التقيّة في الإسلام
محمد السماك
منذ 10 سنواتالتقيّة في الإسلام
أوّل ما يلفت الإنتباه في كتاب د. سامي مكارم هو عنوانه : « التقيّة في الإسلام ».
يطرح هذا العنوان علامات استفهام كبيرة :
أوّلاً : هل إن في الإسلام تقيّة ، أم أنّ التقيّة هي في مذهب دون آخر من مذاهب المسلمين ؟
ثانياً : هل أنّ التقيّة هي سلوك إسلامي مكتسب تحت ضغط ظروف وأوضاع طارئة واستثنائيّة ، أم أنّها في أساس العقيدة يمكن اللجوء إليها في حالة الشدّة أو في حالة اليسر وفي حالة القلق أو في حالة الإطمئنان ؟ ..
بمعنى هل أن ضيق صدر حاكم إسلامي معيّن ، أو مجتمع إسلامي في ظروف معيّنة باجتهادات فقهيّة ما ، دفعت بهذا الفقيه إلى ابتداع التقيّة سلامة لأبدان أتباعه من الأذى ولإيمانهم من الإنتهاك ؟ ..
أم أن التقيّة رافقت الدعوة الإسلاميّة منذ اشراقتها الأولى في مكّة المكرّمة وقبل الهجرة إلى المدينة المنوّرة ، واستمرّت فيها وبعدها ؟ ..
هل أنّ للمؤمن حقّ اللجوء إلى التقيّة حتّى من دون إكراه أو اضطرار ؟ ..
ثالثاً : هل إنّ اللجوء إلى التقيّة يكون خوفاً من أذى الآخر وتجنّباً لشرّه ، أم انّه يكون أيضاً مراعاة لمحدوديّة الفهم عند بعض المؤمنين ، ولعدم قدرتهم على استيعاب حقائق إيمانيّة كبيرة ؟ .. أو يكون خوفاً من إساءة فهم هذه الحقائق وتالياً تحسباً من سوء عاقبة التعامل مع هذه الحقائق على غير ما يقتضي الحال ؟ ..
رابعاً : هل التقيّة إجازة ـ ورخصة ـ من الله للمؤمنين ، أم أنّها مجرّد إجتهاد فقهي إنساني اخذ به هذا العالم المجتهد وأنكره ذاك ؟ ..
خامساً : إذا كانت التقيّة في الإسلام ، كما يقول د. مكارم ، فهل ثمة تقيّة في الأديان الأخرى أيضاً ؟ .. في المسيحيّة واليهوديّة تحديداً ؟..
سادساً : هل أنّنا جميعاً نمارس التقيّة من دون أن ندري ؟ ..
وهل أن انفتاح معرفتنا على هذه الحقيقة ـ التي حاول د. مكارم أن يؤكّدها من خلال استشهاداته الكثيرة بالآيات القرآنيّة الكريمة وبتفاسير أئمّة كبار علماء المسلمين ـ سيغيّر من نظرتنا إلى التقيّة بحيث نتعامل معها على أنّها ركن من أركان فضائلنا الإيمانيّة ؟ .. ومن ثمّ نرفع عن أهلها الشكّ وسوء الفهم ؟ ..
إذا خرجنا من هذا الكتاب بإجابات ايجابيّة على هذه الأسئلة ، فإن الكتاب يكون قد أحدث صدمة في الفكر الإسلامي داخل منظومة الثوابت الإيمانيّة ، ويكون قد فتح آفاقاً جديدة في الإجتهاد الفقهي وحتّى في فقه الإجتهاد ، وهذا حكم جريء في توطئته للكتاب يؤكد د. مكارم على أمرين أساسيين :
الأمر الأوّل : هو أن التقيّة هي من الأسس المهمّة في الإسلام ، وانّ القاعدة الرئيسيّة هي ممارسة التقيّة ، وانّ الفرق الإسلاميّة التي لم تمارسها هي الفرق الشاذّة عن القاعدة ، وهذا يعني أن القاعدة عنده هي ممارسة التقيّة.
