« حيّ على خير العمل » دعوة إلى الولاية
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنة« حيّ على خير العمل » دعوة إلى الولاية
ذكرت كتب الحديث والتاريخ أنّ لـ « حيّ على خير العمل » مَعنَيَين : ظاهريّ وباطنيّ :
أمّا المعنى الظاهري لجملة « حيّ على خير العمل » فهو : أنّ خير الأعمال الصلاة والدعوة إلى إتيانها ، وهذا هو الفهم الاوّلي المتبادر للذهن.
وتدلّ عليه رواية الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا فيما رواه من العلل عن الإمام الرضا عليه السلام ... فقال : أخبِرني عن الأذان ، لِم أُمروا به ؟
قال : لعلل كثيرة ، منها : أن يكون تذكيراً للساهي ، وتنبيهاً للغافل ، وتعريفاً لمن جهل الوقت .. إلى أن يقول : فجعل النداء إلى الصلاة في وسط الأذان ، فقدّم قبلها أربعاً : التكبيرتين والشهادتين ، وأخّر بعدها أربعاً : يدعو إلى الفلاح حثاً على البر والصلاة ، ثمّ دعا إلى خير العمل مرغّباً فيها وفي عملها وفي أدائها ، ثمّ نادى بالتكبير والتهليل ليتمّ بعدها أربعاً ... (1).
أمّا المعنى الباطني المكنون ـ الذي يعرفه أهل البيت ومن نزل في بيوتهم الكتاب والوحي ـ فهو ما رواه الصدوق في معاني الأخبار وعلل الشرائع ، بإسناده عن محمّد بن مروان ، عن الباقر عليه السلام ، قال : أتدري ما تفسير « حيّ على خير العمل » ؟
قال ، قلت : لا.
قال : دعاك إلى البرّ ، أتدري بِرُّ مَن ؟
قلت : لا.
قال : دعاك إلى برِّ فاطمة وولدها (2).
وقال الحافظ العلوي : أخبرنا محمّد بن أحمد قراءة ، أخبرنا محمّد بن أبي العبّاس الوراق في كتابه ، أخبرنا محمّد بن القاسم ، حدّثنا حسن بن عبدالواحد ، حدّثني حرب بن حسن ، حدّثنا الحارث بن زياد ـ يعني الطحان ـ حدّثنا محمّد بن مروان ، قال : سمعت أبا جعفر وسأله رجل عن تفسير الأذان قال ، فقال له : الله أكبر ، قال : فهو كما قال الله أكبر من كلّ شيء .. حتّى بلغ : حيّ على خير العمل ، قال : أمّا قوله : حيّ على خير العمل ، قال : فأمرك بالبر ، تدري برّ مَن ؟
قال الرجل : لا.
قال : بر فاطمة وولدها (3).
وفي خبر آخر عن الصادق عليه السلام : سئل عن معنى « حيّ على خير العمل ». فقال : خير العمل الولاية (4).
هذا وقد علّل الإمام الكاظم سببَ حذف عمر بن الخطاب لهذه العبارة من الأذان بسبيين : ظاهري وباطني.
إذ روى الصدوق في كتاب علل الشرائع بسنده الحسن بل الصحيح عن ابن أبي عمير أنّه سأل أبا الحسن « الكاظم » عن « حيّ على خير العمل » لِمَ تركت من الأذان ؟
قال : تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة ؟
قلت : أريدهما جميعاً.
فقال : أمّا العلّة الظاهرة فلئلّا يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة ، وأمّا الباطنة فإنّ « خير العمل » الولاية ، فأراد مِن أمره بترك « حيّ على خير العمل » من الأذان أن لا يقع حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها (5).
فما وجه الترابط بين الصلاة والدعوة إلى برّ فاطمة وولدها ؟
بل ما يُعنى بمجيء الولاية وبرّ فاطمة وولدها في الأذان للصلاة ؟
وهل حقاً أنّ جملة « خير العمل » هي الولاية أم أنّها : الصلاة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ .. وهل هناك تناف بين الرؤيتين.
وهل يصحّ مضمون الرواية القائلة بأنّ عمر أراد من أمره بتركها أن لا يقع حثٌّ على الولاية ودعاءٌ إليها ؟ أم هناك شيء آخر ؟
وما هي المقدّمات التي تساعدنا على تفهّم مقصود الإمام أبي الحسن الكاظم في علّة حذف عمر بن الخطاب لعبارة « حيّ على خير العمل ».
بل بماذا تفسّر الشيعة هذه المقولة وما جاء عن أبي جعفر الباقر بأن الإسلام بُني على خَمس : الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والولاية ، ولم يُنادَ بشيء كما نُودي بالولاية (6).
بل كيف تكون الولاية أهمّ من كلّ شيء ؟ وهل هي أهمّ من الشهادتين كذلك ؟ ولماذا تُرجع الشيعة كلَّ شيء إلى الولاية ؟
إنّ أئمّة أهل البيت قد أجابوا عن هذه التساؤلات ، وأنّ المعنيّ عندهم بـ « ما نُودي بشيء كالولاية » وأمثالها لا يعني أنّها أهمّ من الشهادتين ، بل إنّ أمر الشهادتين مفروغ منه ؛ لأن الإمام قال : « بني الإسلام على خمس » ومعناه : أنّ الإسلام المؤلّف من الشهادتين قد بني على خمس : الصلاة ، الصوم ، الزكاة ، الحج ، الولاية ، وأن الولاية أفضلها ، وما نودي بشيء كالولاية ، لكون الإمامة امتداداً للنبوّة ، لا أنّها قبال النبوّة والتوحيد ـ كما يصوّره البعض ـ فلا يمكن معرفة الله إلّا بالنبي ، ولا يمكن معرفة النبيّ صلّى الله عليه وآله والله جلّ جلاله معرفةً مقبولة صالحة إلّا بالإمام المفترض طاعته ، وهذا ما وضّحته كتب الإماميّة ، وأشار إليه العلماء في كتبهم الكلاميّة.
إذ الاعتقاد بالإمامة لا يُترك بحال ، فهي ليست كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ التي قد يرخّص في تركها في ظروف خاصّة ؛ فالحائض مثلاً تترك الصلاة ، والمريض معفوّ عن الصوم ، والزكاةُ والحجّ ساقطان عن الفقير ، أمّا الولاية فهي واجبة على المكلّف سواء كان صاحياً أم مريضاً ، وذا مال أو معسراً (7) و .. لأنّها من الأصول التي يبتني عليها قوام الشريعة ، وبها تقام الأحكام ، وقد مرّ عليك كلام الإمام الزيدي يحيى بن الحسين ـ في كتابه الأحكام ـ عن الأذان ، وأنّه من أصول الدين ، إشعاراً منه بمكانة هذه الشعيرة وما تحمله من مفاهيم وأفكار.
فالأذان وإن كان من شعائر الدين ، لكنّ فصوله تنطوي على أهمّ أصول الدين ، والاعتقاد بالإمامة عندنا من أصول المذهب ، وقد وضّح الإمام الباقر عليه السلام مكانة الإمامة بين العبادات الخمس ، وقد سأله عنها زرارة بقوله : وأيّ شيء من ذلك أفضل ؟
قال : الولاية أفضل ؛ لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ ـ إلى أن قال ـ إنّ أفضل الأشياء ما أنت عليه إذا فاتَكَ لم يكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤدّيه ...
وعليه فمبحث الإمامة والولاية من المسائل المهمّة والمختلف فيها بين المسلمين ، بل من المسائل المتجذرة في تاريخ الإسلام ، وقد كتب فيها الأعلام مصنّفات كثيرة ولا يسع هذه الدراسة الإحاطة بجوانبها ، لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى قليل من مجموع مئات الأدلّة المستدلّ بها على الإمامة ، نأتي بها كي نوضّح معنى ومقصود الإمام الكاظم ، وكيف : أنّ الولاية خير من الجهاد والصلاة وسواهما.
