ما تبقى من روايات النسخ
المصدر : زواج المتعة ، تأليف : السيّد جعفر مرتضى الحسيني العاملي ، ج1 ، ص 377 ـ 406
________________________________________ الصفحة 377 ________________________________________
الفصل الرابع
ما تبقى من روايات النسخ
________________________________________ الصفحة 378 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 379 ________________________________________
النسخ عام أوطاس:
وأما بالنسبة لرواية النسخ عام أوطاس، فنقول: إن ذلك لا يصح، وذلك للأمور التالية:
أولاً:
هو خبر واحد، لا يصلح لنسخ حكم ثابت بالقرآن والسنة المتواترة.
ثانياً:
هو معارض بروايات النسخ في خيبر والفتح، وغير ذلك مما دل على التحريم المؤبد، وقد أشار الزرقاني إلى ذلك أيضاً(1).
ثالثاً:
هو معارض بأكثر من مائة رواية، عشرات منها صحاح تدل على بقاء هذا التشريع وعدم نسخه أصلاً.
رابعاً:
إذا كان التحريم عام أوطاس أمام جيش يعد
____________
(1) شرح الموطأ للزرقاني ج 3 ص 153.
________________________________________ الصفحة 380 ________________________________________
بالألوف الكثيرة، لأن جيش حنين كـان يقارب الاثني عشر ألفاً ـ كما يقولون ـ فلماذا لم ينقل ذلك سوى ابن الأكوع وجابر، مع كون المسألة موضع ابتلاء، ومما تتوفر الدواعي على نقلها.
خامساً:
إن من القريب جداً تعرّض هذه الرواية للتحريف، فقد روي هذا الخبر عن سلمة بن الأكوع وجابر في مصادر كثيرة. ولم يذكر فيها عبارة «ثم نهى عنها». بل ذكر الإذن بالمتعة فقط، فلتراجع الرواية في مصادرها(1).
وذلك يجعلنا نحتمل أن تكون عبارة «ثم نهى عنها» من زيادات الرواة تبرعاً منهم ببيان ما جرى حسب اعتقادهم.
رخص تدل على قصر المدة:
وادعى البعض: «أن كلمة [رخص] بنفسها تدل على أن الحكم مدته لا تطول»(2).
____________
(1) راجع فصل: النسخ بالأخبار، تحت عنوان: من روايات التشريع في صدر الإسلام، الحديث الأول والثاني.
(2) نكاح المتعة للأهدل ص350.
________________________________________ الصفحة 381 ________________________________________
ونقول:
إنه قد جاء التعبير بكلمة [رخص] في موارد كثيرة جداً من موارد الإباحة، فهل يصح القول بأن جميع تلك الموارد قد عادت إلى التحريم بعد مدة يسيرة؟!
فراجع: المعجم المفهرس لألفاظ السنة النبوية مادة «رخص» تجد صحة هذا القول.
النسخ عام أوطاس، أو عام الفتح:
هذا.. وقد ادعى البعض: أن روايات التحريم عام أوطاس، لا تنافي روايات التحريم عام الفتح لاتصالهما(1) لأن غزوة أوطاس كانت بعد غزوة الفتح بيسير، وهما في عام واحد،
____________
(1) راجع: الجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 130 و ج 12 ص 106 وأوجز المسالك ج 9 ص 406 و 407 وبجيرمي على الخطيب ج 3 ص 226 ومرقاة المفاتيح ج 3 ص 422 وراجع: التمهيد ج 9 ص 99 وفتح الملك المعبود ج 3 ص 226 والبناية ج 4 ص 101 وفتح الباري ج 9 ص 147 و 146 عن النووي وعون المعبود ج 6 ص 82 وشرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 و181و182 والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج 9 ص 458وسبل السلام شرح بلوغ المرام ج 3 ص 266 وشرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 193 وتحفة المحتاج ج 7 ص 224 وزاد المعاد ج 2 ص 142 والبداية والنهاية ج 4 ص 46 و ص 193 وراجع: الفواكه الدواني ج 5 ص 33 والهداية في شرح البداية ج 6 ص 510 ونيل الأوطار ج 6 ص 272. وقال ابن خويز منداد وغيره: وإليه أشار ابن العربي. وراجع: المنتقى ج 2 هامش 519.