أمّا الأمر الثاني : فهو أن للتقيّة شروطاً شرعيّة وأصولاً ومقتضيات أقرتها الشريعة الإسلاميّة ، ولم يقل د. مكارم أقرها الفقه الإسلامي ، وهذا استنباط جريء أيضاً.
لقد كان واضحاً أن د. مكارم اعتمد تعريف ابن حجر العسقلاني للتقيّة. وهو تعريف يقول فيه « إنّها الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير » [ ص 9 ]. وهذا تعريف عام جدّاً ، إلّا أن الأمر المحدّد والمهمّ ، هو أنّ د. مكارم اعتبر أنّ كلمة التقيّة تعني ما تعنيه كلمة تقاة الواردة في الآية الكريمة ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ) [ سورة آل عمران ـ الآية 28 ].
وجاء اعتباره هذا كما قال في [ ص 9 ] أن اللغويين يجمعون على ذلك. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل يجمع على ذلك أيضاً الفقهاء ؟ .. في محاولة غير مباشرة ـ ربّما ـ للإجابة على هذا السؤال قال د. مكارم [ ص 11 ] « يمكننا القول أن الآيتين القرآنيتين اللتين انطلق منهما المفسّرون على العموم عند تناولهم التقيّة في الإسلام هما الآية المذكورة آنفاً والآية التي تقول : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) » [ سورة النحل ـ الآية 106 ].
وقد نزلت هذه الآية في أحد المهاجرين من مكّة إلى المدينة « عمّار » وقع في اسر الكفّار ، فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيّة فخلوا سبيله. ولمّا وصل إلى المدينة وأخبر الرسول (ص) بما حدث قال له رسول الله : « كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت ؟ .. أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا ». قال : « لا ». فنزلت الآية ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ).
ويؤكد د. مكارم [ ص 15 ] « أنّ معظم المفسّرين اقرّوا بصورة مباشرة أم غير مباشرة ، بأن المضطرّ يجوز له التقيّة إمّا قولاً وإمّا فعلاً تيسيرا له من الله لا تعسيراً ، واجتناباً للقتل أو للحرج. وإذا نحن نظرنا إلى جميع الآيات المذكورة آنفاً نرى انّه رُخِّص للمؤمن المطمئن قلبه للإيمان أن يظهر الكفر تقيّة من الكافرين إن هم اكرهوه على ذلك ».
يرى د. مكارم أنّ آراء العلماء اختلفت في شأن التقيّة من حيث جوازها ووجوبها وامتناعها ، ومن حيث أحكامها وشروطها. كما يرى أنّ الآراء تعدّدت وتشعبت في شأن أسباب التقيّة حتّى أنّها تجاوزت الإكراه إلى أسباب أخرى ، « كالرغبة في هداية العدوّ باستدراجه إلى الإيمان واتقاء استعدائه ». وقد نقل عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود انّه لا يرى جواز التقيّة خوفاً على النفس فقط ، بل يراها تجنّباً لأدنى إكراه يلحق بالمسلم [ ص 22 ].
وفي اجتهاد د. مكارم أن مصطلح « التقيّة » أو « التقاة » تعزّز بمصطلحين قرآنيين آخرين هما مصطلحاً « الظاهر » و « الباطن ».
ويقول انّه « مع أن المفسّرين اختلفوا على بعض التفاصيل عند تطرّقهم لهذين المصطلحين اختلافاً كبيراً في بعض الأحيان ، فقد اتّفقوا على أن « الظاهر » هو ما يعلن ، في حين أن « الباطن » هو ما يخفى في القلب ، وان « ظاهر الشيء » هو حرفيّته ، وان « باطن الشيء » هو حقيقته التي لا يصل إليها إلّا أولئك الذين يتوخون الولوج في جواهر المعاني وما ترمي إليه وتشير ، وذلك بتأويلهم النصّ دون الإكتفاء بمعناه الحرفي. وهم يقولون بأن هذا التأويل ، أيّ ما يشير إلى المعنى الأصلي ، لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العالم ، لقوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ سورة آل عمران ـ الآية 7 ] ».
