هَيْمَنَةُ القرآن على الكتب السماوية
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 3 سنواتهَيْمَنَةُ القرآن على الكتب السماوية
بُعث النبي الأكرم وتحدّى بالقرآن المجيد ، ولما أعْجَزَ فُصحاء العرب وبُلَغاءهم في المعارضة ، وجّهوا إليه سهام التهم . فكان ممّا ألصقوه بكرامة كتابه أنّه ليس سوى أساطير الأوّلين تُملى عليه بكرة وأصيلا (1) .
وربما يتهمون النبي بأنّه يأخذه من بَشَر ، كما يحكيه سبحانه بقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (2) .
قال في الكشاف : « أراد بالبشر غلاماً كان لحُوَيْطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب . وقيل هو « جبر » غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل عبدان « جبر » و « يسار » ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وقيل هو سلمان الفارسي » (3) .
وعلى كل تقدير ، كان العدو يتهم النبي بأنّه أخذ ما جاء به ، من الكتب السماوية الماضية .
فعلى ذلك ، من الجدير أن نقارن بين القرآن ، وسائر الكتب السماوية المتقدمة عليه ، حتى يتّضح مدى الإختلاف بينهما . وهذه المقارنة من أحدث المناهج التطبيقية التي تفيد علماً بأنّ النبي الأكرم لم يعتمد فيما جاء به على هذه الكتب . ولنركز على ما جاء به العهدان في مجال الأنبياء ، فنذكر ما جاء به القرآن أوّلاً ، ثم نتبعه بما جاء فيهما .
وقبل الخوض في المقصود نذكر بأمرين :
الأول ـ إنّ الذكر الحكيم يعترف بعظمة التوراة وحجيتها ، وأنّها كتاب سماوي مثل القرآن ، وأنّه يجب على كل مسلم أن لا يُفَرِّق بين نبيٍّ وآخر ، ولا يفرق بين كتبهم ، يقول سبحانه : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (4) .
إنّ القرآن يصف التوراة في آياته ، بقوله :
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) (5) .
( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّـهِ ) (6) .
كما يصف الإنجيل بقول : ( وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ ، فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) (7) .
ويصفهما معاً ، بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (8) .
وعلى ضوء ذلك ، فهذه الكتب السماوية كلّها نور وهداية ، غير أنّه في مواضع أخرى يندد بعلماء اليهود والنصارى متهماً إيّاهم بأنّهم حرّفوا كتبهم ودسُّوا فيها ما ليس من الله ، وكتموا آيات الله تبارك وتعالى .
يقول سبحانه : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) (9) .
ويقول : ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ) (10) .
ويقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ، أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (11) .
وفي ضوء هذه الآيات يقف الباحث على أنّ سهم الإعتراض في هذا المجال ليس متوجهاً إلى الكتب الصحيحة السماوية ، بل إلى المحرَّف منها ، الذي هو نتيجة تكالب الأحبار والرهبان على الدنيا ، وتغيير حكم الله طلباً لمرضاة الحُكّام ، وأصحاب الأموال .
وبما أنّ الموجود في زمن النبي ، والدارج عند نزول القرآن ، هو الكتب المحرَّفة لا الأصلية ، فالبحث المقارن يثبت ، أنّ النبي لم يعتمد على شيء من هذه الكتب ، فيما يسرد من القصص والأحكام ، أو ما يبيّن من المعارف والعقائد ، وإلّا يجب أن تظهر فيه سمات الأخذ والتقليد . ولا يصحّ لأحد أن يحتمل أنّ النبي اطّلع على الصحيح من هذه الكتب ، وذلك لأنّ الأُمة العربية كانت أُميّة ، غير واقفة على هذه الكتب ، ولا متدارسة لها ، وكانت إنّما توجد هذه الكتب عند الأحبار والرهبان ، وأولئك لم يكن في أيديهم إلّا ما تطرّق إليه التحريف والدسّ طيلة قرون .
