عجز البشر عن الإتيان مثل القرآن
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنةعجز البشر عن الإتيان بمثله (1)
قد عرفت أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن ، وتَنَزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سُوَر ، بل سورةٍ من مثله .
وإنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي ، وذلك أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة ، مظهراً لهم النكير ، زارياً على أديانهم ، مسفّهاً آراءهم وأحلامَهم ، وهم أهل البلاغة والفصاحة ، وفيهم أساطينها وأركانها ، ولكنهم مع ذلك لم ينبثوا ببنت شفة ، ولم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن ، وإنّما سلكوا مسلكاً آخر ، فنابذوه وناصبوه الحرب ، حتى هلكت فيه النفوس ، وأُريقت المُهَج ، وقطعت الأرحام ، وذهبت الأموال .
ولو كان ذلك في وسعهم وتحت إقدارهم ، لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة ، ولم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزِن الوعر من الفعل . هذا ما لا يفعله عاقل ، ولا يختاره ذو لبّ . وقد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفرة العقول والألباب . وقد كان فيهم الخطباء المصاقع ، والشعراء المُفْلقون (2) .
قال الشيخ عبد القاهر : « إنّ المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لا تتبدل ، أن لا يسلِّموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم . كيف ، وإنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب ، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره ، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها ، يَدْخُلُه من الأَنفَة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يُظهر ما عنده من الفضل . هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ ، ولم يكن منه إليه ما يهزّ ويحرّك ، فكيف إذا كان المدعي بمرأى ومسمع منه ، فإنّ ذلك أدعى له إلى مباراته ، وأن يُعَرِّف الناس أنّه لا يقصر عنه ، أو أنّه منه أفضل ، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته ، فذلك الذي يُسْهِر ليله ويسلبه القرار ، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه ، ويبلغ أقصى الحدّ في مناقضته .
هذا ، فكيف إذا ظهر في صميم العرب وفي مثل قريش ، ذوي الأنفس الأبية ، والهمم العليّة ، من يَدّعي النبوة ويخبر أنّه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق ، ثم يقول وحجتي أنّ الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً ، تعرفون ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلّا أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ، ولا بعشر سُوَر منه ، ولا بسورة واحدة ولو جمعتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس .
فلا يتصور منهم السكوت والسكون في مقابل هذا الإدعاء ، إلّا إذا كانوا عاجزين » (3) .
دَفْعُ تَوَهّم
ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق ، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه وسوره ، ولكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام والمسلمين وسلطانهم على الجزيرة وخارجها .
والجواب : إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية ، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة ، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم . كيف ، وإن الإتيان بمثل معجزته ، يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف ، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم ، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم .
قال المحقق الخوئي ـ دام ظلّه ـ : « إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها ، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها ، وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيداً يوقعونه في كل مجلس ، وذكراً يرددونه في كل مناسبة ، وعَلَّمَه السلف للخلف ، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعى على حجّته ، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف . كيف ، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب ، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة » (4) .
يقول الخطابي : « إنّ هذا السؤال ساقط ، والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأُمور التي لها شأن ، وللنفوس بها تعلّق ، وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب ، وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عِظَمِ خطره ، وجلالة قدره ، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد ، وتنزّلت عليهم كتب من السماء ، وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة ، وكتم الخبر فيها فلم يظهر ، وهذا ممّا لا يحتمله عقل » (5) .
أقول : وممّا يدلّ على عدم وجود هذه المعارضة اللائقة بالذكر ، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب وغيره ممّن ادّعوا النبوة وأرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول ، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة ، لا يقام لها وزن ولا قيمة ، ما سيأتي عرضه وتحليله بعد هذا البحث .