بعض أدلّة الولاية
وليكن الكلام أولاً عن آية المودّة ؛ مفهومها ومعطياتها ، وهل تعني المحبّة كما يقولون أم تعني شيئاً أكثر من مجرّد المحبّة ؟
بل هل هناك اختلاف بين قوله ( لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) وقوله ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ؟
وعلى أيّ شيء تدلّ هذه الآية الأخيرة بالتحديد ؟
وهل يعقل أن يحصر شخصٌ رساليٌّ عظيم كرسول الله صلّى الله عليه وآله أجرَ رسالته ـ الّتي ما أوذي نبي مثل ما أوذي صلّى الله عليه وآله هو عليها ـ بحبّ أقربائه وعشيرته ؟
وهل إنّ قرار الرسول هذا جاء لتحكيم أسرته وعشيرته وتقوية الروح القبلية والنزعة العشائريّة التي كانت سائدة عند العرب في الجاهليّة ـ والعياذ بالله ـ ؟
أم أنّه صلّى الله عليه وآله أراد بذلك أموراً أخرى تعبّر عن إرادة السماء ؟
ثمّ مَن هم أقرباؤه المعنيّون في هذه الآية ؟
المعلوم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أوجب مودّة قرباه لا لتعظيم الجانب القبلي والعشائري ، إذ الثابت عن رسالة السماء أنّها تخالف هذه النزعة الجاهليّة الضيّقة ؛ حيث ذمّ الباري عمَّ النبيّ وزوجة عمّه في سورة نزلت في عمّ رسول الله ، أبي لهب ، دون اعتبار لنسبه منه صلّى الله عليه وآله : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ).
إذاً لا يكون المعنيُّ بالقربى عشيرته وأقرباءَه بما هم أقرباؤه وعشيرته ، بل المعنيّ بذلك فئة خاصّة منهم ، لهم سمات وخصائص تجعلهم أمناء على دين الله وواسطة للفيض الإلهي ، وهؤلاء هم الصادقون والمطهّرون الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وقد نوّهنا بطرف من منزلتهم فيما مضى.
إذ لا يعقل أن يأمر اللهُ ورسولُه المؤمنين بالتودّد إلى مَن ليس بأهل للمودّة ، وإلى من هو منحرف عن الجادة ـ والعياذ بالله ـ بل إنّ أمره بالتودّد إليهم يشير إلى أنّ لهؤلاء القربى خصائص يتميّزون بها ليست للآخر ين ، كالعلم والفضل والتقوى والصبر و ... وهذه المقوّمات هي التي جعلت من هؤلاء قدوة ، وقد عرّفهم سبحانه في آية التطهير وحصرهم بمن تحت الكساء وهم بعد النبيّ محمَّد صلّى الله عليه وآله : عليّ وفاطمة والحسن والحسين.
من يعرف الدين الإسلامي يعلم بأنّ الإسلام يهتمّ بالقيم والمثل لا العلائق والاتّجاهات القبليّة والعشائريّة ، فقد جعل رسولُ الله سلمانَ الفارسي من أهل بيته لما امتلكه من مؤهّلات وخصائص ذاتيّة ومعنويّة مع عدم امتلاكه أيّ علائق مع النبيّ صلّى الله عليه وآله من الوجهة القبليّة والإقليميّة.
قال أبو فراس في هذا المعنى من النَّسب الإيماني :
كانت مودّةُ سلمان لَهُ رحماً |
ولم يكن بَينَ نوح وابنِهِ رَحِمُ |
المسألة إذاً أعظم ممّا تُصوِّره مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي من أن الآية تعني المحبّة بما هي محبّة مجرّدة ، وأنّ رسول الله أراد الاهتمام بعشيرته وأقربائه وذويه ، بل إنّ آية المودّة تشير إلى مبدأ آخر واضح للمفكّر اللّبيب ، لأنّ الشارع لا يأمر بمحبّة من هو ليس بأهل أو بمحبّة الفاسق والفاجر ـ والعياذ بالله ـ بل سبحانه يأمر بمودّة من له خصوصيّة أن يكون واسطة للفيض الإلهي وصيانة الأحكام ، وإجراء الحدود على وجهاتها الصحيحة ، وحفظ الثغور ، وتقسيم الفيء ، وردّ الشبهات ، وغيرها من مستلزمات صيانة الدين الحنيف وحفظه ، وهو دليل على سلامة القربى المعنيين في الآية من العيب والنقص ، إذ جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لا يأتيه ريب ، وعلّق أجر رسالته ـ التي لاقى الصعاب من أجلها ـ على مودّتهم.
قال الزمخشري في الكشاف بعد طرحه سؤالاً وجوابه : وروي أنّها لمّا نزلت ، ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : عليّ وفاطمة وابناهما. ويدلّ عليه ما روي عن عليّ رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنَّة ، أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريّتنا خلف أزواجنا (8).
وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله : حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومَن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبدالمطّلب ، ولم يُجازِه عليها ، فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة (9).
وروي أنّ الأنصار قالوا : فَعَلنا وفَعَلنا ؛ كأنّهم افتخروا. فقال عبّاس ـ أو ابن عبّاس رضي الله عنهما ـ : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله فأتاهم في مجالسهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله بي ؟
قالوا : بلى يا رسول الله.
قال : ألم تكونوا ضُلّالاً فهداكم الله بي ؟
قالوا : بلى يا رسول الله.
قال : أفلا تجيبوني ؟
قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟
قال : ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أو لم يكذّبوك فصدّقناك ؟ أو لم يخذلوك فنصرناك ؟
قال : فما زال يقول حتّى جَثَوا على الرُّكَب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، فنزلت الآية وقال رسول الله :
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفّ إلى الجنَّة كما تُزَف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره باباً إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه « آيس من رحمة الله » ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يَشمَّ رائحة الجنّة » ... (10)
وقد نقل الرازي كلام الزمخشري في تفسيره معلّقاً عليه بقوله :
وروى صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، مَن قرابَتُك هؤلاء الذين وَجَبت علينا مودّتُهم ؟
فقال : علي وفاطمة وابناهما.
فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي ، وإذا ثَبَت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدِ التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل : قوله تعالى : ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ووجه الاستدلال به ما سبق.
الثاني : لا شكّ أنّ النبي كان يحبّ فاطمة ، قال صلّى الله عليه وآله : فاطمةُ بضعةُ مِنّي يُؤذيني ما يُؤذيها ، وثبَت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين.
وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله ؛ لقوله ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ) ولقوله سبحانه ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).
الثالث : إن الدعاء للآل مَنصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : « اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد ».
وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :
يا راكباً قِف بالُمحصَّبِ مِن مِنى |
واهتُفْ بساكنِ خِيفها والناهضِ |
|
سَحَراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنى |
فَيضاً كمُلْتَطَمِ الفراتِ الفائضِ |
|
إنْ كانَ رَفضاً حُبُّ آل محمّد |
فَلْيَشهدِ الثّقلاَنِ أنّي رافضي (11) |
ولو تدبرت في خبر أبي عبيدة عن الإمام الصادق ـ والمروي في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ـ لعرفت مزيّة فاطمة الزهراء على عائشة وعلى غيرها من نساء النبيّ ، قال الصادق عليه السلام : كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام ، فغضبت من ذلك عائشة ، وقالت يا رسول الله : إنك تكثر تقبيل فاطمة ! فقال رسول الله :
يا عائشة ، إنه لمّا أسري بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته ، فلمّا هبطت إلى الأرض ، حوّل الله ذلك ماءً في ظهري ، فلمّا هبطتُ إلى الأرض فواقعتُ بخديجة فحملت بفاطمة ، فما قبّلتها قطّ إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها (12).
وحسب هذا دليلاً لمعرفة صحّة ما نقول من أنّ مودّتها ميزان للإسلام والإيمان.
وعليه ، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة ، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى ، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة ، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى ، لأنّها لا تز يد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله ، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة ، وهذا ما صرّح به الذكر الحكيم بقوله ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) لا « المودّة للقربى » ، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودّة الناس ، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح ، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس ، وهو لطف من الله للبشر ، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة ، وهي من قبيل جعل حبّ الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق ، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب ، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله :
« إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب » (13).
وورد عن عُبادة بن الصامت قوله : كنّا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب ، فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنّه لغير رشدة (14).
وجاء عن ابن مسعود قوله : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله إلّا ببغضهم عليّ بن أبي طالب (15).
إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم (16) ، وهذا بخلاف قوله صلّى الله عليه وآله في الأنصار « لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق » (17).
