْ يعلم مِنْ حاله خلاف ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنعام: الآية 87.
2- سورة الحج: الآية 78.
3- الميزان : ج 11 ص 177.
________________________________________
( 177 )
وهذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد والسيّد المرتضى.
قال الشيخ المفيد : « العصمة تفضُّلٌ من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك
بعصمته»(1).
وقال السيّد المرتضى : « كلُّ من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختارُ عنده
الإمتناع من القبائح ، فإنّه لا بدّ أن يفعل به ، وإن لم يكن نبياً ولا إماماً ؛ لأنّ
التكليف يقتضي فعل اللُّطف على ما دُلّ عليه في مواضع كثيرة ، غير أنّه لا يمتنع أن
يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فُعِلَ اختار عنده الإمتناع من
القبيح ، فيكون هذا المكلَّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف. وتكليف من لا
لطف له يَحْسُنُ ولا يَقْبُحُ ، وإنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف ، مع ثبوت
التكليف»(2).
وحاصل ما أفاد : هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال
الأفراد في المستقبل ، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة
لاختار عنده الإمتناع من القبائح ، فعندئذٍ تفاض عليه العصمة وإن لم يكن نبياً
ولا إماماً . وأمّا من علم أنّه متى افيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الإمتناع عن
القبيح ، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها.
وعلى ضوء ذلك فوصفُ العصمة موهبةٌ إلهية تفاض على من يعلم من حاله
أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ،
وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الّذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم ،
فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق(3).
ويترتب على ما ذكره السيّد عدم انحصار العصمة النبي والوحي المنصوص
عليه ، بل تشمل كلَّ مَنْ علم الله سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- شرح عقائد الصدوق : ص 61.
2- أمالي المرتضى : ج 2، ص 348، طبعة إحياء دار الكتب العربية.
3- لاحظ أوائل المقالات : ص 11.
التعلیقات