على أنّ القرآن ما خصّ العرب الجاهليين بالتحدّي ، بل تحدّى جميع الناس سالفهم وحاضرهم ، وهناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام ويتبعون ثقافات حديثة ، وتؤيدهم القُوَى الكبرى الكافرة . فلو كانت المكافحة أمراً ممكناً لقام هؤلاء بهذه المهمة وأراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحطّ من كرامة هذا الدين ، والنيل من نبيّه الأعظم وكتابه المقدّس ، ولاحتفلوا بذلك في أنديتهم ومؤتمراتهم العالمية ، وزعزعوا بذلك إيمان المسلمين ، الذي هو أُمنيتهم الكبرى . ومع ذلك ، لا ترى من هذا الأمر عيناً ولا أثراً .
* * *
ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من كتب التاريخ ، عبارات وجمل منثورة ، يشبه ـ بحسب الظاهر ـ أُسلوبها أُسلوب القرآن ، زُعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة ، وعارضوا بها القرآن الكريم ، وهذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي .
* * *
هل عورض القُرآن الكريم ؟
إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وأنّ بعضهم ادّعى النبوة ، وجعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة وبيّنة .
ونحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ ، وننقل بعض ما نسب إليهم ، حتى يُعلم أنّ ما سمّوه مُعارضاً للقرآن الكريم ، ليس إلّا كلاماً ساقطاً ، لا يقام له وزن ، بل لا يداني بلاغة كلام الأُدباء المعروفين .
1 ـ مسيلمة الكذاب
ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : « مِنْ مُسَيْلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك . أمّا بعد ، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون » .
فلما جاء الكتاب ، كتب رسول الله إلى مسيلمة : « بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهُدى . أمّا بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمُتَّقين » .
وذلك في آخر سنة عشر (6) .
وذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله مع مسيلمة ، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ، ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وتكذّب له ، وقال : « إنّي قد أُشركت في الأمر معه » . ثم جعل يسجع السجاعات ويقول لهم فيما يقول ، مضاهاةً للقرآن . وذكر من كلامه هذا :
« لقد أَنْعَمَ الله على الحُبْلى ، أَخْرَج مِنْها نَسَمَةً تَسْعى ، بين صِفاقٍ وحَشَى » (7) .
إنّ هذين الكلامين ، يكفيان شاهداً على ما لم نذكره . أمّا كتابه ، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة ، أداة للحكومة ، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه وبين رسول الله . فانظر إلى جواب رسول الله ، المُقْتَبس من القرآن الكريم : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّـهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (8) .
وأما قرآنه المنحول ، المفترى على الله سبحانه ، فما هو إلّا جُمَل وفصول توازن سجع الكهان ، حاول أن يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه . وممّا اصطنعه في هذا المجال :
« الفيل ، ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » .
« يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، نصفك في الماء ونصفك في الطين ، لا الماء تكدِّرين ، ولا الشارب تمنعين » .
وعلى هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة إليه . وكلها تعرب عن جهل وحماقة فيه . ولذلك ، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة ، وخرجا من عنده ، وقال الأحنف لعمّه . « كيف رأيته ؟ » ، قال : « ليس بمتنبيء صادق ، ولا بكذّاب حاذق » (9) .
ما هي حقيقة المعارضة ؟
معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً ، يجيء الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين ، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين . وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه ، ثم يبدل كلمة مكان كلمة ، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق ، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة . وها نحن نأتي ببعض المعارضات التي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين ، فهذا النابغة الذبياني يصف لَيْلَهُ في أشعاره المعروفة التي يعتذر فيها للنعمان ، ويقول :
كليني لهمّ يا أميمة ناصبِ |
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ |
|
تَطاوَلَ حتى قُلت ليس بِمُنْقَضٍ |
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ |
|
بصدرٍ أراح الليْل عازِب همِّه |
تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ |
ونرى أنّ امرىء القيس يقول في نفس الموضوع :
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله |
عليّ بأنواع الهُموم ليبتلي |
|
فقلت له لمّا تمطّى بصُلْبه |
وأردف أعجاز وناء بكلكلِ |
|
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي |
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ |
|
فيا لكَ من ليلٍ كأن نجومه |
بكل مغار الفتل شدّت بِيَذْبُلِ |
هذه هي حقيقة المعارضة ؛ فقول النابغة متناه في الحسن ، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله ، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام ، خصوصاً قوله : « بصدر أراح الليلُ عازب همِّه » . وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة . إلّا أنّ في أبيات امرىء القيس من ثقافة الصنعة ، وحسن التشبيه ، وإبداع المعاني ، ما ليس في أبيات النابغة ، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً ، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً ، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة ، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح ، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح ، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه ، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء . . . إلى آخر ما في شعره من النكات .