________________________________________ الصفحة 382 ________________________________________
لا سيما بملاحظة: أن رواية أوطاس كرواية سبرة بن معبد، تصرح بأن الإذن كان لثلاثة أيام فقط.
وحيث إنه لم يثبت الإذن بالمتعة بعد غزوة أوطاس، فيثبت التحريم إلى الأبد.
فإن زعم زاعم:
أن رواية النهي في أوطاس، يمكن قراءة كلمة «نهي» بصيغة المجهول.. ويكون الناهي هو عمر بن الخطاب.
فالجواب:
أن المحفوظ عندنا «نهى» وقد جاءت بفتح الهاء، بل في كتاب بعضهم «نها» بالألف.
وحتى لو كانت بالبناء للمفعول؛ فيحتمل أن يكون الناهي هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويحتمل عمر. ورواية سبرة قد أوضحت: أن الناهي هو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتكون أولى من الرواية التي أبهمت ذلك، انتهى كلام ذلك البعض ملخصاً(1).
____________
(1) راجع: السنن الكبرى ج 7 ص 204 ونصب الراية ج 3 ص 177 وفتح الباري ج 9 ص 149 وراجع ص 146 وذكر الزرقاني في شرح الموطأ ج 4 ص 46 شطراً من ذلك أيضاً.
________________________________________ الصفحة 383 ________________________________________
ونقول:
إن ذلك لا يمكن قبوله، وذلك للأمور التالية:
1 ـ لا اتصال بين الفتح و أوطاس:
قال العسقلاني: «فيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان، ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم: أنهم «لم يخرجوا من مكة حتى حرمت»، وفي نص آخر: «إلى يوم القيامة»(1).
2 ـ الفتح هو الأشهر والأذكر:
أما بالنسبة لكون أوطاس والفتح في عام واحد، فيصح التعبير بهذا تارة، وبذاك أخرى، لأن الغرض هو الإشارة إلى عام الحدث، لا إلى مناسبته ومكانه، وهو فتح مكة، ومكة نفسها، فإننا نقول:
إن ذلك لا يصح، لأن بعض روايات التحريم في يوم الفتح ـ كرواية مسلم وغيره ـ قد صرحت بأنهم لم يخرجوا من مكة
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 146.
________________________________________ الصفحة 384 ________________________________________
حتى حرمت، وأنه (صلى الله عليه وآله) قال: إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة(1).
وليس لأوطاس أهمية فتح مكة، فالعدول عن التعبير بفتح مكة، رغم أن الحدث قد كان في مكة. وفي نفس عام الفتح، ليس له ما يبرره. ولم نرهم قد عدلوا إلى هذا التعبير في مناسبات أخرى، مما وقع فيه الحدث في مكة، وفي مناسبة الفتح بالذات!!.
3 ـ اتحاد رواية سلمة وسبرة لا يصح:
قولهم: إن رواية سلمة بن الأكوع بالإذن، والتحريم في أوطاس، تشبه رواية سبرة، من حيث إنها ذكرت: أن الإذن بالمتعة كان ثلاثة أيام، فتكونان رواية واحدة.. لا يصح..
لأن هذا لا يكفي لاستكشاف الوحدة المزعومة، بل تكونان متعارضتين من حيث الزمان والمكان، فإن الفتح كان في العشرين من شهر رمضان، وغزوة أوطاس كانت في شوال بعد الفتح بشهر، فكيف أحلها النبي (صلى الله عليه وآله) في
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 146، ونصب الراية ج 3 ص 177 و 178.
________________________________________ الصفحة 385 ________________________________________
العشرين من شهر رمضان، ثم حرمها إلى يوم القيامة، ثم أحلها في العشرين من شهر شوال، ثم حرمها، إذا كان لم يحرمها إلا مرة واحدة؟! لا سيما وأن بعض روايات سبرة قد ذكرت أيضاً: أن التحليل كان يوماً واحداً فقط، حسبما رواه البيهقي(1).