ففي النصّ الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفة المؤمن من المنافق ، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصرتهم لنشر الدين الإسلامي والسعي في إيواء المسلمين وقيامهم في مهمّات الدين.
قال النووي في شرح مسلم « إنّ من عرف مرتبة الأنصار ... وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وحبّ النبيّ له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا ، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه ، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله ... » (18).
وكلام النووي كما تراه فيه غفلة عن الفرق الشاسع بين الأمر بحب عليّ عليه السلام والأمر بحبّ الأنصار ، لأن حبّ عليّ عليه السلام مطلوب بذاته ، بخلاف حبّ الأنصار فإنّه مطلوب لسوابقهم ، ويؤكّد ذلك أنّ في الأنصار منافقين ومنحرفين وأصحاب ارتباطات باليهود ـ وإن كانت غالبيّتهم من أنصار الإمام عليّ عليه السلام ومخالفين لقريش ـ فلا يعقل أن يكون حبّهم جميعاً لذواتهم ، وإنّما كان الحبّ لهم كمجموعة لها مواقف محمودة.
ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء ، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ؛ لقوله صلّى الله عليه وآله : « إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك » (19) ، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله ، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين ، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم.
ولا يفوتنك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري ، قال : قال رسول الله : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني ».
وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (20).
وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته ، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام عليّ منبعثة من إرادة الله ولا يمكن أن تتخلف عن إرادته جلّ وعلا ، وكراهته منبعثة عن كراهة الله ، ولا يمكن أن تتخلف إحداهما عن الأُخرى ، إذ لو أمكن التخلّف لكان قوله « من أطاعه فقد أطاع الله » غلطاً ، ولكان قوله : « من عصاه فقد عصى الله » باطلاً ، معاذ الله (21) ، حيث إن طاعة الرسول هي طاعة لله ، وعصيانه هو عصيان لله ، فيكون من أطاع علياً فقد أطاع الله ورسوله ، ومن عصاه فقد عصى الله ورسوله ...
وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين ، فهما إمامان قاما أو قعدا ، وسيّدا شباب أهل الجنّة ، فهؤلاء هم القربى المعنيّون في آية المودّة.
وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ؛ لتعلّق أجر الرسالة بها ، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين « ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » لانّ مفهوم السنّة لغة : هو الطريق ، والصراط ، والجادّة ، واصطلاحاً : هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً.
وقد أرشَدَنا الرسول صلّى الله عليه وآله إلى لزوم اتّباع العترة ، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والإسلام ، وهو عين الضلالة والهلكة ، لأنّه لا هدى إلّا بالقرآن والنبيّ والعترة ، فعلي مع القرآن ، والقرآن مع عليّ « لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض » (22).
ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن ، وهي نسبة تقوم بطرفين ، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد ، وعندما قال النبيّ : « عليّ مع القرآن » ، فقد أثبتها ، فلماذا أعاد إثباتها بصيغة أخرى ، فقال : « والقرآن مع عليّ » ؟
حاشا أفصح مَن نطق بالضاد مِن اللغو في كلامه ، وحاشا أفصح من نطق بالضاد من التكرار في كلامه ، [ دون معنى متوخّى ، فإنّه صلّى الله عليه وآله ] أراد أن يُفهمنا أن مسألة معيّتهما [ هي ] معيّة من نوع خاص ، ويشير إلى أبعادها العميقة ، ذلك أن المعيّة بين شيئين أو أكثر ، عندما تطلق ، فيقال : زيد مع عمرو ، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّماً رتبة على ذاك أو متأخّراً عنه ، بل تدلّ على أنّهما معاً بقطع النظر عن رتبة كلّ منهما.
وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به ، لهذا أعاد النبيّ صلّى الله عليه وآله صياغة هذه المعية ، ليقول للمفكّرين : لا ينبغي أن تفهموا من قولي : « عليّ مع القرآن » أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن ، بل القرآن مع عليّ أيضاً ، فهما وجودان متعادلان » (23).
ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ : « عليّ مني وأنا من عليّ » (24) ، وقوله صلّى الله عليه وآله لعليّ : « أنت منّي وأنا منك » (25).
ولو جمعنا آية المودّة ، مع آية التطهير ، مع حديث الثقلين ، وما جاء في أهل الكساء ، وقوله : لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش (26) ، وقوله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة (27) ، وغيرها من الآيات والروايات ، لعرفنا دلالة هذه النصوص على الولاية التي هي بمعنى الإمامة ، لا بمعنى الصاحب والُمحبّ ، وما شابه ذلك من المفاهيم التي تطرحها مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي.
عرفنا إذاً أنّ الخطاب في آية المودّة هو لعموم المسلمين الذين آمنوا برسالة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله ، لا لخصوص المشركين من قر يش حسبما قاله البعض ؛ لكون الآية مدنيّة وإن كانت السورة مكيّة ، فلا يُعقل أن يخاطب الرسول أعداءه من المشركين ويطلب منهم أجراً على رسالته.
وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر : من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله ، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب ، وهذا باطل لغويّاً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم.
ويضاف إليه : كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها ، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله ، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ؛ لأنّه توقيف الشيء على نفسه ، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة.
هذا ، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهوم القربى كان في الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسنين ، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً.
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله : وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (28).
وقال أبو إسحاق السبيعي : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى
( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) فقال : قربى النبيّ ، رواهما ابن جرير الطبري (29).
وعن ابن عبّاس أنّه قال : لما نزلت هذه الآية ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم ؟ قال : فاطمة وولدها (30).
وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به : أما قرأت كتاب الله عزّوجلّ ؟
قال الشامي : نعم.
فقال عليّ بن الحسين : أما قرأتَ هذه الآية ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ).
قال : بلى.
فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام : فنحن أولئك ، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين ؟
فقال : لا.
فقال عليّ بن الحسين : أما قرات هذه الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) ؟
قال : نعم.
قال عليّ بن الحسين : فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيّه أن يؤتيهم حقّهم.
فقال الشامي : إنكم لاَنتم هُم ؟
فقال عليّ بن الحسين : نعم ، فهل قرأت هذه الآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ ).
فقال الشامي : بلى.
فقال عليّ بن الحسين : فنحن ذوو القربى ، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين ؟
فقال : لا.
قال عليّ بن الحسين : أما قرأت هذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ).
قال : فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرّات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد ، وأبرأ إليك ممّن قتل أهل بيت محمّد ، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم (31).
وهذا النصّ يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة ، حيث إن الشيخ الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل ، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد عليه السلام له المراد من هذه الآيات. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية يبيّن هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت ، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة ، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها. ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه.
ومثله روى حكيم بن جبير ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كنت أجالس أشياخاً لنا إذ مرّ علينا عليّ بن الحسين وقد كان بينه وبين أناس من قريش منازعة في امرأة تزوّجها منهم لم يرض منكحها ، فقال أشياخ الأنصار : ألا دعوتنا أمس لما كان بينك وبين بني فلان ، إنّ أشياخنا حدّثونا أنّهم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا : يا محمّد ، ألا نخرج إليك من ديارنا ومن أموالنا لِمَا أعطانا الله بك وفضّلنا بك وأكرمنا بك ؟ فأنزل الله تعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ونحن ندلكم على الناس ، أخرجه ابن منده (32).
وجاء في الكافي في حديث طويل عن الباقر عليه السلام فيه قوله : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) يقول : أجر المودّة الذي لم اسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون به من عذاب يوم القيامة ، وقال لأعداء الله ، أولياء الشيطان أهل التكذيب والانكار : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (33).
وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (34) ، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده.
فعن خالد بن عرفطة ، قال : قال رسول الله : إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي (35).
وقال الإمام الباقر : بَليةُ الناس علينا عظيمة ؛ إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (36).
وجاء عن إبراهيم النظّام قوله : عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلّم ؛ إن وفى حقَّه غلا ، وإن بخسه حقّه أساء ، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن حادة الشأن صعبة الترقي إلّا على الحاذق الدين (37).
وقال الشعبي : ما ندري ما نصنع بعليّ ؛ إن أحببناه افتقرنا ، وإن أبغضناه كفرنا (38).
واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله : ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً ، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً ، وشاع له من بين ذَين ما ملأ الخافقين (39).