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة ، فيقع بها الفضل بين الكلامين ، من تقديم لأحدهما ، أو تأخير ، أو تسوية بينهما . لا بمثل ما أتى به هؤلاء المهزّلون ، من الإكتفاء بالوزن والفواصل ، من دون نظر إلى المعاني . وهذا هو السائد في كل المعارضات التي نسبت إلى المعارضين .
وللمعارضة صور أُخرى ذكرها الخطابي في بيان إعجاز القرآن (10) .
مثال آخر
نرى أنّ جريراً يمدح بني تميم ويعرفهم بأنّهم كل الناس ، في قوله :
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميمٍ |
حسبت الناسَ كلُّهم غِضاباً |
ويقول أبو نواس في هذا الصدد :
ليس على الله بمستنكَرٍ |
أن يجمعَ العالَمَ في واحدٍ |
وقد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة ، وذلك أنّ جريراً جعل الناس كلّهم بني تميم ، ولكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد . فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام (11) .
إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة ، فانظر إلى قوله سبحانه : ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) (12) . وقوله سبحانه : ( الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ) (13) ، ثم ما أتَبَعٍ قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) (14) .
فأين هو من قول القائل : « الفيل ، ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » . فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مُقَدِّمَةً لأمر عظيم الشأن متناه الغاية ، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذَّنَب والمشفر ، ويتصور أنّه تحققت المعارضة ، ويا ليته أتبع تلك المقدمة ، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء من الذهن والفطنة التي به تُفْهِمُ سائسها ما تريده ، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده !! .
الشك في صحة نسبة هذه المعارضات
وهناك احتمال بأن لا تكون هذه الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن ، وإنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكُّه والسَّمَر ، أو وضعت لغاية دينية وهي تأكيد إعجاز القرآن عندما تُقارَن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز .
مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعدما سكت فحول البلاغة عن معارضته .
وممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل هذه الجمل التافهة ، ما أثر عنه من بعض الكلمات التي هي في البلاغة بمكان عال ، كقوله عندما اجتمع مع سجاح التميمية : « هل لَكِ أن أَتَزَوَّجُكِ فآكلَ بقومي وقومك العرب ؟ » (15) . فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة وجميل التأتي لما يريد . فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه وقومها العرب ، وهل كانت تقصد سجاح غير هذا ؟ وهل كان يقصد من اتبعوها إلّا أكل العرب والإستيلاء عليهم ؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه ، وما عزي إليه من المعارضات ، وجدنا فارقاً كبيراً بينهما في الأُسلوب والروح .
فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمراً عظيماً ، وأمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة ، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر .
وهناك كلمة أُخرى نسبت إليه حين استحرّ القتل في قومه ، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان ، وقد سأله قومه ما وعد به ، فقال : « أمّا الدين فلا دين ، قاتلوا عن أحسابكم » . فأي إيجاز ، وأيّ قوة ، وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا : قاتلوا عن أحسابكم ؟ والمنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة (16) .
2 ـ طليحة بن خويلد الأسدي
قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع ، فأسلموا . ثم لما رجعوا ، تنبّأ طليحة ، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله . وكان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي .
ومن كلماته : « إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ، وقبح أدباركم شيئاً . فاذكروا الله قياماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح » (17) . فهو يريد بكلامه هيئة الصلاة من الركوع والسجود ، فكانت الصلاة في شرعه قياماً .
ومنها : « والحمام واليَمام ، والصّرد الصوام ، ليبلغ ملكنا العراق والشام » .