الثاني : قد اخترنا في مجال المقارنة ، موضوع الأنبياء ، وذلك لأنّ هذا المجال من أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين . والأنبياء هم رجال الوحي والهداية ، ورجال الإصلاح والتربية ، قاموا بخدمة النوع الإنساني ، ولاقوا من المصائب والمتاعب الكثير في سبيل دعوتهم ، فيصفهم سبحانه في القرآن بقوله : ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (12) .
وبقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (13) .
إذا عرفت ذلك فلنبدأ بالمقارنة ، ونكتفي بالأنبياء العظام : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، ولوط ، ويعقوب ، وداود ، وسليمان ، والمسيح ، عليهم السلام .
وبعد المقارنة يتجلى أنّ القرآن لم يتأثر في تقييمهم وتوصيفهم بفضائل الأخلاق ، بالعهدين الذَّيْن يصفان رجال الوحى برذائل الأوصاف وسيئات الأعمال ، كما سترى . نعوذ بالله من سوء الظن برجالات الوحي والهداية .
* * *
1 ـ آدم في القرآن والتوراة
يقول سبحانه في خلق الإنسان : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ، وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (14) .
هذه هي قصة أول الخليقة ، وتلك مكانته عند الله سبحانه ، وذلك سجود الملائكة إجلالاً لمقامه ، وتكريماً له ، وهذا عِلْمُ آدم بالأسماء وحقائق الأشياء ، وأنّ الشيطان وسوس إليه ، فأزَلَّه ، فأكل من الشجرة الممنوعة ، فكانت النتيجة هبوطه إلى الأرض .
أمّا التوراة ، فتذكر في الأصحاحين الثاني والثالث من سِفر التكوين قصة آدم وحواء فتقول في الأصحاح الثاني :
« وأَخَذَ الرَّبُ الإِلٰه ، آدَمَ ، وَوَضَعَهُ في جنّة عدن ليعملها ويحفظها * وأوصى الرَّب الإِلٰه آدَمَ قائلاً : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً * وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكُلْ منها ، لأنَّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . ثم بعد أن تروي خلقة حَوّاء من ضلع آدم ، تقول :
« وكانا كلاهما عريانين ـ آدمُ وامرأتُه ـ وهما لا يخجلان » (15) .
ثم جاء في الأصحاح الثالث : « وكانت الحية أحْيَلَ جميع حيوانات البريّة التي عملها الرب الإله . فقالت للمرأة : أحقاً قال الله لا تأكُلا من كُلِّ شجر الجنة * فقالت المرأة للحيّة : من ثمر الجنة نأكل * وأمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة ، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا * فقالت الحيّة للمرأة : لن تموتا * بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعْيُنُكُما ، وتكونان كالله عارِفَين الخَيْرَ والشَّرَّ * فرأت المرأة أنّ الشجرة جيدة للأكل ، وأنّها بَهِجة للعيون ، وأنّ الشجرة شهيّة للنظر ، فأخذت من ثمرها ، وأكلت ، وأعطت رَجُلَها أيضاً معها فأكل * فانفتحت أعينهما وعلما أنّهما عريانان ، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر » .
« وسمعا صوت الرَّب الإِله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرَّبِّ الإله في وسط شجر الجنة * فنادى الرَّبُّ الإله آدم وقال له : أين أنت ؟ * فقال سمعت صوتك في الجنة ، فخشيت ، لأَنِّي عريان فاختبأت * فقال من أعلمك أنّك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟ * فقال آدم : المرأة التي جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأَكلت » .
إلى أن تقول : « وقال الرَّبُّ الإِله : هو ذا الإنسان قَدْ صار كواحد منّا عارفاً الخير والشر ، والآن لعلّه يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد * فأخرجه الرّب الإله من جنة ليعمل الأرض التي أخذ منها * وأقام شرقي جنّة عدن ، الكَرُوبيمَ ، ولهيب سيف متقلِّب ، لحراسة طريق شجرة الحياة » (16) .
إنّ في هذه الأسطورة ، قضايا غريبة تمسّ الله جلّ جلاله وتحطّ من كرامة نبيّه ، وكلّ واحدة منها إساءة في حدّ ذاتها ، وخِزْيٌ وعارٌ .
أولاً ـ تنسب الكذب إلى الله سبحانه كما في قوله : « وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ ، فلا تأكل منها ، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . والحال أنّها شجرة المعرفة .