4 ـ الإذن بالمتعة ثابت بعد أوطاس:
أما بالنسبة إلى قول الزرقاني وغيره: يبعد أن يقع الإذن في أوطاس بعد التصريح قبلها في الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة.
وقول البيهقي وغيره: لم يثبت الإذن فيها بعد غزوة أوطاس.
نقول:
أولاً:
إن البيهقي نفسه قد روى قبل أسطر من كلامه المتقدم عن سبرة: أنها حرمت في حجة الوداع بعد أن أحلت
____________
(1) شرح الموطأ ج 4 ص 46 ونيل الأوطار ج 6 ص 273 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 9 ص 184 وفتح الملك المعبود ج 3 ص 226.
________________________________________ الصفحة 386 ________________________________________
ثلاثة أيام، وهي إنما كانت في آواخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله).
ثانياً:
سيأتي في فصل النصوص والآثار الكثير من الروايات الصحيحة المصّرحة بأنها كانت حلالاً على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وعهد أبي بكر، وشطراً من خلافة عمر، وقد تقدم أن ابن القيم قال: «قالوا: لو صح لم تفعل على عهد الصديق، وهو عهد خلافة النبوة حقاً»(1).
5 ـ لا ترجيح لرواية سبرة:
قولهم: إن روايات سبرة الموضحة لزمن النهي أولى بالإعتبار.
أيضاً، في غير محله، لأن رواية سبرة فيها الكثير من العلل، والعاهات، حسبما أشرنا إليه فيما تقدم.
كما أنها غير قادرة على مقاومة عشرات الروايات الصحيحة التي تعارضها، فضلاً عن غيرها مما دل على أن حلية هذا الزواج قد استمرت إلى زمن عمر، بل إلى ما بعده أيضاً، كما سنرى.
____________
(1) زاد المعاد ج 3 ص 184.
________________________________________ الصفحة 387 ________________________________________
النسخ في عمرة القضاء:
إن كثيراً من المؤاخذات التي ذكرناها فيما تقدم ترد على رواية نسخ زواج المتعة في عمرة القضاء، وتضعفها، ولأجل ذلك فنحن نقتصر هنا على ما يلي:
أولاً:
قد اعتبر السهيلي القول بنسخ المتعة في عمرة القضاء من الأمور الغريبة(1).
وقال غيره أيضاً: «من قال عمرة القضاء فواهم بلا شك»(2).
ثانياً:
إن هذا القول ما هو إلا رواية مرسلة عن الحسن البصري، «ومراسيله ضعيفة، لأنه كان يأخذ عن كل أحد»(3).
ثالثاً:
إنها معارضة بروايات النسخ يوم خيبر والفتح، وتبوك، وإلخ..
وقد قال النووي: ترده الأحاديث الثابتة في تحريمها يوم
____________
(1) راجع: نصب الراية ج 3 ص 179 والروض الأنف ج 4 ص 59 وفتح الباري ج9 ص 145.
(2) الهداية في شرح البداية ج 6 ص 510.
(3) شرح الزرقاني على موطأ مالك ج 3 ص 153 ونيل الأوطار ج 6 ص 273. وعن فتح الباري ج9 ص75. وراجع: تهذيب التهذيب ج2 ص266.
________________________________________ الصفحة 388 ________________________________________
خيبر(1).
ورد الشوكاني على ذلك بقوله: «.. وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر، لأنهما كانا في سنة واحدة»(2).
ونقول في الجواب:
أ ـ إن هذا محض تخرص من الشوكاني، ليس له شاهد ولا دليل، وإنما يؤخذ بدلالات الكلام، لا بالاقتراحات، والافتراضات، والحدسيات..
ب ـ إن غزوة خيبر هي الحدث الأهم في تلك السنة، فلماذا يترك التعبير بكلمة خيبر عن أمر قد وقع فيها إلى تعابير أخرى، ليس لها مدخلية في هذا الأمر، ولا علاقة لها به..
