القران والعصمة في مجال تطبيق الشريعة والأمور الفردية
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 190 ـ 197
( 192 )
القرآن وعصمة النبي عن الخطأ
تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال تطبيق الشريعة والأمور الفردية من
عدة من الآيات ، نكتفي في القام بالبحث في آيتين منها. ولأجل توضيح دلالتهما ،
نذكر كلا منها ، مع ما يرتبط بها من الآيات.
الآية الأولى : قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)(1).
وقال سبحانه أيضاً:( وَ لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء: الآية 105.
________________________________________
( 193 )
يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(1).
الاستدلال بهاتين الآيتين وإن كان لا يتوقف على معرفة أسباب نزولهما ، إلاّ
أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورَهُما في مفادهما.
إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين وغيرهما ، من أسباب النزول ، متفق
على أنّها نزلت في شكوى رُفعت إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وكان كلٌّ من
المتخاصمين يسعى ليبرء نفسه ويلقي التهمة على الآخر ، لكن كان إلى جانب
أحدهما رجل طليق اللسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم
البري ، ليقضي على خلاف الحق ، فعند ذلك نزلت الآيات ورَفَعَتِ النِّقاب عن
وجه الحقيقة ، وعُرِفَ المُحِقُّ من المُبْطِل(2).
والدقة في فقرات الآية الثانية ، يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم
وعصمته عن السهو والخطأ ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلٌّ منها يشير إلى أمر
خاص.
1 ـ (وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهَ لَهَمَّت طاِئفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وما
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وما يَضُرُّونَكَ من شيء).
2 ـ (وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).
3 - (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ).
4 ـ (وكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً).
وإليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه هذه الآيات ، وكيفية استنتاج العصمة منها.
الفقرة الأُولى تدلّ على أنّ نفس النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال ، أي
من القضاء على خلاف الحق ، وإنّما الصائن له هو الله سبحانه ، فلَوْلا فضلُ الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء: الآية 113.
2- راجع في الوقوف على مجموع ما نقل من أسباب النزول ، تفسير الطبري : ج 5، ص 169.
________________________________________
( 194 )
ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن ، غير أنّ فضله العظيم على
النبي هو الّذي صدّه عن فعل ذلك ، وأبطل أمرهم الّذي كان سيؤدّي إلى
إضلاله.
وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليسا مقصورين على
حال دون حال ، أو وقت دون آخر ، بل هو مشمول لهما ومحاطٌ بهما في جميع لحظات
حياته ، فلن يصيبَه من إضلالهم شيء ، وإنّما يضرّون بذلك أنْفُسَهم ، كما قال عزّ
وجلّ: ( وما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وما يَضُرُّونَكَ من شيء).
والفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه ومدارك قضائه ، وأنّه لا يصدر في
هذا المجال إلاّ التعليم الإلهي.
ولمّا كان هذا النوع من العلم الكلّي أحد ركني القضاء ، وهو لوحده لا يفي
بالقضاء بالحق ، وإنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات ، وهو تشخيص المُحقّ
من المُبطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة ،
فقال: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ). ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف
(وعَلَّمَكَ ..) للمعطوف عليه (وأَنْزَلَ ..) فإذا كان المعطوفُ عليه ناظراً إلى
تمكّنه من الركن الأوّل ـ وهو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب والسنّة ـ
يكون المعطوفُ ناظراً إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح ، وهو العلم بالموضوعات
والجزئيات.
فالعلم بالحكم الشرعي أوّلاً ، وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات
ثانياً ، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق ، من دون أن يجنح إلى
جانب الباطل ، أو يسقط في هوّة الضلال . والفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأوّل ،
والثانية إلى الثاني.
ومجمل ما تقدم أنّ الآية الأُولى تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب ،
القضاء بين الناس بما أراه الله سبحانه ، ولا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمراً
خاطئاً بل هو صواب على الإطلاق ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر إنّ القضاء بالحق ـ الّذي هو الغاية المتوخاة من إنزال
________________________________________
( 195 )
الكتاب ـ تتوقف على العلم بالكبريات والصغريات ، وهو ما أشارت إلى تحققه في
النبي ، الفَقرتان الثانية والثالثة من الآية الثانية.
قال العلامة الطباطبائي : «المراد من قوله سبحانه: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمْ)، ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث
الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب
والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص»(1).
فَيْنِتجُ كلُّ ذلك أنّ النبي ـ لأجل عميم فضله سبحانه ـ مصون في مقام
القضاء عن الخطأ والسهو.
ولمّا كان هنا موضع توهّم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختصّ بمورد دون مورد ،
دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة وقال: ( وكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً) حتى لا
يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل سعة
شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات أم من الأمور
العادية الشخصية.
ولا كلام أعلى وأغزر عاطفة من قوله سبحانه في حق حبيبه: ( وكان فَضْلُ
الله عَلَيْكَ عَظِيماً).
الآية الثانية : قال سبحانه: ( وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(2).
إنّ الشهادة الواردة في الآية ، من الحقائق القُرآنية الّتي تكرر ورودها في
الذكر الحكيم.
قال تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَ جِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ
شَهِيدًا)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الميزان : ج 5، ص 81.
2- سورة البقرة: الآية 143.
3- سورة النساء: الآية 41.
________________________________________
( 196 )
وقال تعالى : (وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاَ
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(1).
وقال تعالى : (وَ وُضِعَ الْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاءِ...)(2).
وهذه الشهادة يتحملها الشهداء في الدنيا ويُؤدُّونها في الآخرة ، ويدلّ على
ذلك:
قوله سبحانه: ( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ
أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيد)(3).
وقوله سبحانه : (وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(4).
فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في كلّ أُمَّة شهداء على أعممالها ، وأنّ
الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على رأسهم ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، إنّ الشهادة هنا ليست على صور الأعمال والأفعال ، فإنّها
غير كافية في القضاء الأُخروي ، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأُمة : الإيمان
والكفر والنفاق ، والرياء والإخلاص... ومن المعلوم أنّ هذه المشهودات لا
يمكن تشخيصها والشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس ؛ لأنّها لا يمكنها أن
تستكشف حقائق الأعمال ، وما يستبطنه الإنسان . فيجب أن يكون الأنبياء
مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يُدْرَك بالبصر ولا بسائر
الحواس ، وهذا هو الّذي نسميه بحبل العصمة ، وكلُّ ذلك بأمر من الله سبحانه
وإِذْنِه ، والمُجَهَّز بهذا الحسّ لا يخطئ ولا يسهو.
وإن شئت قلت : إنّ الشهادة هنا لو كانت خاطئة ، للزم عقاب المطيع أو
إثابة المجرم ، وهو قبيح عقلاً ، لا سيما الأوّل ، فيجب أن تكون شهادة الشاهد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النحل: الآية 84.
2- سورة الزمر: الآية 69.
3- سورة المائدة: الآية 117.
4- سورة النساء: الآية 159.
________________________________________
( 197 )
مصونة عن الخطأ والإشتباه حتى تكون منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح.
وهذه الآيات ، وإن كانت لا تثبت إلاّ مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة ، ولكن
التفصيل غير موجود في كلمات القوم.
تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء ـ بحكم العقل والكتاب ـ مصونون عن الخطأ
والزلل في تطبيق الشريعة ، أوّلاً ، وجميع أَمورهم الفردية والإجتماعية ، ثانياً.
* * *
التعلیقات