ثانياً ـ تنسب إلى الله تعالى أنّه خشي من معارضة آدم إياه ، وأن يكون مثله في معرفة الخير والشر ، والخلود ، ولكن آدم نال المقام الأول ( المعرفة ) ، وخشي سبحانه من نيله المقام الثاني ( الخلود ) فأخرجه .
ثالثاً ـ تصفه سبحانه بالجسمية ، إذ تقول : « وسمعا صوت الربّ الإِله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار » .
رابعاً ـ تنسب الجهل إلى الله سبحانه ، وأنّه غير عالم بما يحدث قريباً منه ، إذ تقول : « فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإِله في وسط شجر الجنة ، فنادى الربّ الإِله آدم ، وقال له : أَين أَنت ؟ الخ » .
خامساً ـ الحيّة ( الشيطان ) أعطف من الله على آدم ، كما تقول : « بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْن الخير والشر » .
سادساً ـ أنّه سبحانه عاقب الشيطان ( الحيّة ) من غير ذنب ، وأقصى ما ارتكبه هو أنّه علّم آدم وثَقَّفَه ، ونصحه ، وأَخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة .
سابعاً ـ إنّما أُخرج آدم من الجنة لكونه أصبح إنساناً عالماً بالخير والشر ، فصار عِلْمُهُ وَبالاً عليه .
إلى غير ذلك من المخزيات الواردة في هذه القصة .
* * *
2 ـ نوح في القرآن والتوراة
إنّ الذكر الحكيم يعظّم شيخ الأنبياء نوحاً ويصفه بأنّه « محسن » ، و « مؤمن » ، و « صالح » ، و « شكور » ، ومطّلع على المعارف الغيبية .
يقول سبحانه : ( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (17) .
ويقول سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) (18) .
ويقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) (19) .
ومن أسمى المعارف التي أُثرت عن شيخ الأنبياء أنّه كان يعتقد برابطة وثيقة بين عمل المجتمع ، الحسن أو القبيح ، والظواهر الطبيعية . وأنّ عمل الإنسان ، يؤثّر في انفتاح أبواب الخير من نزول المطر ، وكثرة الأموال والأولاد ، وجريان الأنهار ، وخصب الأرض .
وفي هذا المجال يحكي عنه سبحانه قوله : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) (20) .
وإنّ القرآن يصفه بالصمود والثبات أمام أعداء دعوته ، صموداً قليل النظير ، ويقول حاكياً عنه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) (21) .
وإِنَّك لترى صحيفةً نَضِرةً من صحائف ثباته في دعوته فيما يحكيه سبحانه من صنع سفينته ، بقوله : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قَالَ : إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (22) .
وَظَلَّ شيخُ الأنبياء يعيش مع قومه الأَلداء أَلف سنة إلّا خمسين عاماً ، حتى جاء أمر الله ، ففار التنور وغرق من غرق ، ونجا من نجا ، يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (23) .
هذه صحائف حياته المشرقة الوضّاءة ، وفي مقابل ذلك نقف على التصوير القاتم الذي تُصَوِّرُهُ التوراةُ لهذا الرجل العظيم ، تقول :
« وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً * وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً * فأخذ سام ويافث الرِّداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء ، فلم يُبصرا عورة أبيهما * فلمّا استيقظ نوحٌ من خمره علم ما فعل به ابنُهُ الصغير * فقال ملعون كنعان ، عبد العبيد يكون لإخوته » (24) .
ولا نعلّق على هذا النصّ شيئاً ، ونحمّل القضاء فيه إلى الباحثين الكرام .
* * *
3 ـ إبراهيم في القرآن والتوراة
إنّ قصة إبراهيم في الذكر الحكيم تعرب عن مكانته السامية عند الله سبحانه ، مكانة لا يصل إليها إلّا الأمثل من الأنبياء ، حيث إنّه سبحانه ذكر له ما يقرب من خمسة عشر وصفاً ، كل منها يدلّ على عظمته وسمو مكانته عند الله فهو : « إمام » ، « صالح » ، « حنيف » ، « مسلم » ، « موقن » ، « أَوّاه » ، ـ « حليم » ، « منيب » ، « قانت » ، « شاكر » ، « مؤمن » ، « أُمّة » بنفسه ، « خَيِّر » ، « مصطفى » ، و « صاحب قلب سليم » . (25) .