ج ـ لماذا جاءت تعابيرهم عن المتعة على هذا النحو.. ولم ير ذلك في أي من الأحداث الأخرى التي وقعت في خيبر.
رابعاً:
قال العسقلاني: «أما عمرة القضاء، فلا يصح الأثر فيها»(3).
____________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 263.
(2) راجع: شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 181.
(3) فتح الباري ج 9 ص 146.
________________________________________ الصفحة 389 ________________________________________
النسخ في حجة الوداع:
وقد روي: أن النسخ كان في حجة الوداع، عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن سبرة بن معبد(1).
لكن ذلك لا يصح، ولا تثبت به حجة، وذلك لأمور عديدة عرفنا فيما سبق شطراً منها، ونذكر منها هنا ما يلي:
1 ـ قال القرطبي: «أما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي (صلى الله عليه وآله) لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها، وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وذكر أن ذلك كان في فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها»(2).
2 ـ وقالوا أيضاً: إن من الخطأ، بل من المحال أن يشكو الناس إليه العزبة في حجة الوداع لأنهم كانوا قد حجّوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم. ولم يكونوا حينئذٍ كما كانوا في
____________
(1) راجع: فصل النسخ بالأخبار تحت عنوان: روايات نسخ المتعة، الحديث رقم1 ورقم4.
(2) الجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 131 و 132.
________________________________________ الصفحة 390 ________________________________________
الغزوات المتقدمة..(1).
3 ـ هو خبر واحد لا يصح نسخ الكتاب والسنة القطعية المتواترة به.
4 ـ إن ما رووه عن علي (عليه السلام) هنا يتعارض ويتنافى مع ما رووه عنه من النسخ في خيبر. ويتنافى ويتناقض مع ما رووه عنه من إصراره على بقاء هذا التشريع إلى يوم القيامة، حتى لقد قال: «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي..».
وهو قول مشهور عنه (صلوات الله وسلامه عليه).
وما رووه عن سبرة يتعارض مع روايته نسخ هذا التشريع في يوم الفتح.. حيث صرح فيه بالتحريم المؤبد.
5 ـ وقالوا: «تفرد عبد العزيز بذكر حجة الوداع يتعين توهيمه، وتوهيم المتفرد المخالف وإن كان ثقة، فكيف وقد تقرر أنه صدوق يخطىء.. ورواية عبد العزيز نقدها الحفاظ ووهموه
____________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180، وأوجز المسالك ج 9 ص 407 والجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 131 وفتح الباري ج 9 ص 148 وراجع: شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 46.
________________________________________ الصفحة 391 ________________________________________
فيها الخ..»(1).
6 ـ وقال ابن قيم الجوزية عن التحريم في حجة الوداع: «وهو وهم من بعض الرواة سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ إلخ..»(2).
7 ـ وقال المحمدي عن رواية ابي داود، من طريق اسماعيل بن أمية، عن الزهري، عن الربيع، أن النهي كان في حجة الوداع، قال: «.. قد تفرد بها إسماعيل، وهي شاذة»(3).
تمحلات وتوجيهات لا تصح:
وقد حاول القرطبي، توجيه روايات النسخ في حجة الوداع بقوله:
____________
(1) تحريم المتعة للمحمدي ص 167 عن الأهدل ص 155.
(2) زاد المعاد ج 1 ص 183 وراجع: المنتقى ج 2 ص 217 والهداية في تخريج أحاديث البداية ج 6 ص 510 و 509 والاعتصام بحبل الله المتين ج 3 ص304.
(3) تحريم المتعة ص 167.
________________________________________ الصفحة 392 ________________________________________
«ويحتمل: أنه لما كانت عادة النبي (صلى الله عليه وآله) تكرير مثل هذا في مغازيه، وفي المواضع الجامعة ذكر تحريمها في حجة الوداع، لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعي تحليلها..
ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيراً»(1).
