القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 184 ـ 189
(184)
القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
إنّ في الذكر الحكيم آيات تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ
________________________________________
( 185 )
الرسالة بجوانبها المختلفة ، من تلقي الوحي فوعيه وحفظه ، إلى إبلاغه.
* الآية الأولى : قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَىَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط
مُسْتَقِيم)(1).
إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الانبياء ، القضاء بين الناس فيما
اختلفوا فيه. وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق
إلى القاضي بلا تغيير ولا تحريف.
ثمّ إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمَنَ مِنَ الناس إلى الحق بإذنه ، كما هو
صريح قوله: (فَهَدى الله الذينَ آمَنوا لما اخْتَلَفوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِه). والهادي
وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة ، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي
بوساطته ، وتحقق الهداية منه ، فرع كونه واقفاً على الحق بكماله وتمامه ، من دون
تحريف ولا زيادة أو نقصان ، وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي ،
وتحمله ، وإبلاغه إلى الناس.
والحاصل : أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلاً ، ويهدي المؤمنين
إليه ثانياً. وهذا يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه ، ومبلّغاً له على نحو
ما تلقّاه ووعاه.
* الآية الثانية : قوله تعالى: ( وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى)(2).
فالاّية تصرِّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى ، والمراد منه إمّا جميع ما
يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها ، كما هو مقتضى إطلاقها ، أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة البقرة: الآية 213.
2- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
________________________________________
( 186 )
خصوص ما يحكيه عن الله سبحانه. وعلى كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته
وعصمته في مجال تبليغ الرسالة : تلقّي الوحي ، ووعيه ، وإبلاغه.
* الآية الثالثة : قال تعالى:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ
قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً)(1).
وموضع الدلالة من الآية:
أ ـ قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ).
ب ـ قوله: ( مِنْ خَلْفِهِ).
ج ـ قوله : )أَحاطَ بما لَدَيْهِمْ).
فالإمعان في هذه النقاط الثلاث ، يظهر أنّ مشيئة الله تعالى الحكيمة ،
تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه ، وإليك توضيح الدلالة
بتوضيح مفردات الآية.
1 ـ قوله: ( فَلاَ يُظْهِرُ). الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان ، كما
في قوله سبحانه : (وَ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ
بَعْض...)(2).
2 ـ لفظ ( مِنْ ) في قوله: ( مِنْ رَسُول ) ، بيانية ، تبيّن المّرْضيَّ عند
الله ، فالرسول هو الّذي ارتضاه الله تعالى واختاره ليُعَرِّفه على الغيب.
3 ـ الضمير في قوله : (فإِنَّهُ يَسْلُكُ)، يرجع إلى الله تعالى ، كما أنّ
الضمير المستتر في قوله : (يَسْلُكُ)، يرجع إليه سبحانه أيضاً. و( يَسْلُكُ )
بمعنى يجعل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الجن: الآية 26 ـ 28.
2- سورة التحريم: الآية 3.
________________________________________
( 187 )
4 ـ الضمير في قوله : (بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفِهِ)، يرجع إلى الرسول ، والمراد
من الأوّل ما بَيْنه وبين الناس ، وهم المُرْسَل إليهم ، فإنّ النبي يواجه الناس ،
وهم في مواجهته وبين يديه ، كما أنّ المراد من الثاني ، ما بين الرسول ومصدر
الوحي الّذي هو الله سبحانه ، وإنّما عبّر بالخَلْفِ ؛ لأنّ النبي بُعث من الله إلى
الناس ، فالله خَلْفَه ، والناس أمامه بهذا الإعتبار.
5 ـ قوله : (رَصَداً) الرصد هو الحارس الحافظ ، يطلق على الجمع
والمفرد.
والتدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون ومحفوظ من لدن إفاضته من
الله سبحانه ، إلى وصوله إلى الناس ، فإنّها تَعْتَبر الوحي فيضاً متصلاً من المرسِل
(بالكسر) إلى المرسَل إليهم.
إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل ، ومنهم إلى الناس ، بأنّه
محروس بالحَفَظَة يمنعون تطرق أي خلل وانحراف فيه ، حتى يبلغ الناس كما أُنزل
من الله تعالى . ويعلم هذا بوضوح ممّا تذكره الآية أنّ الله سبحانه يجعل بين
الرسول ومن أُرسل إليهم (من بين يده) وبَيْنَهُ ومصدرِ الوحي ( ومن خلفه ) ،
رصداً مراقبين ، هم الملائكة . وليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلاّ
الحفاظ على الوحي من كل تخليط وتشويش ، بالزيادة والنقصان ، الّتي ربما يقع
النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة ، أو معها. فإذا كان الوحي بهذه المثابة
من الحراسة والمصونية في كلا المرحلتين ، أعني المتقدمة ـ وهي من حين الإفاضة
من المرسِل إلى حين البلوغ إلى النبي ـ والمتأخرة ـ وهي إبلاغه إلى الناس ـ كان
كذلك فيما بينهما ، أعني مرحلة الحفظ والوعي ، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو
تدخل الواهمة لتغييره وتبديله. ولولا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى.
ثمّ إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أُخريين:
الأولى، قوله: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغوا رِسالات رَبِّهِمَ)، فإنَّها علّة
لجعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه. والمراد من العلم ، التحقق الخارجي ،
على حدّ قوله سبحانه: (...فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ
________________________________________
( 188 )
الْكَاذِبِينَ)(1)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات الله على ما هي عليه من غير تبديل ولا
تغيير ، وهو ـ أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه ـ يتوقف على جعل الرصد والحفظة
عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ والوعي والإبلاغ.
والثانية ، قوله: ( وأَحَاطَ بما لَدَيْهمْ). فإنّها أيضاً جملة مؤكدة لجعل
الحراسة ، ومعناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي ، فيكون في أمانٍ
من تطرّق التحريف.
وأمّا قوله: ( وأَحصى كُلَّ شيء عددا) ، فَمَسوقٌ لإفادة عموم علمه بكلِّ
شيء ، من غير فرق بَيْنَ الوحي المُلْقى إلى الرسول وغيره.
وخلاصة الكلام : إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال ، المنحدر من معينه ،
ينزل من مصدره ، وهو خزائن علم الله تعالى ، إلى النبي ، ومنه إلى الناس ، من
دون أن يتطرق إليه التحريف والتبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في
النبي ، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير.
قال العلامة الطباطبائي ، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه :
« إنّ الرسول مؤيَّدٌ بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه ، وفي حفظه ، وفي تبليغه إلى
الناس ، مصونٌ من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً ؛ لما مرّ من دلالة الآية على أنّ
ما نزّل الله من دينه على الناس من طريق الوحي ، مصون في جميع مراحله إلى
أن ينتهي إلى الناس . ومن مراحله ، مرحلة أخذ الوحي وحفظه وتبليغه ، والتبليغ
يعمّ القول والفعل ؛ فإنّ في الفعل تبليغاً ، كما في القول . فالرسول معصوم عن
المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ؛ لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض
الدين. فهو معصوم من فعل المعصية ، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي
وحفظه وتبليغه قولاً»(2).
وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة العنكبوت: الآية 3.
2- الميزان في تفسير القرآن : ج 20، ص 133.
________________________________________
( 189 )
والاشتباه فيما يرجع إلى الرسالة والوحي ، لا يرجع إلى ذواتهم وكيانات وجودهم ،
بل إلى عامل أو عوامل ، خارجة عن ذواتهم ، كالملائكة الرَّصّد ، الحافظين لهم
من كل خطأ وزَلَّة ، والآخذين بأيديهم في مظانّ مزالق الألسن والأيدي والأقدام
وسائر الجوارح.
* * *
التعلیقات