وهذه السمات بكثرتها وفخامتها ، لم ترد في حق نبي آخر .
وأمّا بطولته وثباته في مقابل الوثنيين ، فحدّث عنها ولا حرج ، ويكفي في ذلك أنّه دخل معبدهم ، ( فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . . . ) (26) .
وأي مقام أكرم وأعظم من إراءته ملكوت السموات والأرض ، كما يقول تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (27) .
وأي تفانٍ في جنب الله ، وطلب مرضاته سبحانه ، أقوى من تفانيه بإستعداده لتضحية ولده وذبحه إمتثالاً لأمره سبحانه (28) .
هذا هو إبراهيم ، بطل التوحيد ، في الذكر الحكيم ، فهلم نقرأ صحيفة حياته التي صوّرتها التوراة المحرّفة ، بما يندى له الجبين من قراءته وسماعه ، تقول :
« وحدث جوع في الأرض فانحدر أَبرام إلى مصر ليتغرّب هناك ، لأن الجوع في الأرض كان شديداً * وحدث لما قرب أنْ يدخل مصر أنّه قال لساراي إمرأته : إني قد علمت أنّك إِمرأَة حسنة المنظر * فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون هذه إِمرأَته ، فيقتلونني ويستبقونك * قولي إِنَّك أُختي ، ليكون لي خير بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك * فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريين رأوا المرأة أنّها حسنة جداً * ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبراهيم خيراً بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإِماء وأُتن وجمال * فضرب الربّ فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي إِمرأَة أَبرام * فدعا فرعون أَبرام وقال : ما هذا الذي صنعت بي ، لماذا لم تخبرني أنّها إِمرأَتك ؟ * لماذا قلت هي أُختي حتى أَخذتُها إليَّ لتكون زوجتي . والآن هو ذا إِمرأَتك ، خذها واذهب * فأَوصى عليه فرعون رجالاً فشيّعوه وامرأَته وكل ما كان له » (29) .
فمغزى هذه الأُسطورة أَنّ إِبراهيم صار سبباً لأخذ فرعون سارة ، زوجة إبراهيم ، زوجةً له . وحاشا إِبراهيم ، وهو من أكرم أنبياء الله ، أن يرتكب ما لا يرتكبه أدنى الناس . وهو وإِنْ فَعَلَ ذلك طلباً لنجاة نفسه ، لكن أصحاب الغيرة والشهامة من الرجال يضحّون بأنفسهم دون أعراضهم .
ثم من أين علم إِبراهيم أنّه لو عرفها المصريون إِمرأَته يقتلونه ، مع أنّ المستقبل لم يصدِّق ذلك ، وأظْهَرَ فرعون رجلاً موضوعياً ، لا يتجاوز أعراض الناس .
* * *
4 ـ لوط في القرآن والتوراة
إنّ لوطاً ، أحد الأنبياء المعاصرين لإبراهيم المقتفين لشريعته ، وكان رجلاً صموداً في مجال النهي عن المنكر ، يقول سبحانه ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) (30) .
والقرآن يذكر لوطاً في عِداد الأنبياء العظام ويقول : ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) (31) .
وفي آية أخرى يقول : ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) (32) .
فَهَلمّ نرى ما تذكره التوراة في حقّه تقول :
« وصعد لوط من صُوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنّه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة هو وابنتاه وقالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلِّ الأرض * هَلُمّ نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * وحدث في الغد أَنَّ البكر قالت للصغيرة إِنِّي قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي إِضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * فحبلت إبنتا لوط من أبيهما * فولدت البكر إبناً ودعت إسمه مُوآب ، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم * والصغيرة أيضاً ولدت إبناً ودعت إسمه بَنْ عَمّي ، وهو أَبو بني عَمّون إلى اليوم » (33) .