ونقول:
إن هذه الاحتمالات في غير محلها، وذلك لما يلي:
1 ـ إنه قد ادعى: أن من عادة النبي (صلى الله عليه وآله) تكرير مثل هذا في مغازيه.. ونحن نطالبه بإثبات أن هذا كان من عادته (صلى الله عليه وآله).
2 ـ إن مضمون هذه الرواية منسجم ومتوافق مع مضمون رواية سبرة في يوم الفتح الأمر الذي يدل على وجود إذن فعلي في حجة الوداع بالمتعة..
3 ـ إن ما فعله لم ينفع في رفع شبهة من يدعي تحليلها من الصحابة، فإنهم كثيرون كما سيأتي إن شاء الله تعالى..
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 131 و 132 وراجع: نيل الأوطار ج 6 ص 274. وراجع شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 و 181 وأوجز المسالك ج 9 ص 407 وفتح الباري ج 9 ص 148.
________________________________________ الصفحة 393 ________________________________________
4 ـ ما هو الدليل على أن أهل مكة كانوا يستعملون المتعة كثيراً آنئذ.
5 ـ لو صح أن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيراً لدل ذلك على أنها كانت حلالاً في حال الحضر والسفر على حدّ سواء، وهم يدعون أن تحليلها كان في السفر والغزو لأجل الضرورة..
نسخ الجواز حتى في السفر في تبوك:
وقد تقدم أنهم يقولون: إن النهي عن زواج المتعة إنما كان في تبوك، كما عن جابر، وأبي هريرة، وعلي (1).
وقد قال العسقلاني: «الحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر، لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر، مع أنه كان سفراً بعيداً، والمشقة فيه شديدة كما صرّح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإباحة وهي الحاجة الشديدة، انتهت من بعد فتح خيبر، وما بعدها»(2).
____________
(1) راجع فصل النسخ بالاخبار.. تحت عنوان روايات نسخ المتعة الحديث رقم 1 و6 و7.
(2) فتح الباري ج 9 ص 147.
________________________________________ الصفحة 394 ________________________________________
ثم زاد على ذلك قوله: إنه: «لما فتحت خيبر وسع عليهم من المال والسبي، فناسب النهي عن المتعة، لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك في تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق.
أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك، لأنها بقرب المدينة، فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة، وهي غزوة الفتح، وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة لكن مقيدة بثلاثة أيام فقط، دفعاً للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة.
وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن»(1).
ونقول:
إننا نسجل عليه المؤاخذات التالية:
1 ـ لا ندري كيف انتهت علة الإباحة، وهي الحاجة
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 148.
________________________________________ الصفحة 395 ________________________________________
الشديدة، بعد فتح خيبر، ولماذا لم تنته قبل ذلك في حرب بدر مثلاً، أو بعد ذلك في فتح مكة مثلاً. أو ما بين هذه وتلك.
وهل صحيح: أنه لم تعد ثمة حاجة شديدة إلى هذا الزواج؟!.
2 ـ إذا كانت العلة، وهي الحاجة قد انتهت في فتح خيبر، فلماذا أذن لهم بالاستمتاع بعدها في فتح مكة، أو في أوطاس، أو حنين أو في تبوك أيضاً أو.. الخ..
3 ـ لا ندري من أين عرف العسقلاني وغيره: أن جواز المتعة كان مقيداً بالسفر..
4 ـ ولا ندري من أين علم هؤلاء، أيضاً أن علة الإباحة هي الحاجة الشديدة..
5 ـ إذا كان الله عز وجل قد وسع على المسلمين في خيبر بالسبي والمال، فحرمت، فلماذا عاد إلى تحليلها وتحريمها يوم الفتح.
6 ـ إذا كانت إنما تحرم في المغازي التي يكون في المسافة إليها بُعد ومشقة، فلماذا أبيحت قبل الشروع في غزوة تبوك ثم حرمت بمجرد الشروع فيها، مع أنها كانت أبعد الغزوات وأشقها..