اخت لفّ المفسّرون حول قراءة هذه الآية الكريمة وليس حول نصّها. هل « والراسخون » مبتدأ خبره الجملة الفعليّة ، ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ... ) ، أي أن الوقف في القراءة يجب أن يكون بعد اسم الجلالة ، بحيث تقرأ الآية : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ). ثمّ تتبع البقيّة : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ... ) إلى آخر الآية. وبذلك يقتصر علم التأويل على الله وحده دون ( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ).
أمّا القراءة الثانية فهي تجعل « والراسخون » معطوفة على اسم الجلالة ، أيّ أنّ الوقف في القراءة يكون بعد « والراسخون » معطوفة على اسم الجلالة ، أيّ أنّ الوقف في القراءة يكون بعد « والراسخون » بحيث تقرأ الآية : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ). ثمّ تتبع البقيّة : ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ... ) إلى آخر الآية.
وكذلك يكون الله والراسخون في العلم يعلمون تأويله. أدّت القراءتان المختلفتان لنصّ واحد إلى قيام رأيين متباينين كلّ التباين رأي لا يجيز للناس تأويل القرآن مهما رسخوا في العلم ، فعليهم إذاً أخذ معانيه بظاهرها وعلى حرفيتها ، ورأي يجيز للراسخين في العلم تأويل الكتاب والأخذ بمعانيه الباطنيّة. الدكتور مكارم في كتابه يدافع عن الرأي الثاني ويتبناه.
هنا أريد أن أنتقل إلى كتاب آخر جديد أيضاً ، وان لم يكن في مستوى جدية ورصانة البحث العلمي الراقي والعميق الذي يتسم به كتاب د. مكارم. مؤلّف هذا الكتاب هو جمال بدوي من مصر وعنوانه « الفاطميّة » [ دار الشروق 2004 ] ، ورغم إنّي أشكّ في صحّة ما ذهب إليه ، فقد أردت عرضه لأنّه يعكس وجهة نظر أخرى ليست معاكسة فقط ، ولكنّها سلبيّة أيضاً. يقول المؤلف :
« نشأت الدعوة الفاطميّة ونظمت مبادئها السرية للمرّة الأولى على يد جماعة من الثوريين الملاحدة المجوس الذين تظاهروا بالإسلام وعملوا على غزو العقيدة الإسلاميّة وهدمها ، ونشر المجوسيّة بالتأويلات التي يتأوّل بها دعاتهم على القرآن والسنّة واعتبار أن لكلّ شيء ظاهراً وباطناً ، حتّى القرآن الكريم نفسه ، جعلوا له ظاهراً وباطناً ، أمّا الظاهر : فهو دلالات ألفاظه العربية حقيقة أو مجازاً. وأمّا الباطن فهو ما وراء هذا الظاهر أو هذه الدلالات ، وهذا لا يفهمه ـ في زعمهم ـ إلّا أئمّة المذاهب. وهذا الباطن لا تقيّده دلالات الألفاظ العربيّة ، ومعانيها اللغويّة ، وليس الظاهر إلّا رموزاً وإشارات لا يفهمها العوام ، الذين هم أهل السنّة في نظرهم ، فأهل السنّة بكلّ علمائهم بدءاً من الصحابة الكرام حتّى الآن ـ إنّما هم عوام وجهّال في نظرهم لأنّهم لا يعلمون علمهم الباطن ، وقد أدّت بهم هذه النظرة الباطنيّة إلى تأويل معاني القرآن الكريم تأويلاً غريباً يتناقض ودلالات اللغة العربيّة ».
ثمّ ينقل المؤلّف عن الدكتور عبد المنعم النمر نماذج لهذه التأويلات فمنها ما قالوه في تفسير قوله تعالى في سورة نوح ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [ الآية 10 ] يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا [ الآية 11 ] وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) ، فزعموا ـ وهذا الزعم هو للدكتور النمر ـ أنّ المراد من قوله ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) اسألوه أن يطلعكم على أسرار المذهب الباطني ، ومن قوله ( يُرْسِلِ السَّمَاءَ ) المراد بالسماء « الإمام ». والماء المدرار الإمام « العلم ينبع من الإمام » ، ومن قوله ( يُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ ) الأموال هي « العلم » ، و « البنين » هم « المستجيبون للدعوة » ( وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ) ، « فالجنّات » هي « الدعوة السرية الباطنيّة » ، و « الأنهار » هي العلم الباطني.