عجباً والله ، أي منطق هذا ! وما قيمة نبيّ لا يفرّق بين الخمر والماء ، ويسكر إلى حدّ يفعل ما ذكرته مع بنتيه . ولو صحت هذه القصة ، فالموآبيين ، وبني عمّون ، ينتهي نسبهم إلى الفسق والفجور ، أعاذنا الله من الوقيعة في الأنبياء .
وكفى في هذا النصّ دلالة على أنّ القرآن لم يُتّخذ من التوراة ، لأنّه لم يذكر في حقّ بنات نوح سوءاً ، وإنّما ندّد بزوجته ، كما عرفت .
* * *
5 ـ يعقوب في القرآن والتوراة
إنّ يعقوب أحد الأنبياء العظام ، يصفه سبحانه بأنّه كان محسناً ، وصالحاً ، ومصطفى ، وخيِّراً ، وبصيراً ، وقد جعل النبوة في نسله .
يقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ، وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (34) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (35) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . . . ) (36) .
ويقول سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِيوَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (37) .
ولم يزل يعقوب يكافح الوثنية ، وقد أوصى بالتوحيد أولاده في آخريات حياته ، كما يقول سبحانه :
( إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ، قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (38) .
فَهَلُمَّ معنا نقف على نصّ التوراة في حقّ هذا النبي العظيم ، فهي تُعرِّفه بأنّه كاذب مخادع ، كما تصف أباه بأنّه شارب للخمر . إنّ إسحاق أراد أن يعطي إبنه « عيسو » بركة النبوة ، فخادعه يعقوب وأوهمه أنّه « عيسو » ، وقد كان أمر يعقوب « عيسو » أن يصنع طعاماً كما يجب ، ويأتي به ليأكل حتى يباركه قبل أن يموت . وقد علم بذلك يعقوب ، تقول التوراة :
« فَدَخل إلى أبيه وقال : يا أبي . فقال : ها أنذا ، من أنت يا ابني * فقال يعقوب لأبيه : أنا عيسو بكرك ، قد فعلت كما كلّمتني ، قم اجلس وكُلْ من صيدي لكي تباركني نفسك * فقال إسحاق لابنه : ما هذا الذي أسرعت لتجديا إبني ؟! فقال إِنّ الربّ إلهك قد يَسّر لي * فقال إسحاق ليعقوب : تقدّم لأجُسَّكَ يا ابني ، أأنت هو إِبني عيسو أم لا ؟ * فتقدّم يعقوب إلى إسحاق أبيه ، فجسَّه ، وقال : الصوتُ صوت يعقوب ، ولكن اليدين يدا عيسو * ولم يعرفه ، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه ، فباركه * وقال هل أنت هو ابني عيسو ، فقال : أنا هو * فقال : قدّم لي لآكل من صيد إبني حتى تباركك نفسي ، فقدّم له ، فأكل وأحضر له خمراً فشرب !! . . . » إلى أن تقول : « وحدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب ، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه ، أنّ عيسو أخاه أتى من صيده ، فصنع هو أُطْعِمةً ، ودخل بها إلى أبيه ، وقال لأبيه : ليقم أبي ويأكل من صيد إِبنه حتى تباركني نفسك * فقال له إسحق : أبوه : من أنت ؟ فقال : أنا إِبنك بكرك عيسو * فارتعد إسحاق إِرتعاداً عظيماً » . . . « فقال : قد جاء أخوك بمكرٍ وأخذ بركتك » (39) .
6 ـ داود وسليمان في القرآن والعهدين
يحدّث القرآن عن داود ويصفه بالشجاعة ، وأنّه أحد من أُعطي الكتاب ، وجُعل خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق ، وأنّه أُوتي العلم والحكمة وفَصْلَ الخطاب . وقد بلغت عظمته الروحية إلى حدّ أنّه كان عندما يسبّح ، تسبِّح الجبال والطير معه .
كما أنّه يصف إبنه سليمان بالعلم والسيطرة على الفضاء ، وإليك بعض الآيات الواردة في هذا المجال .
يقول سبحانه : ( وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) (40) .
ويقول سبحانه : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) (41) .
ويقول سبحانه : ( اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (42) .
ويقول سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (43) .