من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (40) والأخيرة صريحة في نزولها في حجّة الوداع ويوم غدير خُمّ.
ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله صلّى الله عليه وآله من التبليغ ، فهدّده الله وطمأنه.
أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب.
أو ما قالوه من نزولها في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة أحد.
لأن القول الأوّل يكذّبه كون السورة مدنيّة ؛ فلا يعقل أن يأتي خبرٌ كان في أوّل البعثة في آخر سورة من القرآن ، ولو صحّ ذلك القول وما يليه وأنّ الله كان قد عصم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فما معنى صلاة الخوف وما فعله صلّى الله عليه وآله مع الأعداء في السنوات الأخيرة من حياته الشريفة ؟
وأكثر من ذلك ، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واستغنى عن حماية أبي طالب ، فما معنى تلك النصوص الصادرة عنه صلّى الله عليه وآله إلى القبائل والتي يطلب منهم أن يحموه ؟ بل ما معنى هجرته من مكّة إلى المدينة المنوّرة ؟
فالآية صريحة في نزولها في آخر حياته الشريفة ، وبعد حجّة الوداع ، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) إذ لم ينزل إليه إلّا الشيء اليسير ، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته صلّى الله عليه وآله ، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) !
وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها ، وهما أمران مَولَويّان من الباري جلّ شأنه ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) و ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهيّة ، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى ـ وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبيّة والقبليّة وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافة وإمرة المؤمنين ؛ لأنّه وَتَر قر يشاً وكَسَر شوكتها وعظمتها.
على أنّك لو تأمّلت كلمات الأنبياء : قبل النبيّ محمّد المصطفى صلّى الله عليه وآله لرأيتهم يوقفون أجرهم على الله ، ففي سورة الشعراء حكاية عن قول نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قولهم ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (41).
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (42).
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (43).
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (44).
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (45).
وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام : كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم ، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة ، وإنّما أجرهم « على ربّ العالمين ».
أمّا الرسول المصطفى فيقول ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (46)
وقال تعالى ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (47).
وقال على لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (48) فما يعني ذلك ، وعلى أيّ شيء يدلّ ؟
إن المقدّمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر ، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة ، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلَّا بـ ( ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) و ( مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) وهما القرآن والعترة ، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم « الذكر » و « السبيل » إلى الله ، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله بالثقلين ، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى ، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس ، « عليكم ». أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبأ ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (49). ومعنى الآية : أنّي قمت بواجبي ، وأدّيت ما علَيَّ ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلّا على الله ، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتّصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة.
وبهذا فلا تناف بين قوله ( لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) وبين قوله ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ ) (50).
إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ « حيّ على خير العمل » الذي نصّ عليه أهل البيت : الذين هم أعلم الناس بدين الله بما فازوا به من تطهير الله تعالى إيّاهم تطهيراً شاملاً ، في المعرفة والمعتقد ، وفي المواقف والعمل. وهذا المعنى الذي يتضمّنه « حيّ على خير العمل » هو الولاية أو برّ فاطمة وولدها أو ما شابه ذلك ، لما اتّضح لك في الصفحات السابقة من أنّ الأذان هو بيان لاُصول العقيدة ، ولمّا كانت الولاية امتداداً للرسالة فلا غرابة في أن تكون أجر الرسالة ، خصوصاً مع ما نعرف من تأكيدات رسول الله صلّى الله عليه وآله على أهل بيته وقرباه المنتجبين.
لقد أكّد رسول الله على العترة بدءًا من ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (51).
ومروراً بحجّة الوداع التي خطب فيها رسول الله خمس مرّات ، وختماً بالكتاب الذي منعوه من كتابته في آخر حياته الشريفة.
قال الحلبي في سيرته : « خطب النبيّ خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجّة بمكّة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم القرّ بمنى ، والخامسة يوم النَّفر الأوّل بمنى » (52).
وقد روى مسلم وأحمد وغيرهما ـ خطبته صلّى الله عليه وآله عند مرجعه من حجّة الوداع إلى المدينة ـ عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله منه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي.
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟
قال : نساؤه من أهل بيته ؟! ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال : ومن هم ؟
قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عبّاس.
قال : كلّ هؤلاء حرم الصدقة ؟
قال : نعم (53).
وعن أبي هريرة : من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستّين شهراً ، وهو يوم غدير خُمّ لمّا أخذ النبيّ بيد عليّ بن أبي طالب فقال : ألستُ وليَّ المؤمنين ؟
قالوا : بلى يا رسول الله.
قال : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه.
فقال عمر بن الخطاب : بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم ! فأنزل الله عزّوجلّ ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (54).
عَود على بدء
كانت هذه مقدّمة أتينا بها كي نوضّح وجه أفضليّة الولاية على العبادات الأربع الأخرى ، إذ الصلاة تتركها الحائض ، والصوم يتركه المريض ، والزكاة والحج ساقطان عن الفقير ، أمّا الولاية فهي واجبة على الصحيح والمريض والغني والمعسر ، لأنّها مفتاحهنّ ، وبأهل البيت تُعرف الأحكام ، وتُقبل العبادات ، ويُعبد الله ، فهم باب الله الذي منه يُؤتى « وبالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف » (55) لأنّه الضمان الإلهي للشر يعةَ. ونحن نعلم بأن الشريعة مرّت بمرحلتين :
١ ـ التأسيس على يد الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.
٢ ـ الصيانة من الانحراف ، وهو دور الأئمة المفترضي الطاعة ، وهو ما كان يؤكّد عليه الرسول للأمّة ، يحذّرها من الابتعاد عنهم لأنّ ذلك سيؤدّي بهم إلى الضلال.
وقد كان النهج الحاكم في تعارض مع هذه الصفوة الطاهرة ، فما من الصفوة إلّا مقتول أو مسموم ، وقد ثبت في علم السياسة والاجتماع أنّ جميع الثورات الفكر يّة ، إذا مات زعماؤها ، وتولّى إدارتها غير الأكفاء انحرفت عن مسارها الذي اختطّه لها صاحبها ، أمّا إذا واصل المسيرة الأكفاء الذين يختارهم صاحب الثورة والتغيير ، فإنّها تبقى حيّة نابضة ، ولا تنحرف عن منهاجها الأصلي. هذا عن القسم الأوّل من السؤال.
أمّا ارتباط برّ فاطمة وولدها بالأذان والصلاة ـ كما في بعض الروايات ـ (56) فهو معنى تفسيري للجملة ، ومن قبيل بيان المعاني المشكلة والمتشابهة أو الخفيّة والمجملة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة ، فالإمام قد يكون أراد بتوضيحه ذلك بيان ما هو المقصود في العلم الإلهي ، وبيان ما حدث بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله من عقوق لفاطمة ؛ فبعد إقصاء عليّ عليه السلام عن الخلافة ـ أيّ ترك الولاية التي هي خير العمل ـ عقّوا فاطمة فغصبوا منها فدكاً (57) ، وروّعوها ، وهدّدوها بحرق دارها (58) حتّى ماتت غاضبة عليهما (59) ، كما عقّوا ولدها فمضوا مسمومين مقتولين مشرّدين. ولو تمسّك القوم بالولاية التي هي خير العمل لبَرّوا فاطمة وولدها ، ولما خرجت الخلافة من أهلها ، ومن هنا نعلم أن تفسير الحيعلة الثالثة تارة بالولاية ، وأخرى ببرّ فاطمة وولدها ، إنّما هما وجهان لعملة واحدة ، وعبارتان تدلّان على معنى مشترك واحد ، وهو أنّ محمّداً وعليّاً وأولادهم المعصومين هم خير البريّة.
ولعلّ القارئ الكريم قد وقف على جذور هذا الأصل الديني من القرآن والعترة فيما وضّحناه سابقاً في البحوث التمهيديّة ، من أنّ تشر يع الأذان سماويٌّ ، وهو يحمل في طياته سمات معنويّة وأسراراً عالية ، وأنّه بيان لأصول العقيدة وكليّات الإسلام ، لأنّ الأذان ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط ، بل إنّ آثاره تجري في عدّة أمور ، فهو بيان لما ابتنى عليه الدين الإسلامي من التوحيد والنبوّة ـ والإمامة في نظر الإماميّة ـ.