ولو كان الرجل ذا لبّ وعقل ، لما عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة . فانظر كيف حلف على أمر عظيم وهو بلوغ ملك العراق والشام بهذه الطيور !! .
وممّا يثير الشك في صحة عزو هذه الجمل الجوفاء إلى طليحة ، ما نقله الطبري (18) عنه ، حيث قال : إنّ طليحة وفد على عمر ـ وكان طليحة قد أسلم ـ فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ـ يريد عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم وهما سيدان من سادات المسلمين ، وفارسان من فرسانهم ـ فقال طليحة في جواب عمر : « ما تَهُمُّ من رجلين كرَّمهما الله بيدي ، ولم يُهِني بأيديهما » .
فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من المعارضات ، وعبارته أمام عمر ، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر ، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة ، فأكرمهما الله على يدي طليحة . وأي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة وثابت ! .
3 ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية
إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في النصرانية ، فادعت سجاح المذكورة ، بعد وفاة رسول الله ، النبوة ، فاستجاب لها بعضهم ، وترك التنصّر ، وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدّت شوكة أهل اليمامة ، فنهدت له بجمعها فمن قولها المزعوم : « إنّه الوحي ، أعدّوا الركاب ، واستعدوا للنّهاب ، ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب » . فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت : « عليكم باليمامة ، ودفّوا دفيف الحمامة ، فإنّها غزوة صرامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة » .
وخافها مسيلمة ، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوجها ، وقال : « هل لك أن أتزوجك ، فآكل بقومي وقومك العرب » ؟ فأجابت ، وانصرفت إلى قومها .
فقالوا : « ما عندك » ؟ . قالت : « كان على الحق فاتبعته فتزوجته » . ولم تَدّع قرآناً ، وإنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر ، وتسجع في ذلك سجعاً ، كالنَّموذجين المتقدمين .
والتاريخ يحكي أنّها أسلمت بعدُ وحَسُن إسلامها (19) . وفي الحقيقة لم تكن نبوتها إلّا زفافاً على مسيلمة ، وما كانت هي إلّا إمرأة ! .
4 ـ الأسود العنسي
كان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة ، والسجع ، والخطابة ، والشعر ، والنسب . وقد تنبّأ على عهد النبي وخرج باليمن وهو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين ، لكن بتسجيع الكلم وحده . فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال :
« سبّح اسم ربّك الأعلى ، الذي يسّر على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين أضلاع وحشى ، فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى ، ومنهم من يعيش ويبقى » . وهي ـ كما ترى ـ صفر من الحكمة العالية ، إلّا الجملة الأولى .
فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة لأنّهم كانوا بمكان من الإنحطاط الفكري والأخلاقي ، وأمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل ، وحفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية .
وأمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا القرآن ، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة ، أخجلتها أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم ، فباءوا بغضب من الله وسخطٍ من الناس ، فكان مصرعهم هذا ، كسباً جديداً للحقّ ، ورهاناً آخر على أنّ القرآن كلام الله القادر وحده ، لا يستطيع معارضته إنس ولا جان ، ومن ارتاب فأمامه الميدان .
هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن من القدماء ، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده بُرهة من الزمن ، ولم يكن ما أتوا به إلّا سقطات من الكلم أو الفاظًا جوفاء ، أو أسجاعاً سخيفة . وهناك رجالات آخرون رُموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وهم في الثقافة والأدب بمكان عالٍ ، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم ، وإنّما رموا بها إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد الله بن المقفع ، أو من الشخصيات البارزة التي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة ، ثم معارضة القرآن الكريم ، فمنهم :
1 ـ عبد الله بن المُقَفّع ( م 145 هـ )
عبد الله بن المقفع أحد الأدباء في القرن الثاني ، كان مجوسياً وأسلم ، وتضلّع في اللغتين العربية والفارسية ، وقام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية ، مثل كتاب « كليلة ودمنة » . والرجل مع أنّه رمي بالإلحاد ، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته ، وقد قتل حرقاً في التنور عام 145 هـ لإفساده عقائد الناس . وعلى كل تقدير ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمية ، ولكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية ، وليس فيه ما يصدّق ذلك ، والكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات .
2 ـ أحمد بن الحسين المتنبي ( ت 303 ـ م 354 )
من الشعراء البارزين الذين ربما يحتجّ أو يستشهد بكلامهم ، وله ديوان كبير إعتنى به الأُدباء بالشرح والتعليق ، والده كوفي ، ولد في بيت الإسلام ، ولكن قيل إنّه تنبّأ عام 320 وله من العمر سبعة عشر عاماً .
ونسب إليه أنّه تلا على أهل البادية كلاماً زعم أنّه قرآن أُنزل عليه ، يحكون منه سوراً . قال علي بن حامد : نسخت واحدة منها ، فضاعت مني ، وبقي في حفظي من أولها : « والنجم السيّار ، والفلك الدّوّار ، والليل والنّهار ، إنّ الكافر لفي أخطار ، إمضِ على سُنَّتِك ، واقْفُ أَثَرَ مَنْ قبلك من المرسلين ، فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من أَلْحَدَ في دينه وضلّ عن سبيله » ، هذا .
ولو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها المعارضة ، لحفظها التاريخ ولو ازدراءً عليه ، مع أنّه لم ينقل عنه إلّا هذه الجمل (20) .
وما بقي من أشعاره تعرب عن أنانية الرجل وأنّه يرى نفسه مقدّماً في كل شيء ، كما يظهر من قوله :
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني |
والسيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ |
وقد اكتسب شهرة في الأدب والشعر ، كما نال بذلك أعداءً حاقدين ، ومن المحتمل أنّه عزي إليه التنبوء ومعارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه .
وقد قتل عام ( 354 ) ، ولم يكن قتله إلّا لهجوه رجلاً يسمّى ضبّة .
3 ـ أبو العلاء المعرّي ( ت 363 ـ م 449 )
أحمد بن عبد الله من معرّة النعمان ، أحد الأدباء الفحول ، والشعراء البارزين ، وبما أنّه كان أعمى ، وكان حليف بيته في أُخريات عمره ، كان يسمّي نفسه رهين المحبِسين ، وقد كان معاصراً للسيد المرتضى ، وكان بينهما مساجلات ومناظرات .
ومع ذلك لما سئل عن فضل السيد وكماله ، أجاب بالبيتين التاليين :
يا سائلي عنه لما جِئْتُ تسألُهُ |
أَلا هُوَ الرجلُ العاري من العارِ |
|
لو جئته لرأيت الناس في رجل |
والدَّهْرَ في ساعةٍ والأَرْضَ في دارِ |
ومات ولم يتزوج ولم يعقّب ، وأوصى أن يُكتب على صخرة قبره :
هذا جناة أبي عـ |
ـليَّ وما جنيت على أحد |
وقد اختلف المؤرخون في إيمانه وكفره ، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحَمَوي ، والذَّهبي ، وسعد الدين التفتازاني ، ومعاصره الخطيب البغدادي . والأشعار التي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام .
وهناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي ، المتوفى عام 660 ، ألّف كتاباً باسم « الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي » . وقد طبعت خلاصته في تاريخ حلب ، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري ، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلاً غير منحرف عن الإسلام . وممّا قال فيه : « إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار الموهمة ، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة » (21) .
وممّا يؤيّد قول ابن عديم ، ما ذكره ياقوت من أنّ المعرّي كان يُرمى من أهل الحسد له ، بالتعطيل ، وتعلّم تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار . يضمنونها أقاويل الملاحدة .
والذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره يدلّ على سوء عقيدته ، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن ، موضع شكّ وترديد ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه : « الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات » ، وقد نشرت بعض فصوله . وممّا يورث الشكّ في كون الهدف من تأليف هذا الكتاب هو المعارضة ، ما ذكره هو نفسه في مقدمته ، قال : « علم ربّنا ما علم ، أنّي ألّفت الكلم ، آمل رضاه المسلّم ، واتّقي سخطه المؤلم ، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم ، والمعاني الغِراب » (22) .