هذا بعض ما ذكره القرآن في داود ، كما يذكر ولده البارّ بقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (44) .
وإليك ما ينسبه العهد القديم إليهما ، ممّا يندى له الجبين :
« وأمّا داودُ فأقام في أُورشَليم * وكان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره ، وتمشّى على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح إمرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً * فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد : أليست هذه بَتْشَبَع بِنْتَ أَليعام ، إمرأة أوريّا الحِثيّ (45) * فأرسل داود رسلاً وأخذها ، فدخلت إليه ، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها * وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت : إنّي حبلى » .
ثم يستمر في سرد هذه الخرافة ، وأنّ داود استدعى زوجها وسأله عن مسار الحرب ووضع الجيوش ، وأمره أن يرجع إلى بيته ، لكن الزوج لم يرجع بل نام على باب بيت الملك ، ولما علم داود بالأمر اعتذر الزوج بأنّه كيف يذهب إلى بيته ليأكل ويشرب ويضطجع مع امرأته والجيوش نازلة في الصحراء ويهوذا ساكنون في الخيام ، وفي اليوم التالي أرسل داود رسالة إلى قائد جيشه يأمره فيها أنْ يجعل هذا الزوج في مقدم الجيوش ليقتل ، ففعل ذلك ، فقتل .
« فلما سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات أُوريا رجلُها ، ندبت بعلها * ولما مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت إمرأة له وولدت له إبناً ، وأمّا الأمر الذي فعله داود فَقَبُحَ في عيني الرَّبّ » (46) .
هذا ما يذكره في حقّ الوالد ، وأمّا الولد فيعرفه العهد القديم والإنجيل أيضاً بأنّه ابن داودَ من أُوريّا هذه (47) .
والعجب أنّ الولد اقتفى أثر الوالد في المعاشقة ومغازلة النساء ، فانظر إلى ما جاء في « الملوك الأَول » :
« وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون ، موآبيات ، وعَمُّونيات ، وأدوميات ، وصيدونيات ، وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنّهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم ، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة * وكان له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري ، فأمالت النساء قلبه * وكان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ، ولم يكن قلبه كاملاً مع الربّ إلهِهِ كقلب داود أبيه * فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين ، وملكوم رجس العمونيين * وعمل سليمان الشرّ في عيني الرب ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه * حينئذٍ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أُورشليم ولمولك رجس بني عمّون * وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي يوقدن ويذبحن لآلهتهن * فغضب الربّ على سليمان . . . » . وهكذا يتابع نقل غضب الرب عليه ثم تهديده إيّاه بتمزيق مملكته (48) .
هَبْ أَنَّ النبي لا يلزم أَنْ يكون معصوماً ـ مع أنّ الأدلّة العقلية قائمة على لزوم عصمته ـ فهل يجوز في حكم العقل أن يعبد الأصنام ويبني لها المرتفعات ، ثم يكون داعية للناس إلى التوحيد وعبادة الله ؟! .
7 ـ المسيح في القرآن والإنجيل
إنّ المسيح المبشِّر بالنبي الأعظم ، من الأنبياء العظام ، وصفه سبحانه بقوله :
( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (49) .
وبقوله : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ، وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (50) .
وقد بلغت عناية الله تعالى به أنْ أقدره على التكلّم وهو في المهد صبياً ، يقول سبحانه : ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ) (51) .
وممّا نلفت النظر إليه أنّه سبحانه ينقل عنه قوله : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) (52) .
فاتل هذه الآية وتأمّل فيما أوصاه الله سبحانه من البرّ بوالدته ، ثم قارن ذلك بما ينقله عنه الإنجيل من ترك إكرامه لوالدته ، يقول الإنجيل :
« فَجاءت حينئذٍ إخوته وأُمُّه وَوَقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه * وكان الجَمْع جالساً حوله فقالوا له هوذا أُمَّكَ وإِخْوَتُك خارجاً يطلبونك * فأجابهم قائلاً : مَنْ أُمِّي وإِخوتي ؟ * ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أُمي وإِخْوتي ، لأَنَّ من يَصْنَعْ مشيئة الله هو أَخي وأُختي وأُمّي » (53) .