إنْ إكمال الدين وإتمام النعمة لا يكون إلّا بإمامة عليّ وولده ، وهذا ما دلّلت عليه الكتب الكلاميّة ، ودلّت عليه الآيات الكر يمة التي منها آية التطهير وآية الولاية ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ ... ) وآية المباهلة ، وسورة الدهر ، وغيرها من عشرات الآيات والأحاديث ـ إن لم نقل المئات ـ دالّة عليه ، وهذا ما يجب أن يعتقد به كلّ مسلم ؛ إذ عرفتَ أنْ لا صلاة كاملة ومقبولة إلّا بولايتهم.
إنّ عبارة « حيّ على خير العمل » الدالّة على الإمامة هي جزء من الأذان ؛ لما تظافرت به روايات الإماميّة الإثني عشريّة ، والزيديّة ، والإسماعيليّة ، ولوجودها حتّى في مصادر أهل السنّة ، وقد أذّن بها كبار الصحابة ، وحكي عن الإمام الشافعي والإمام مالك القول بجزئيّتها ، وسنزيد المسألة وضوحاً وجلاءً في الباب الثالث « أشهد أنّ عليّاً ولي الله بين الشرعيّة والابتداع » من هذه الدراسة ، ضمن بحثنا عن شرعيّة الشهادة الثالثة أو بدعيّتها.
ما وراء حذف الحيعلة الثالثة
نصَّ التفتازاني والقوشجي وغيرهما على دافع الخليفة عمر بن الخطّاب إلى حذف هذا الفصل من الأذان ، واتّفق الزيديّة والإسماعيليّة والإماميّة على ثبوت هذا الحذف عنه ، في حين جرى التعتيم على هذه النقطة في أغلب كتب أهل السنّة ، على الرغم من تأكيد كثير من النصوص التار يخيّة والحديثيّة المتناثرة في المصادر على حذف عمر لحيّ على خير العمل للدافع الذي أعلنه.
إنّ ما ذكر من تعليل لحذف الحيعلة الثالثة قد يكون وجيهاً عند عمر بن الخطّاب ؛ لانسجامه مع نفسيّته ومنهجه في فهم النصوص ، وللظروف التي كان يعيشها من غزوات وحروب وتوسيع لرقعة الدولة ، وهو ممّا يستوجب بالطبع جمع الطاقات وتوظيفها للغرض المنشود ، وعدم السماح للمتقاعدين في التشبث بعلل قد تبعدهم عن الجهاد ، من جملتها الاتّكال على الصلاة أو الولاية باعتبارهما خير العمل.
لكنّ هذا السبب في منع عمر بن الخطاب ترد عليه عدّة أمور :
أوّلها : إنّ الغزوات والحروب كانت أعظم وأكثر على عهد رسول الله ، وكانت ظروف انبثاق الدولة الإسلاميّة الفتيّة وبداية انطلاقها لنشر دين الله أدعى إلى حذف هذه الحيعلة من قِبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ لو صحّ هذا التعليل ـ من الظروف التالية التي عاشها الخليفة بعد استقرار أمور الدولة بشكلها الذي كانت عليه. فلماذا لم يحذف رسولُ الله صلّى الله عليه وآله هذا الفصل وحذفها عمر (60) ؟!
إنّ هذا لَيثير تساؤلاً حول صحّة هذا التعليل الذي فسّر به عمر حذفه هذا ، أو يومئ إلى وجود سبب آخر غير معلن في هذا السياق.
ثانيها : لو قبلنا التعليل السابق تنزّلاً لصحَّت مشروعيّة الحذف لفترة معيّنة ، لا أنّه يكون تشر يعاً لكلّ الأزمان ، ذلك أن سريان المنع إلى يومنا هذا ربّما يشير إلى أمر آخر.
ثالثها : إنّ هذا التعليل من قبل الخليفة لا يتّفق مع ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله من قوله : « اعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة » وهو لا يتّفق أيضاً مع قوله صلّى الله عليه وآله عن الصلاة : « إنّها عمود الدين إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدَّت رُدّ ما سواها » ، فلو صحّ تعليل الخليفة وأنّه أراد أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويَدَعُوا الجهاد ، للزم من ذلك تخطئة كلّ النصوص الدالّة على أنّ الصلاة خيرُ موضوع وخير الأعمال ، وأنّها وسيلة لقبول الأعمال وردّها.
رابعاً : من المعلوم أنّ المسلمين صاروا بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله نهجين : أحدهما : نهج الخلفاء ، والآخر نهج أهل البيت. وكان هؤلاء على تخالف في كثير من القضايا السياسيّة والفقهيّة ، فلمّا منع عمر الحيعلة الثالثة نَسَبَ نهجُ الخلفاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله المنعَ تأييداً للخليفة عمر بن الخطاب ، حتّى إذا جاء الخلفاء اللاحقون منعوا هذا الفصل من الأذان واستقبحوه من الناس ، ولأجله ترى انحسار الروايات الدالة على الحيعلة في كتب الجمهور ، لكنّ الطالبيِّين أصرّوا على الإتيان بها على الرغم من هذا المنع.
وبذلك تحزّب أبناء السنّة والجماعة لمذهب عمر بن الخطاب وحكمّوا رأيه في مقابل موقف الإمام عليّ وأولاده الذين خالفوا هذا المنع وأصرّوا على الحيعلة الثالثة رغم كلّ الظروف والمشاكل ، كما ستقف عليها لاحقاً.
خامساً : إنّ المطّلع على مجريات الأحداث في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ مَن بعده يقف على حقيقة جليّة ، هي أنّ قر يشاً لم تكن ترضى باجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، وكانت تطمع في الخلافة من بعده صلّى الله عليه وآله ، فكانوا يشترطون على رسول الله أن يبايعوه بشرط أن يجعل لهم نصيباً في الخلافة من بعده ، لكنّه صلّى الله عليه وآله كان يقول : « إنّ الأمر لله يجعله حيث يشاء » (61) وليس الأمر بيدي.
وجاء عن ابن عبّاس : إنّ عمر بن الخطاب قال له في أوائل عهده بالخلافة : يا عبدالله ، عليك دماء البُدن إن كتَمتَنيها ... هل بقي في نفسه [ يعني عليّ بن أبي طالب ] شيء من أمر الخلافة ؟
قلت : نعم.
قال : أيزعم أن رسول الله نصَّ عليه ؟
قلت : نعم. وأزيدك : سألتُ أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صَدَق.
قال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً ، وكان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام ... فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (62).
وقال العيني في عمدة القاري : واختلف العلماء في الكتاب الذي هم بكتابته فقال الخطابي : يحتمل وجهين ، أحدهما انّه أراد أن ينصّ على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين (63).
ولو جمعنا ما جاء عن ابن عبّاس ، مع ما قاله عمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله عند مرضه ـ حينما قال صلّى الله عليه وآله : ائتوني بدواة وقلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فقال عمر : إنّ الرجل لَيَهجُر (64) ـ مع ما قاله رسول الله لعمر لمّا أتاه بجوامع من التوراة : والذي نفسُ محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لَضللتُم (65) ، مع قول رسول الله في حديث الثقلين « ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » ، لو جمعنا كلّ ذلك لوقفنا على حقائق مذهلة ، ولعرفنا موقف النهج الحاكم بعد رسول الله من أهل بيت الرسالة وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر (66). ولعرفنا أيضاً مدى المفارقة بين ترك برّ فاطمة وترك الدعوة للولاية وبين تأكيدات الرسول على الاهتمام بالعترة تلو يحاً وتصر يحاً ، مِن مِثل وقوفه صلّى الله عليه وآله كلّ يوم ـ مدّة ستّة أشهر ـ على باب فاطمة بعد نزول آية التطهير يناديها للصلاة بقوله « الصلاة الصلاة ، إنّما ير يد الله ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً » (67).
وممّا يَحسُن بنا أن نتفطّن له هو أن هذا الموقف من رسول الله إنّما يُنبئ عن وجود ترابط عميق بين برّ فاطمة وولدها ومسألة الصلاة ، وبمعنى آخر بين الولاية والعبادة ، إذ أنّ وقوف الرسول المصطفى على باب فاطمة لمدّة ستّة أشهر لا يمكن تصوّره لغواً بأيّ حال من الأحوال ؛ لأنّه صلّى الله عليه وآله كان يقف داعياً المطهَّرين من عترته إلى الصلاة ، مُعلِماً بوجود لون من التواشج بين الصلاة والعترة. ورسولُ الله حلقةُ الوصل والربط بين ركيزة التوحيد « الصلاة ، الصلاة » وبين الولاية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ... ). ونلحظ في هذا النصّ : قول الله « القران » ، وفعل الرسول « الوقوف » ، ونتيجة لزوم الاعتقاد بمنزلة العترة والقربى وأن مودّتهما وطاعتهما عبادة منجية.