________________________________________ الصفحة 396 ________________________________________
7 ـ إننا لا نحتاج إلى التأكيد كثيراً على أن جابراً هو الذي يؤكد على التزام الصحابة بالعمل بالمتعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، وأبي بكر، وشطر من خلافة عمر.. فكيف يروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد حرمها في تبوك..
8 ـ وهكذا الحال بالنسبة لما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه لم يكن في ذلك السفر.
كما أنه هو الذي يقول كما سيأتي لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي..
وهو الذي تزوج امرأة من بني نهشل في الكوفة متعة.
9 ـ إن رواية أبي هريرة حتى لو كانت معها أيضاً رواية جابر، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، تبقى ـ حسب قواعد هؤلاء القوم ـ خبر واحد لا يصح النسخ به لحكم ثبت بالكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
10 ـ أضف إلى ذلك أنها تتعارض مع روايات النسخ في سائر المواضع كخيبر، وحجة الوداع وحنين، وغيرها مما دل على تأبيد التحريم.
________________________________________ الصفحة 397 ________________________________________
11 ـ استغرب السهيلي هذا القول، حيث قال: «قد اختلف في تحريم نكاح المتعة، أغرب ما روي في ذلك رواية من قال: إن ذلك كان في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن: إن ذلك كان في عمرة القضاء»(1).
كما أن الزرقاني قد ضعفه، فقال: «ثم تبوك.. وهو ضعيف، لأنه من رواية المؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار، وفي كل منهما مقال»(2).
12 ـ قال النووي: «وذكر غير مسلم عن علي: أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عنها في تبوك، من رواية إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبد الله بن محمد بن علي، عن أبيه، عن علي. ولم يتابعه أحد على هذا. وهو غلط منه»(3).
ضعف حديث جابر في المتعة في تبوك:
وبالنسبة لحديث جابر الذي يدعي أن تحريم المتعة قد
____________
(1) الروض الأنف ج 2 ص 59 ونصب الراية ج 3 ص 179 وفتح الباري ج 9 ص145.
(2) شرح الزرقاني على موطأ مالك ج 4 ص 46. وعن فتح الباري ج9 ص74.
(3) تحريم المتعة للمحمدي ص169 عن شرح صحيح مسلم للنووي ج9 ص 180.
________________________________________ الصفحة 398 ________________________________________
كان في غزوة تبوك.
نقول:
1 ـ إنه لا شك في ضعف سنده كما اعترفوا به(1).
2 ـ وقالوا أيضاً: إنه معارض بما صح عن جابر: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله، وأبي بكر، حتى نهى عمر في شأن عمرو بن حريث»(2).
فهذا الحديث يدل على أن جابراً يرى أن النسخ لم يحصل حتى في عهد أبي بكر.
وحديثه في غزوة تبوك يدل على أن النسخ قد حصل في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولذلك قال ـ كما رواه الحازمي ـ ولا نعود لها أبداً(3).
تذكير لابد منه:
وبعد أن اتضح: أن النسخ في تبوك لا يصح، يصبح
____________
(1) راجع: تحريم نكاح المتعة للأهدل ص181 و182 وفي هامشه عن ابن حجر في تلخيص الحبير 2/1/155 وعن فتح الباري ج9 ص170 وراجع مجمع الزوائد ج4 ص264.
(2) قد ذكرنا هذا الحديث في فصل: النصوص والآثار في مصادر أهل السنة.
(3) الاعتبار ص140.
________________________________________ الصفحة 399 ________________________________________
واضحاً أيضاً عدم صحة ما زعموه من أن تسمية ثنية الوداع بهذا الاسم إنما هو لأنهم ودعوا فيها النساء المستمتع بهن في غزوة تبوك، بسبب نسخ تشريع المتعة(1)، نعم إن ذلك لا يصح، لأن النسخ في تبوك لم يقع بل هو لم يقع على الإطلاق.
تذكير آخر:
لقد وضع بعضهم جدولاً لأحاديث النسخ ورواتها.. واعتبر أن:
1 ـ حديث النسخ يوم خيبر في محرم سنة سبع عن علي (عليه السلام) صحيح.