فأين المسيح الذي ينكر أُمَّه القديسة البارّة ، ويحرمها رؤيته ، ويُعَرِّضُ بِقَداسَتِها ، ويُفَضِّل تلاميذه عليها ، مِنَ المسيح الذي عرّفه القرآن بقوله : ( وبَرًّا بِوالِدَتِي ) ، مع أنّ هؤلاء التلاميذ هم الذين تركوه ، ووصفهم المسيح بقوله : « ما بالكم خائفين هكذا ، كيف إيمان لكم » (54) .
المسيح يحول الماء خمراً ليشرب الناس
إنّ الخمر إحدى الخبائث التي حرّمها الله سبحانه في الشرائع السماوية ، من غير فرق بين شريعة وأُخرى ، وها هو سِفْر اللاويين ، من العهد القديم يقول :
« وَكَلّم الله هارون قائلاً ، خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الإجتماع ، لكيلا تموتوا ، فرضاً دهرياً في أَجيالكم ، وللتمييز بين المقدَّس والمحلِّل ، وبين النجس والطاهر » (55) .
ومع ذلك فالمسيح يصنع للمحتفلين بالعُرس خمراً ليشربوا كما يقول الإنجيل :
« وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أمّ يسوع هناك * ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس . ولما فرغت الخمر قالت أمُّ يسوع له ليس لهم خمر * قال لها يسوع : ما لي ولك يا إمرأة ، لم تأت ساعتي بعد !! * قالت أُمُّه للخدّام : مهما قال لكم فافعلوه * وكانت ستة أجرانٍ من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود ، يَسَع كل واحد مِطْرَيْنِ أو ثلاثة * قال لهم يسوع : إِملأوا الأجران ماءً ، فملأوها إلى فوق * ثم قال لهم : إستقوا الآن ، وقدِّموا إلى رئيس المتكأ ، فقدَّموا * فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً ـ ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ـ دعا رئيس المتكأ العريس * وقال له : كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون . أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن * هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل ، وأظهر مجده ، فآمن به تلاميذه » (56) .
* * *
هذه نماذج ممّا في العهدين من الأضاليل والأباطيل التي لا تتفق مع البرهان ، ولا يصدّقه المنطق ، وهي تثبت أمرين :
الأول : أنّ هذه الكتب السخيفة ليست من وحي السماء ، وإنّما هي من منشآت الأحبار والرهبان ، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم .
الثاني : أنّ النبي الأكرم لم يقتبس معارفه وقصصه وأحكامه من هذه الكتب ، وإنّما هي مأخوذة من وحي السماء على قلبه ، ليكون من المنذرين (57) .
وبهذا تقف على مدى صدق قوله سبحانه : ( إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (58) .
وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (59) .
ولنكتف بهذا المقدار ، ونترفع عن نقل العار ، وأشنع القبائح ، التي يرمي بها العهدان أنبياءَ الله تعالى ، ممّا تشمئز النفوس من سماعه ، والأقلام عن الجريان به .
* * *
الهوامش
1. اقتباس من قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ، فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) ( الفرقان : الآية 5 ) وفسّر في الكشاف قوله بـ ( اكْتَتَبَهَا ) بمعنى اكتتبها لنفسه ، فكأنّ التاء للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه .
2. سورة النحل : الآية 103 .
3. تفسير الكشاف ، ج 3 ، ص 218 .
4. سورة البقرة : الآية 285 .
5. سورة المائدة : الآية 44 .
6. سورة المائدة : الآية 43 .
7. سورة المائدة : الآية 46 .
8. سورة المائدة : الآية 66 .
9. سورة النساء : الآية 46 .
10. سورة البقرة : الآية 75 .
11. سورة البقرة : الآية 159 .
12. سورة ص : الآية 47 .
13. سورة آل عمران : الآية 33 .
14. سورة البقرة : الآيات 31 ـ 37 .
15. لأنّهما لم يكونا يدركان بعدُ الخير والشر .
16. لاحظ العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاحين الثاني والثالث ، ص 5 ـ 7 ، طبعه دار الكتاب المقدس .