سادساً : إن الخلفاء المتأخّر ين أيضاً أدركوا سرّ الحيعلة الثالثة فحرصوا أشدّ الحرص على حذفها ، ولم يرضوا بها ممّن خطب لهم ولَبِسَ خِلَعَهم وانضوى تحت لوائهمَ ، بل أصرّوا على ضرورة حذفها ؛ لأنّها رمز يشير إلى بطلان حكوماتهم. وسيأتيك ذلك في الفصل الرابع لدى الكلام عن تاريخ الحيعلة في مكّة وحلب سنة ٤٦٣ هـ. وحسبك منها ما كان من القائم بأمر الله العبّاسي ، حين أخبره نقيب النقباء أبو الفوارس طرّاد بأنّ محمود بن صالح خطب له بحلب ولبس الخلع القائمية ، حيث قال له : أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون بـ « حيّ على خير العمل » !!
كلّ هذه النصوص توكّد أنّ المراد الأساسي من « خير العمل » هو برّ فاطمة وولدها ، والولاية والإمامة التي بها قوام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسواها ... لا شيء آخر ، فصار الخليفة ـ حسب كلام الإمام المعصوم ، والاستقراء التاريخي ـ لا يرضى أن يقع « دعاء إليها وتحريض عليها » ، لأن ذلك يعني التشكيك بشرعيّة خلافته وخلافة مَن قبله ، وهو المعنيّ من كلامه عليه السلام « ما نودي بشيء كالولاية ».
وجاء في الغَيبة للنعماني عن عبدالله بن سنان أنّه عليه السلام قال في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشر يف : وأنّه سيكون في السماء نداء « ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته ».
قال عليه السلام : فـ ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) على الحقّ وهو النداء الأوّل (68) ، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض ، والمرضُ واللهِ عداوتُنا (69).
ولو قرأنا تفسير الأئمّة لقوله تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) لعرفنا المنزلة العظيمة للولاية وسبب معاقبة عمر للقائل بها ، لأنّ الكلم الطيّب لو كان قد صعد إليه سبحانه وتعالى بنفسه ، فما معنى العمل الصالح يرفعه إذن ؟!
روى الكليني بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال : ولايتنا أهل البيت ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً (70).
وعن الرضا عليه السلام في قوله تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال : الكلم الطيّب هو قول المؤمن : « لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ ولي الله وخليفة محمّد رسول الله حقّاً حقّاً وخلفاؤه خلفاء الله » ، والعمل الصالح يرفعه ، فهو دليله ، وعمله اعتقاده الذي في قلبه بأنّ هذا الكلام صحيحٌ كما قلته بلساني (71).
وعن فاطمة الزهراء بنت محمّد ، قالت : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى ) فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني ، فسمعت أذاناً مثنى مثنى ، واقامة وتراً وتراً ، فسمعت منادياً ينادي : يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي اشهدوا انّي لا إله إلّا أنا وحدي لا شريك لي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن محمّداً عبدى ورسولي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن عليّاً وليّي ووليّ المؤمنين بعد رسولي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ... (72)
وبهذا يفضي بنا البحث إلى أنّ التعليل الحقيقي لمنع عمر بن الخطاب للحيعلة الثالثة هو اطلاعه على المقصود من عبارة « حيّ على خير العمل » في الأذان ، ودلالتها على ولاية أهل البيت ، لصرف الانتباه عنها ، وذلك بكتمانها وحذفها ، فمَنَعها تحت غطاء الحفاظ على كيان الدولة الإسلاميّة وتوسيع رقعتها بالجهاد ، لكن الطالبيين قد أدركوا هذا الأمر وأصرّوا على الإتيان بها رغم كلّ الظروف الحالكة ، وهذا ما ستقرأه بعد قليل إن شاء الله تعالى.
ولذلك كان الإمام عليّ عليه السلام في أيّام خلافته يلمح ويشير إلى أنّ حذف « حيّ على خير العمل » كان جوراً عليه وعلى الإسلام ، فكان إذا سمع مؤذّنه يقول « حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل » قال : مرحباً بالقائلين عدلاً (73) ، معرّضاً بمن رفعها ، لأنّ عليّاً هو خير العمل وهو العدل الذي يدور مع القرآن حيثما دار ويدور معه القرآن أيضاً.
والذين ظنّوا أنّ الصلاة تقتصر على شكلها الظاهري دون المحتوى الذي هو الطاعة (74) سعوا إلى ترسيخ فكرة أن هل البيت ومودّتهم ليست خير العمل ، فكان لحذفها من الأذان مغزى عرفه أهل البيت فأنكروا حذفها ، كما عرفه مخالفوهم فأصرّوا على حذفها.
ومن خلال هذه الدلائل العديدة استبان لنا أنّ « خير العمل » كناية عن إمامة عليّ عليه السلام التي هي امتداد لنبوّة النبيّ ، وامتداد للتوحيد ، وهذا ما رواه الباقر والصادق عليهما السلام من أئمّة أهل البيت في قوله تعالى ( فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) قالا : هو « لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ أمير المؤمنين وليّ الله » ، إلى ها هنا التوحيد (75).
وقد سئل الشريف المرتضى : « هل يجب في الأذان بعد قول « حيّ على خير العمل » « محمّد وعلي خير البشر » ؟ فأجاب قائلاً : « إن قال : محمّد وعلي خير البشر ـ على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ـ جاز » (76).
وهذا يعني أنّ هذا التفسير لحي على خير العمل كان سائداً في لسان المتشرّعة منذ زمن أهل البيت وحتّى يومنا هذا.
وقد أفتى القاضي ابن البرّاج باستحباب ذكر هذا التفسير ، فقال : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند « حيّ على خير العمل » : « آل محمّد خير البريّة » ، مرّتين (77).
وكون عليّ عليه السلام هو المراد من « حيّ على خير العمل » ، والنبيّ من « حيّ على الفلاح » ، وطاعة الربّ وعبادته من « حيّ على الصلاة » ، فيه من وجوه البلاغة ما لا يخفى ، إذ فيه من أنواع البديع ما يسمّى بالتلميح ، وهو أن يشار في الكلام إلى آية من القرآن أو حديث مشهور أو شعر مشهور أو مثل سائر أو قصّة أو معنى معروف ، من غير ذكر شيء من ذلك صريحاً. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود.
قال الطيبي في التبيان : ومنه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) قال جارالله الزمخشري : قوله : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) فيه دلالة على تفضيل محمّد صلّى الله عليه وآله وهو خاتم الأنبياء ، وأنّ أمّته خير الأمم ، لأنّ ذلك مكتوب في الزبور ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) ، قال : وهو محمّد صلّى الله عليه وآله وأمّته (78).
فهنا ألمح الله سبحانه وتعالى لعباده بأن الصلاة له لا لغيره ، وأنّ الفلاح الذي قامت به الصلاة هو اتباع رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله ، لا الاجتهاد مقابل النصّ ، وانّ خير العمل هو الإيمان بالإمامة والولاية لعلي عليه السلام التي هي امتداد للنبوّة والتوحيد ، وبها قوام العبادات التي عمودها الصلاة.
وهناك عشرات إن لم تكن مئات الأدلّة على أنّ خير العمل ولاية عليّ ، وان ضربته يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين ، وأنّ الأعمال لا تُقبل إلّا بولايته ، ومعان أخرى متّصلة بهذا الموضوع. وقولنا في الأذان « حيّ على خير العمل » فيه تلميح لكلّ تلك المعاني التي صدع بها رسول الله صلّى الله عليه وآله في حق عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.