إنّ المقارنة بين أسباب التأويل وأهدافه كما وردت في دراسة د. مكارم ، وكما وردت في كتاب جمال بدوي ، تكشف عن هوة معرفيّة عميقة ، لا تزال تعمقها باستمرار معاول الجهل بالآخر والتشكيك به ، ولا تزال الصور النمطيّة السلبيّة عنه التي زرعها هذا الجهل منغرسة في الثقافة العامّة ، ولا تزال تشكل الأساس الذي تبنى عليه الاتّهامات وأحكام الإدانة المسبقة.
من هنا الأهميّة الاستثنائيّة في اعتقادي لكتاب « التقيّة في الإسلام » ، من حيث انّه يوضح الفرق بين المسلم ، أيّ المقرّ بالإسلام إقراراً ظاهراً يقتصر على اللسان ولا يتعدّى القول ، من جهة ، والمؤمن ، أيّ المصدّق بالإسلام تصديقاً لا يقف عند الإقرار الظاهر ، وإنّما يتجاوزه إلى الإيمان الباطن والعمل في سبيل الله ، من جهة أخرى. ومن هنا أيضاً تفسيره لذلك بقوله [ ص 20 ] « إن التقيّة قائمة على رحمة المسلم ، فلا يعطى ما لا يستطيع تحمله من الحقيقة دفعة واحدة ، بل يتعطاها بالتدريج حرصاً على رسوخها في قلبه وتمكنه منها ».
هنا لا بد من الإشارة إلى انّه لا يوجد موقف إسلامي واحد من موضوع « الظاهر والباطن » [ ص 43 ـ 53 ] ، ومن موضوع التقيّة. فهناك من تعامل معها بتساهل كالرازي مثلاً الذي أجازها حتّى دفاعاً عن المال ، وحتّى بين المسلمين أنفسهم وليس فقط بين المسلمين والمشركين. وهناك من تعامل معها بتحفظ كالطبري وابن كثير والبيضاوي. ولأنّ التقيّة لم تكن بالأمر النادر في التاريخ الإسلامي ، فقد ألف أبو بكر بن دريد « كتاب الملاحن » لكي يكون دليلاً للمكرهين على الكفر. فالتقيّة التي تمارس بكتمان الدين وحتّى بإظهار الكفر لا تؤدّي إلى الكفر ، فالقاعدة هي « لا إكراه في الدين ».
والـ « لا » هنا نافية وليست ناهية فقط ، بحيث لا يقتصر المعنى على الدعوة إلى عدم إكراه الناس حتّى يؤمنوا ، ولكنّه يتجاوز ذلك إلى إقرار المبدأ الأساس وهو انّه لا يكون إيمان بالإكراه ، وإذا كان الإيمان ينتفي بالإكراه ، فمن الأولى أن لا يكون كفر بالإكراه.
والرسول عليه السلام يقول : « إن الله تجاوز عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ». وهو الذي قال أيضاً : « من رأى منكم منكراً فيغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، وان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ».
وعلى أساس ذلك رأى حجّة الإسلام الغزالي « وجوب ستر الحقيقة عمّن هو محجوب عن تقبلها ، فلا يُعطى إلّا بقدر التهيؤ المعرفة ».
وقد نقل د. مكارم عن بعض العارفين قولهم : « إفشاء سرّ الربوبيّة كفر » [ ص 55 ]. ويفسّر د. مكارم ذلك بقوله :
« إن إعطاء الحقيقة ، في نظر حجّة الإسلام ، يجب أن يكون في غاية من الحذر ، فإفشاؤها لغير أهلها خطر كبير لا يقل عن خطر منعها عن أهلها ، وذلك تقيّة لصاحب الحقيقة ممّن لا يقدرون على معرفتها ، وتقيّة للحقيقة ممّن ليسوا من أهلها ، وتقيّة لمن ليسوا من أهلها أن يعميهم سطوعها فيصعقوا ».