17. سورة الصافات : الآيات 79 ـ 81 .
18. سورة الإسراء : الآية 3 .
19. سورة التحريم : الآية 10 .
20. سورة نوح : الآية 10 ـ 12 .
21. سورة نوح : الآيات 5 ـ 9 .
22. سورة هود : الآية 38 .
23. سورة العنكبوت : الآيتان 14 و 15 .
24. العهد القديم ، سفر التكوين ، الأصحاح التاسع ، الجملات 20 ـ 25 ، ص 5 ، ط دار الكتاب المقدّس .
25. لاحظ السور التالية :
ـ البقرة : 124 و 130 ـ آل عمران : 67 . ـ الأنفال : 65 .
ـ التوبة : 114 . ـ هود : 75 . ـ النحل : 120 و 121 .
26. لاحظ سورة الصافات : الآيات 91 إلى 99 .
27. سورة الأنعام : الآية 75 .
28. لاحظ سورة الصافات : الآيات 102 إلى 107 .
29. العهد القديم ، سفر التكوين ، الأصحاح الثاني عشر ، الجملات 10 ـ 20 ، ص 19 ، ط دار الكتاب المقدس .
30. سورة الشعراء : الآيات 161 ـ 171 .
31. سورة الأنعام : الآية 86 .
32. سورة الأنبياء : الآية 74 .
33. العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاح التاسع عشر ، الجملات 30 ـ 38 ، ص 29 ، ط دار الكتاب المقدس .
34. سورة الأنعام : الآية 84 .
35. سورة الأنبياء : الآية 72 .
36. سورة العنكبوت : الآية 27 .
37. سورة ص : الآيات 45 ـ 47 .
38. سورة البقرة : الآية 133 .
39. العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاح السابع والعشرون ، لاحظ : الجملات 18 ـ 38 ، ص 42 ـ 43 ، ط دار الكتاب المقدس .
40. سورة البقرة : الآية 251 .
41. سورة النساء : الآية 163 .
42. سورة ص : الآيات 17 ـ 20 .
43. سورة ص : الآية 26 .
44. سورة النمل : الآيتان 15 ـ 16 . وقد اكتفينا بهذا المقدار من الآيات .
45. وهو من قادة جيوشه .
46. لاحظ : العهد القديم ، صموئيل الثاني ، الأصحاح الحادي عشر ، ص 497 ـ 499 ، ط دار الكتاب المقدس .
47. العهد القديم ، صموئيل الثاني ، الأصحاح الثاني عشر ، الجملة 24 ، ص 501 . وإنجيل متى ، الأصحاح الأول ، الجملة السادسة ، ص 2 ، ط دار الكتاب المقدس .
48. العهد القديم ، الملوك الأول ، الأصحاح الحادي عشر ، الجملات 1 ـ 13 ، ص 553 ـ 554 . ط دار الكتاب المقدس .
49. سورة النساء : الآية 171 .
50. سورة البقرة : الآية 87 .
51. سورة المائدة : الآية 110 .
52. سورة مريم : الآيتان 31 و 32 .
53. إنجيل مُرقس ، الأصحاح الثالث ، الجملات 31 ـ 35 ، ط دار الكتاب المقدس .
54. إنجيل مرقس ، الأصحاح الرابع ، الجملة 40 ، ط دار الكتاب المقدس .
55. سِفْر اللاويين ، الأصحاح العاشر ، الجملات 8 ـ 11 ، ص 171 ، ط دار الكتاب المقدس .
56. إنجيل يوحنا ، الأصحاح الثاني ، الجملات 1 ـ 12 ، ص 147 ـ 148 ، ط دار الكتاب المقدس .
57. أنظر للتبسط في هذا البحث : « الهدى إلى دين المصطفى » ، و « الرحلة المدرسية » كلاهما لشيخنا الحجة البلاغي ( م 1352 ) . و « إظهار الحق » للعالم الهندي . و « أنيس الأعلام في نصرة الإسلام » لمحمد صادق فخر الإسلام في خمسة أجزاء ، وغير ذلك .
58. سورة النمل : الآية 76 .
59. سورة المائدة : الآية 48 .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 376 ـ 395
التعلیقات