على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه ، في قوله : « وقد خيّل إلى بعضهم ـ إنْ كانت الحكاية صحيحة ـ شيء من هذا ( وهو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي ) ، حتى وضع على ما زعموا « فصول الكلام » ، أواخرها كأواخر الآي ، مثل : « يعملون » ، و « يؤمنون » ، وأشباه ذلك » (23) .
كما نسبت إليه الجمل التالية :
« أقسم بخالق الخيل ، والريح الهابّة بِلَيْل ، بين الشرط مطلع سُهَيْل ، إِنّ الكافر لطويل الويل ، وإن العمر لمكفوف الذيل ، تعدّى مدارج السيل ، وطالِع التوبةَ من قُبيل ، تَنْجُ وما أخالك بناج » .
والذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات على الرجل ما نقل عنه في كتابه « الغُفران » ، قال ـ رداً على ابن الراوندي ـ : « وأَجْمَعَ مُلْحَدٌ ومهتدي ، وناكب عن المحجة ومُقتدي ، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز ، ولقي عدوه بالأرجاز ، ما هذا على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ، ما هو من القصيد الموزون ، ولا في الرجز من سهل وحزون ، ولا شاكل خطابة العرب ، ولا سجع الكهنة ذوي الإرب . . . وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلأليء في جنح غسق ، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق ، فتبارك الله أحسن الخالقين » (24) .
هذا ، وإن أكثر من ينسب المعارضات إلى أبي العلاء ، يستند إلى ما كَتَبَهُ ياقوت عنه . ويبدو للإنسان من مطالعة ما كَتَبَه ، أنّه متحامل على أبي العلاء ، ويكفي في ذلك قوله : « كان المعرّى حماراً لا يفقه شيئاً » ! . وهذه عبارة لا يقولها إلّا أشدّ الخصوم والمتعصبين على الرجل .
* * *
الهوامش
1. قد عرفت أنّ إعجاز القرآن يتقوم بأمور ثلاثة : التحدي ، وخرق العادة ، وعجز البشر عن الإتيان بمثله .
2. لاحظ بيان إعجاز القرآن ، لأبي سليمان الخطابي ، ص 9 .
3. ثلاث رسائل ، الرسالة الشافية ، لعبد القاهر الجرجاني ، ص 110 .
4. البيان في تفسير القرآن ، ص 52 .
5. بيان إعجاز القرآن ، ص 50 .
6. السيرة النبوية لابن هشام ، ج 2 ، ص 600 . وتاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 399 .
7. تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 394 ، ولكن رواه في ص 499 هكذا : « ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، الخ » . والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن ، وهو الذي إذا انشق كان منه الفتق .
8. سورة الأعراف : الآية 128 .
9. لاحظ ما نسب إليه في تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 498 ـ 499 ، وص 506 .
10. بيان إعجاز القرآن ، ص 52 ـ 60 .
11. لاحظ الطراز ، ص 202 ـ 203 .
12. سورة الحاقة : الآيات 1 ـ 3 .
13. سورة القارعة : الآيات 1 ـ 3 .
14. سورة القارعة : الآيتان 4 و 5 .
15. تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 499 .
16. لاحظ مقال الشيخ علي العماري المصري ، في « رسالة الإسلام » العدد الثالث من السنة الحادية عشرة .
17. معجم البلدان ، كما نقله الرافعي في إعجاز القرآن ، ص 199 ـ 200 .
18. الطبري ، ج 3 ، ص 239 .
19. راجع فيما نقلناه تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 496 ـ 500 .
20. إعجاز القرآن للرافعي ، ص 208 .
21. تاريخ حلب ، ج 4 ، ص 77 ـ 180 .
22. الفصول والغايات ، ص 62 .
23. دلائل الإعجاز ، لعبد القاهر الجرجاني ، ص 297 ، ط المنار .
24. رسالة الغُفْران ، ص 263 .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والأدب / المجلّد : 3 / الصفحة : 351 ـ 365
التعلیقات