2 ـ وكذا حديث سبرة عن النسخ يوم الفتح في رمضان سنة 8.
3 ـ ومثلهما حديث سلمة بن الأكوع عن النسخ يوم أوطاس في محرم السنة الثامنة..
ونقول:
وقد عرفت أنها كلها لا تصح.
ثم اعتبر أن الأحاديث الضعيفة هي:
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 146.
________________________________________ الصفحة 400 ________________________________________
1 ـ ما روي عن الحسن البصري من أن النسخ في سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة.
2 ـ حديث علي (عليه السلام) عن النسخ يوم حنين سنة8.
3 ـ حديث علي (عليه السلام) عن النسخ في تبوك في شهر رجب سنة 9.
4 ـ حديث أبي هريرة عن النسخ أيضاً بدون تحديد.
5 ـ وكذا حديث جابر بن عبد الله عن النسخ في ثنية الركاب.
6 ـ حديث جابر عن النسخ في تبوك عند العقبة مما يلي الشام.
7 ـ حديث سبرة بن معبد عن النسخ في حجة الوداع (1).
إذن فهذه هي أحاديثهم وهذه حالها، فكيف يمكن إثبات النسخ بها؟.
____________
(1) راجع: تحريم المتعة للمحمدي.
________________________________________ الصفحة 401 ________________________________________
من أسباب ظهور روايات التحريم:
ولنفترض أن الروايات تقول: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يبيح للصحابة هذا الزواج تارة ويحرمه عليهم أخرى، والتي تعاني من الكثير من العاهات والبلايا لنفترض أنها صحيحة، حتى لو كان الفرض موهوناً إلى درجة كبيرة.
فإن افتراضاً كهذا يجعلنا أمام سؤال وجيه عن المغزى الذي كان يرمي إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك، خصوصاً إذا بات واضحاً: أن لا مجال لما يفترضه أهل السنة عموماً من أن ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من نهي عن هذا الزواج إنما هو نهي تحريم ونسخ.
والجواب عن ذلك، باختصار: هو أن ما يفترضه أهل السنة غير ظاهر، إذ من الممكن جداً أن يكون (صلى الله عليه وآله) إنما كان ينهاهم عن ممارسة هذا الزواج أو يأمرهم بفراق من تزوجوا بهن، بسبب ان الجيش قد أصبح على جناح سفر، ولا بد من حفظ أولئك النسوة، وتسهيل أمرهن: فلا يبقين معلقات بأشخاص قد لا يلتقين بهم أبداً في المستقبل.
إذن فمن الممكن تصور تكرار النهي عن إقامة عقود زواج
________________________________________ الصفحة 402 ________________________________________
في ظروف تضيع معها الحقوق، وتنشأ عنها مشكلات حادة، دون أن يكون ذلك نهي تحريم ونسخ، وإنما هو تدبير من النبي (صلى الله عليه وآله) يهدف إلى وضع الأمور في نصابها، وفقاً للصالح العام.
ومن أجل ذلك يمكننا أن نتصور أن ما قاله جابر بن عبد الله الأنصاري من أن المتعة لم تزل حلالاً حتى منعهم منها عمر بن الخطاب هو الأوفق بسيرالأحداث.
بل يمكن القول:
إن كلام جابر هذا وسواه، وممارسة الصحابة لهذا الزواج.. يدل على أن آخر ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الإباحة، وليس هو النهي، فبعد أن تكررت الإباحة والنهي ثلاث أو اربع، أو خمس أو ست أو سبع مرات، من الذي قال: إن الأخير كان هو النهي، فلعله هو الإباحة ويكون كلام جابر، واستمرار العمل عليه في عهد أبي بكر ونصف من خلافة عمر هو الشاهد القوي على هذا..
ودعوى:
أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حرمها يوم الفتح إلى يوم القيامة.. منقوضة بما دل على التحليل في يوم أوطاس وغيره.. كما أنه مجرد دعوى قد تواترت عليها العلل والأسقام، فلا تقوم بها حجة.