والواقع أنّ كون أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو خير البشر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله إنّما هو معنىً قرآني نطقت به آية من سورة « البيّنة » المباركة ، وصرّح به النبيّ صلّى الله عليه وآله في تفسير الآية ، وتداولته المصادر السنيّة ، وكان هذا المعنى ممّا آمن به كبار من الصحابة المعروفين ، حتّى صار في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله جزءً من الثقافة الإيمانيّة القرآنية السائدة.
فقد روى الطبري بإسناده عن محمّد بن عليّ الباقر لما نزل قوله تعالى : ( أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ : أنت يا عليّ وشيعتك (79).
والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب بإسناده عن جابر بن عبدالله مرفوعاً عن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال : عليّ خير البشر من شكّ فيه فقد كفر (80).
وغيرها من عشرات الطرق والأسانيد عن الصحابة والتابعين.
وبعد كلّ هذا تعلم أنّ قول « محمّد وآل محمّد خير البريّة » أو « محمّد وعليّ خير البشر » عند الحيعلة الثالثة أو بعدها إنّما هو توضيح لمعناها الذي حاول الحكّام كتمه ، وأن هذا التوضيح والتفسير ما هو إلّا استلهام من نصوص القرآن والسنّة ، وسيرٌ على الخطوات الصحيحة التي رسمها رسول الله صلّى الله عليه وآله لأمّته.
وستعلم بما لا مزيد عليه ـ في الباب الثالث من هذه الدراسة « أشهد أنّ عليّاً ولي الله بين الشرعيّة والابتداع » ـ أن إتيان الأئمّة : وأتباعهم بهذه العبارات ما هو إلّا تفسير لمعنى الحيعلة الثالثة ، وهو من قبيل الإتيان بتفسير بعض الآيات تفسيراً مرتبطاً بنصّ الآية ونسقها ، وهذا النوع من التفسير ممّا تحفل به كتب الفريقين بلا أدنى ريب (81) ، وهو التفسير المقبول الذي اصطلح على تسميته البعض بـ « التفسير السِّياقي ».
الهوامش
1. علل الشرائع : ٢٥٩ الباب ١٨٢ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ١٠٣.
2. معاني الاخبار : ٤٢ ، علل الشرائع : ٣٦٨ الباب ٨٩ ، وعنهما في بحار الأنوار ٨١ : ١٤١.
3. الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي بتحقيق عزّان : ١٣٥ الحديث ١٦٩.
4. التوحيد للصدوق : ٢٤١ ، وعنه في بحار الأنوار ٨١ : ١٣٤.
5. علل الشرائع : ٣٦٨ العلة ٨٩. وعنه في بحار الأنوار ٨١ : ١٤٠.
6. المحاسن ١ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ باب الشرايع ، والكافي ٢ : ١٨ باب دعائم الإسلام ح ١ و ٣ و ٨.
7. جاء في الخصال : ٢٧٨ ح ٢١ باب الخمسة بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال : « قال أبو جعفر عليه السلام : بني الإسلام على خمس : اقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والولاية لنا أهل البيت ، فجعل في أربع منها رخصة ، ولم يجعل في الولاية رخصة. من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة ، ومن لم يكن له مال فليس عليه حجّ ، ومن كان مريضاً صلّى قاعداً وافطر شهر رمضان ، والولاية صحيحاً كان أو مريضاً أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمه ».
8. انظر : فضائل الصحابة ، لأحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٤ ح ١٠٦٨ وفيه زيادة : وشيعتنا من ورائنا.
9. انظر : مسند زيد بن علي : ٤٦٣ و ٤٦٦ الباب ٤ في فضل الحسنين « نشر دار الحياة » وهذا المطلب غير موجود في ما اعتمدناه في تخريج الروايات عن مسند زيد ، فانه ينتهي إلى آخر كتاب الفرائض ، وهو من منشورات دار الكتب العلميّة.
10. تفسير الكشاف ٣ : ٤٠٣ ، وفي تفسير القرطبي ١٦ : ٢١ ـ ٢٣ في ذيل الآية حكى عن الثعلبي هذه الرواية فذيّله بـ « ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له من شفاعتي ».
11. التفسير الكبير للرازي ٢٧ : ١٦٦ ، وديوان الشافعي : ٨٤.
12. تفسير عليّ بن إبراهيم كما في نور الثقلين ٣ : ١٣١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢ ، وانظر : الدّر المنثور ٤ : ١٥٣ والمستدرك للحاكم ٣ : ١٥٦ ، والمناقب لابن المغازلي : ٣٥٧ ، وتاريخ الخميس ١ : ٢٧٧.
13. أُسد الغابة ٤ : ٣٠.
14. الغريبين للهروي ١ : ٢٢٢ مادة « بور » ، ذكر اوّل الحديث ، تاج العروس ٣ : ٦١ مادة « بور » ، وغيرهما.
15. الدر المنثور ٦ : ٦٦.
16. ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حقّ علي عليه السلام :
إذا ما التِّبر حُكّ على محكٍّ |
تبيّن غشّه من غير شكِّ |
|
وفينا التبر والذهب المصفّى |
عليّ بيننا شبه المَحكِّ |
الكنز المدفون للسيوطي : ٦٨.
17. صحيح مسلم ١ : ٨٥ ح ١٢٩ كتاب الايمان.
18. شرح مسلم ١ ـ ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، كتاب الايمان / باب ٣٣.
19. المعجم الكبير ١ : ١٠٨ و ٢٢ : ٤٠١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤ ، الإصابة ٨ : ٢٦٦.
20. المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١.
21. الحق المبين : ٧٩ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.
22. المستدرك ٣ : ١٢٤ قال صحيح ولم يخرجاه ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧ ، كنز العمال ١١ : ٦٠٣.
23. الحقّ المبين : ١٠٥ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.
24. سنن الترمذي ٥ : ٣٠٠ ح ٣٨٠٣ ، مصنف بن أبي شيبة ٧ : ٥٠٤ ح ٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ح ١١٩.
25. صحيح البخاري ٣ ـ ٤ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ...
26. صحيح مسلم ٦ : ٤ كتاب الامارة ، سنن بي داود ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٨٠.
27. وسائل الشيعة ١٦ : ٢٤٦ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
28. المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٧٣.
29. تفسير ابن كثير ٤ : ١١٣ سورة الشورى.
30. تفسير ابن أبي حاكم ١٠ ص ٣٢٧٧.
31. الاحتجاج : ٣٠٧ ، وتفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢ سورة الشورى.
32. اُسد الغابة ٥ : ٣٦٧.
33. الكافي ٨ : ٣٧٩ / ح ٥٧٤ ، البرهان ٧ : ٧٩.
34. سورة الشورى الآية : ٢٣.
35. كنز العمال ١١ : ١٢٤/٣٠٨٧٧.
36. الارشاد ٢ : ١٦٧ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٠٦ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٨٨ ح ١١ عن الارشاد.
37. مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٥ باب في حساده.
38. المناقب للخوارزمي : ٣٥٠ الفصل ١٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٩ : ٤٨١.
39. حلية الأبرار ٢ : ١٣٦ « للبحراني » ، مشارق أنوار اليقين للبرسي : ١٧١ ، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق ٣ : ٤٠٦ ، ٤ : ٢. وقد نسب العلّامة الحلي هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر : كشف اليقين : ٤.
40. المائدة : ٦٧.
41. الشعراء : ١٠٩.
42. الشعراء : ١٢٧.
43. الشعراء : ١٤٥.
44. الشعراء : ١٦٤.
45. الشعراء : ١٨٠.
46. الأنعام : ٩٠.
47. يوسف : ١٠٤.
48. الفرقان : ٥٧.
49. سبأ : ٤٧.
50. للإمام الباقر توضح بهذا الصدد انظر : روضة الكافي ٨ : ٣٧٩.
51. الشعراء : ٢١٤ ، وانظر : في تفسيرها كتب التفاسير والتواريخ أخبار أوّل البعثة.
52. السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٣.
53. صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ، مسند أحمد ٤ : ٣٦٧.
54. تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٣٣ ، الدر المنثور ٢ : ٢٥٩ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠.
55. انظر : الكافي ١ : ٢٢٤ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٦٧٧ ، معاني الأخبار : ٩٧.
56. كرواية معاني الأخبار : ٤٢ ، وعلل الشرائع ٢ : ٢٥٦.
57. انظر : شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٠٩ ـ ٢٥٣ و ١٧ : ٢١٦ ، الاحتجاج ١ : ٢٦٧ ، الاختصاص : ١٨٣.