وما أجمل قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي :
« سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي ، ولا انثر الدر النفيس على الغنم » ؟
ولعلّ البحث الذي أورده د. مكارم « عن قصّة موسى عليه السلام ، والعالِم بما لم يكن موسى النبي على علم به كما وردت في القرآن الكريم » [ ص 61 ـ 72 ] ما يكشف عن الكثير من أسرار الحكمة من وراء كتمان المعرفة عمّن ليس أهلاً لها حتّى ولو كان نبيّاً. ويمكن الرجوع إلى التأويلات الذكيّة والعميقة التي توصل إليها د. مكارم من خلال عرضه لوقائع تلك القصّة المثيرة.
ولكن رغم كلّ التأصيل العلمي والأكاديمي المثبت بالمراجع الشرعيّة والإجتهادات الفقهيّة لمبدأ التقيّة في الإسلام ، فان الدكتور مكارم يرى انّه « بقبول الآخر والإعتراف به تبطل أسباب التقيّة إكراهاً ، إذ يُقضى على الخوف من طغيان الأكثريّة على الأقليّة أو طاغوتها ، فيفسح في المجال أمام الأقليّة أن تعبر عن رأيها دون خوف أو تقاة ».
إن د. مكارم على حقّ عندما يقول إن انكفاء الأقليّة عن المشاركة في الفكر بلجوئها إلى التقيّة سبب في الماضي ويسبّب في الحاضر الشكوك المتبادلة بين أفراد المجتمع ، كما سبب ويسبب ظهور « وحدات » اجتماعيّة متنافرة لا يربطها إلّا روابط واهية قائمة على الخداع الإجتماعي والرياء والتعالي والتكاذب والولاء الطائفي. وهي كلّها صفات توسم المجتمع الإسلامي بالهشاشة والضعف والتفسخ.
أمّا كيف تنتفي حاجة المسلمين إلى أن يكره بعضهم بعضاً على رأي عقائدي أو سياسي فيضطرّ المكرَه إلى مداراة المكرِه تقيّة ، فبالعمل بما دعا إليه القرآن الكريم إلى كلمة سواء ـ أيّ إلى كلمة طيّبة ـ كما يفسّرها د. مكارم. وهو يرى عن حق :
« أن الكلمة السواء تكون ناتجة عن المودة لا عن الكراهيّة ، فتتجاوز اللسان إلى القلب ، فإذا هي تعبير عن الحقيقة التي تغذي الناس ، كلا على قدر ما هو عليه من صحّة دينه وعقله ، وعلى قدر ما هو مهيأ له من الارتقاء في مراقي الإسلام ».
وأود أن اردد معه تأكيده على انّه :
« عندما تعم هذه الثقة المتبادلة بين المسلمين ولا يعود المسلم ، إلى أيّة فرقة أو مذهب انتمى ، يشعر برفض الآخر له وتكفيره إيّاه وبرفضه وتكفيره الآخر ، عندما يصل المسلمون إلى قبول بعضهم بعضاً يصلون بالتالي إلى قبولهم لمواطنيهم اجمع دونما فرق بين منتم إلى دين أو آخر ».
واختم بأنّنا عندما نقول بحوار الحضارات لا تصارعها ، علينا أن نبدأ بأنفسنا ومن داخل عقيدتنا وانطلاقاً من ثوابتها الإيمانيّة.
فالحوار من حيث هو البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر ، يجب أن يكون سبيلنا إلى احترام الإختلاف والمختلف معه والى الإقرار بأن أيّاً منا لا يملك الحقيقة المطلقة وان للمرء إلّا ما سعى ، وانّ الله وحده هو عالم الغيب والشهادة. وهو وحده يحكم بيننا يوم القيامة فيما كنا فيه مختلفين.
المصدر : مؤسسة السبطين العالميّة
التعلیقات