________________________________________ الصفحة 403 ________________________________________
تحريم المتعة عند الصادق (عليه السلام):
وأخيراً نذكر: أن البعض قد استدل على تحريم المتعة برواية منسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) مفادها ذلك(1).
فقد نقل البيهقي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله عن المتعة: «هي الزنا بعينه»(2).
ونقول:
أولاً:
إن هذه الرواية المزعومة لا تصح رواية، ولا دراية، حيث إن الأخبار متواترة عنهم (عليهم السلام) بضد مضمونها.
ثانياً:
حتى لو صحت تلك الرواية الضعيفة السند، فإنها ليست صالحة لنسخ حكم قطعي نزل به القرآن، وثبت بالتواتر، والإجماع.. خصوصاً عند من لا يرى حجية في أقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام.
____________
(1) راجع: مجلة الهلال المصرية عدد 13 جمادى الأولى، سنة 1397 هـ أول مايو سنة 1977 وفتح الباري ج 9 ص 150.
(2) هامش سنن الدارقطني ج 3 ص 260. وراجع: السنن الكبرى ج7 ص207.
________________________________________ الصفحة 404 ________________________________________
كيف وهي خبر واحد، معارض بالمتواتر القطعي عن الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه، فضلاً عما ورد عن غيره من أئمة أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) من حلية هذا الزواج إلى يوم القيامة.
ثالثاً:
ولو أغمضنا النظر عن كل ذلك، فإنها لا تصلح للنسخ إذ يحتمل قوياً أن تكون قد صدرت منه (عليه السلام) على سبيل التقية لدفع شر السلطان عنه وعن شيعته الأبرار رضوان الله تعالى عليهم، حيث يتخذ ذلك ذريعة للتنكيل بهم، وإيصال الأذى إليهم، وتلفيق التهم الباطلة، والزائفة ضدهم، كما أوضحه الإمام الصادق (عليه السلام) حينما طلب من شيعته وأصحابه أن لا يمارسوا هذا الزواج في مكة، حتى لا يكون ذلك سبباً في بعض المشاكل، والتهم، والإحراجات له من قبل الأعداء المتربصين حيث قال لهم: «هبوا لي المتعة في مكة والمدينة»(1).
____________
(1) ستأتي الرواية عن مصادرها في فصل: روايات التشريع عند الشيعة.
________________________________________ الصفحة 405 ________________________________________
خلاصة وبيان:
فتلخص من جميع ما تقدم: أن أياً مما ذكروه على أنه ناسخ لتشريع هذا الزواج الذي يثبت على سبيل القطع بالكتاب والسنة القطعية المتواترة، وبإجماع الأمة بأسرها، لا يصلح للناسخية أصلاً، وليس التعلق بأمثال هذه الأمور إلا محاولات تبرير موقف، لا أكثر ولا أقل..
وسنذكر للقارئ الكريم عشرات من رجالات الإسلام، وعلماء المسلمين، فيهم طائفة من كبار الصحابة، والتابعين، وغيرهم ممن سجل لنا التاريخ أسماءهم ومن بينهم ثلاثة من أئمة المذاهب الأربعة، بالإضافة إلى أهل مكة والمدينة، واليمن، وأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وشيعتهم.. كلهم قائلون بعدم نسخ تشريع زواج المتعة، ولا نسخت آيته.
ولا يمكن أن نقبل مقولة نسخ هذا التشريع، وجهل كل هؤلاء بهذا النسخ، خصوصاً بالنسبة إلى ابن عباس، ترجمان
________________________________________ الصفحة 406 ________________________________________
القرآن، وابن مسعود، وجابر. وبالأخص أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أعلم الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
إلا أن يُدّعى: أن هؤلاء أيضاً يجهلون نسخ آية المتعة بالآيات المذكورة آنفاً، مع ما ذكرناه من مناقشات لا يمكن ردها، تؤكد على عدم صلاحيتها للناسخية أصلاً..
وقديماً قيل:
«حدث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له، فلا عقل له..»
.
التعلیقات