58. جاء في تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ بسند معتبر ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقد كانت فاطمة في البيت ، فقالوا لعمر : إنّ في البيت فاطمة ! قال : وإنْ « انظر الإمامة والسياسة ١ : ١٢ ، اعلام النساء ٤ : ١١٤ ».
59. جاء في صحيح البخاري ٢ : ٥٠٤ كتاب الخمس باب ٨٣٧ باب فرض الخمس ح ١٢٦٥ بسنده عن أم المؤمنين عائشة أنّها اخبرته : أن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله سألت أبا بكر الصدّيق بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله ، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستّة أشهر.
60. وهذا التعليل والرد ، ورد نظيرهما في إتمام عثمان للصلاة بمنى ، بحجّة خوفه أن يظنّ الناس أنّ صلاة القصر هي المفروضة ، فأجابه الصحابة بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يقصر الصلاة وينبّه المسلمين على أنّ ذلك مخصوص بمنى. فلو صحّ تعليل عمر ، لكان يمكنه أن يقر الحيعلة الثالثة في الأذان وينبّه المسلمين على ضرورة الجهاد ، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يفعل ذلك. وهذا التشابه في أدوار الخليفتين الثاني والثالث يوقفك على مسار تيار الحكّام المجتهدين.
61. انظر : حديث عامر بن صعصعة في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٨٩ ، وحديث قبيلة كندة في سيرة ابن كثير ٢ : ١٥٩ ، وهما يدلّان على ما نقوله.
62. شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢١ وقال : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
63. عمدة القارئ ٢ : ١٧١.
64. وفي نصّ البخاري « إنّ الرجل قد غلب عليه الوجع » ، وكلاهما إساءة للرسول المصطفى.
65. سنن الدارمي ١ : ١١٥ باب ما يتقي من تفسير حديث النبي صلّى الله عليه وآله ، مسند أحمد ٤ : ٢٦٦ ، المصنف لعبد الرزاق ٦ : ١١٣ باب مسألة أهل الكتاب ، أسد الغابة ٣ : ١٢٧.
66. صحيح البخاري ٥ ـ ٦ : ٢٥٣ ، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح ٧٠٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٧٩ ، كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث إنّما تركناه صدقة ، تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ١٩٧.
67. مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ ، ٢٨٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٥١ ح ٣٢٠٥ ، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الأحزاب ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٥٨ ، مصنف ابن أبي شيبة ٦ : ٣٩١ ح ٣٢٢٦٢ ، كتاب الفضائل باب في فضل فاطمة عليها السلام.
68. دون النداء الثاني الذي ينادي به إبليس لعنه الله.
69. الغيبة للنعماني ١٧٣ ـ ١٧٤ باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم.
70. الكافي ١ : ٣٤٠.
71. تفسير الإمام العسكري ٣٢٨ ح ١٨٤ وعنه في تأويل الآيات : ٤٦٩ والنصّ عنه.
72. تفسير فرات الكوفي : ٣٤٢ في آخر تفسير سورة الأحزاب.
73. الفقيه ١ : ٢٨٨ / ح ٨٩٠.
74. أيّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة وليّه ، والأخيران منتزعان من الأولى ، وقد مرّ عليك قوله صلّى الله عليه وآله : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني ، وقوله صلّى الله عليه وآله : فاطمة بضعة منّي ... فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جلّ وعلا.
75. تفسير القمّي ٢ : ١٥٥ عن الباقر ، ونحوه عن الصادق عليه السلام في التوحيد وبصائر الدرجات.
ولا يخفى عليك أن للتوحيد مراتب ، فهناك توحيد الربوبيّة ، وتوحيد الألوهيّة ، وتوحيد الطاعة ، فانّه سبحانه وتعالى مع كونه ( لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ـ و ( هُوَ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ، و ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ، وهو الذي ( يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، ـ فإنّ هذا المعنى غيرُ معارَض بمثل قوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ).
وإن قوله تعالى ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) لا يعارض ما جاء من الشفاء بالقرآن في قوله تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) وبالعسل ( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ).
وكذا قوله : ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّـهُ ) فإنّه لا يعارض قوله ( وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) وإلى غيرها من عشرات الآيات.
فلا تخالُفَ إذاً بين نسبة الأفعال إلى الله جلّ جلاله ونسبتها في الوقت نفسه إلى غيره ، فلا يخالف قوله : ( إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) مع قوله : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) وكلاهما من كلام الباري. ومن هنا تأتي مسألة التوحيد ، فتوحيد الطاعة هو يعني لزوم إطاعة من أمر الله بطاعته ، ومن لا يطيع الرسول وأولي الأمر المفروض طاعتهم فانّه لم يطع الله لقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) وهذا لا يخالف قوله : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) فطاعة من أمر الله بطاعته هي طاعة لله ، ومن لم يطع الله ورسوله ومَن أَمر الله بطاعته لم يوحّد الله تعالى حق توحيده.
وعليه فطاعة أحدهما جاء على وجه الاستقلال ، والآخر على أنّه مظهر أمره سبحانه ، وليس هذا بشرك أو مغالاة كما يدّعون ، بل هو عين الإيمان وكمال الدين.
76. رسائل المرتضى ١ : ٢٧٩ ، مسأله ١٧ ، وجواهر الفقه لابن البراج : ٢٥٧ مسألة ١٥.
77. المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ باب الأذان والإقامة وأحكامهما.
78. أنوار الربيع ٤ : ٢٦٦. ومن هذا الباب تلميح أبي العلاء المعري للشريف المرتضى بقصيدة المتنبي : لك يا منازل في القلوب منازل. انظر : أنوار الربيع ٤ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣. هذا وقد أخذ الطيبي والزمخشري هذا عن تفسير النسفي ٢ : ٢٩٠ سورة الاسراء.
79. تفسير الطبري ٣٠ : ٢٦٤ ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣٧٩ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٧٣ ح ١١٢٥ ـ ١١٤٨ بأسانيد وطرق كثيرة.
80. الفردوس ٣ : ٦٢ ح ٤١٧٥ ، وانظر ترجمة الإمام عليّ لابن عساكر ٢ : ٤٥٧ ح ٩٨٩ بأسناده عن عائشة.
81. انظر : قراءه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة للآية ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ ) هكذا « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين ».
وحديث عائشة موجود في صحيح مسلم ، كتاب المساجد ، باب الدليل لمن قال : الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وسنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب وقت صلاة العصر ، وسنن الترمذي ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة ، وسنن النسائي ، كتاب الصلاة ، باب المحافظة على صلاة العصر ، وموطأ مالك ، كتاب الصلاة ، باب صلاة الوسطى ، وتفسير الآية في الدر المنثور ١ : ٣٠٢ و ٣٠٣ ، وفي فتح الباري ٩ : ٢٦٥ ، ومسند أحمد ٦ : ٧٣ و ٨٧٨ منه.
أمّا حديث حفصة فانظر فيه : موطأ مالك كتاب الصلاة ، باب الصلاة الوسطى ، ومصنف عبدالرزاق ، كتاب الطهارة ، باب صلاة الوسطى ح ٢٢٠٢ ، وتفسير الطبري ٢ : ٣٤٣ ، والدر المنثور ١ : ٣٠٢ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٥ ـ ٨٦.
أمّا حديث أُم سلمة ، فانظر فيه : الدر المنثور ١ : ٣٠٣ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٧.
وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب قوله تعالى : « فما استمتعتم به منهنّ فاتوهنّ أجورهنّ إلى أجل مسمى ».
وانظر : قراءة ابن عباس في المعجم الكبير ١٠ : ٣٢٠ ، والسنن الكبرى ٧ : ٢٠٥ ، والمستدرك للحاكم ٢ : ٣٠٥ ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٥ : ١٣٠ ، والكشاف ١ : ٥١٩.
وفي قراءة ابن مسعود. انظر نيل الأوطار ٦ : ٢٧٤ ، وشرح النووي على صحيح مسلم ٦ : ١١٨.
وفي قراءة أبي بن كعب. انظر جامع البيان للطبري ٥ : ١٩ ، والدر المنثور ٢ : ١٣٩. وهي قراءة علي كذلك.
مقتبس من كتاب : [ الأذان بين الإصالة والتحريف ] / الصفحة : 295 ـ 336
التعلیقات