أدلة المجوزين للخطأ على الأنبياء
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 197 ـ 199
(197)
أدلة المجوزين للخطأ على الأنبياء
جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ والإشتباه على الإنبياء ، واستندوا في ذلك
إلى آيات ، غفلوا عن أهدافها. ونحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها.
1 ـ قال سبحانه: ( وَ إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(1).
فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فالنتيجة أنّ
النبي ربما يطرأ عليه النسيان ، وهو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ.
إلاّ أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية وزان كثير من الآيات الاُخر الّتي يخاطب
فيها النبي ، ولكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأُمة.
ومن هذا القبيل ، قوله سبحانه: ( وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(2). فإنّ هذه الآية
ـ ونظائرها ـ تركّز على الجانب التربوي من الشريعة ، والغاية منها تعريف الناس
بوظيفتهم وتكليفهم تجاه الباري سبحانه ، ببيان أنّ نبي الأُمة إذا كان محكوماً بهذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنعام: الآية 68.
2- سورة الزمر: الآية 65.
________________________________________
( 198 )
التكاليف ومخاطَباً بها ، فغيره أولى بأن يكون محكوماً بها . وهذه الآيات تجري
مجرى قول القائل : « إيّاك أَعني واسْمَعي يا جارة».
فالمراد من الآية المستدلّ بها هو حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في
المجالس الّتي يخاض فيها في آيات الله سبحانه. فالنهي عن الخوض تكليفٌ عام
يشترك فيه النبي وغيره ، وكون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمة.
ويدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء: ( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إ
ِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيث غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً)(1).
فإنّ هذه الآية مدنية ، والآية المستدلّ بها مكية ، وإذا قورنت إحداهما
بالأخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين ، وأنّ الخطاب فيه
وإن كان للنبي ، إلاّ أنّ المقصود إنشاءُ حُكْم كلّيٍّ شامل لجميع المكلَّفين من غير
فرق بين النبي وغيره . ومع ما ذكرناه ، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان
من النبي ؛ لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصاً بالنبي لا يتعداه.
2 ـ قال سبحانه: ( وَ لاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ
وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً)(2).
المراد من النسيان الإستثناء، وهو قول ( إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) . والآية
استدلالاً وجواباً ـ كسابقتها.
3 ـ قال سبحانه: ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ
وَ مَا يَخْفَى)(3).
ومعنى الآية : إنّا سنجعلك قارئاً بإلهامِكَ القِراءة ، فلا تنس ما تَقْرؤه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء: الآية 140.
2- سورة الكهف: الآيتان 23 و 24.
3- سورة الأعلى: الآيتان 6 و 7.
________________________________________
( 199 )
استدلّت المخطئة بالإستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان ، غير أنّهم
غفلوا عن نكتة الإستثناء ، وهي عين النكتة في الإستثناء الوارد في قوله تعالى:
(وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأَرْضُ إِلاَّ مَا
شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ)(1).
إنّ قوله سبحانه: (عطاءً غيرَ مجذوذ)، يَدُلُّ على أنّ الخلود في الجنة لا
يقطع ولا يُجَزّ ، بل هو عطاءٌ موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية ، ومع ذلك
استثنى سبحانه الخلود بقوله: (إِلاَّ ما شاء). وليس ذلك لأنّ الخلود يُقطع ،
بل للإشارة إلى أنّ قدرة الله سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعدُ ، فالله سبحانه
ـ مع كونهم مخلَّدين في الجنة ـ قادر على إخراجهم منها.
وعلى ما ذكرنا يعلم وجه الإستثناء في الآية الّتي وقعت مورد الإستدلال ،
فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وأنّ عطية الله (جَعْل النبي قارئاً لا
ينسى) لا تسلب القدرة عن الله سبحانه على إنسائه ، بل هو عليه قادر متى شاء ،
وإن كان لا يشاء ذلك.
وبدراسة هذه الآيات الّتي قدمناها ، تقف على تحليل كثير من الآيات الّتي
نُسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء ، مثل قوله سبحانه:
أ ـ (وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(2).
ب ـ (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا...)(3) الوارد في موسى وفتاه.
ج ـ (...لاَ تُؤَاخِذْني بِمَا نَسِيتُ...)(4) وهو قول موسى للخضر.
وغير ذلك من الآيات(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة هود: الآية 108.
2- سورة طه: الآية 115.
3- سورة الكهف: الآية 61.
4- سورة الكهف: الآية 73.
5- قد أجمل الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ الكلام هنا في هذه الآيات ، فنحن نستدرك البحث فيها بما يرفع الستار
عن وجهها ، ونجعله في ملحق خاص آخر الكتاب..
التعلیقات