أدلّة الأشاعرة على نفي التحسين والتقبيح العقليين
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةأدلّة الأشاعرة على نفي التحسين والتقبيح العقليين
الدليل الأوّل ـ الله مالك كلّ شيء يفعل في ملكه ما يشاء
استدلّ الأشعري على مقالته بقوله : « والدّليل على أنَّ كلّ ما فعله فله فعله ، أنَّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ، ولا زاجر ، ولا حاظر ، ولا مَن رَسَمَ له الرسوم ، وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنَّما يقبح منّا ، لأنَّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، وأتينا ما لم نملك إتيانه . فلمَّا لم يكن الباري مملوكاً ولا تحت آمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه ، قيل له : أجل ، ولو حسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض.
فإن قالوا : فجوِّزوا عليه أن يكذب ، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به » (1).
يلاحظ عليه : أمَّا أوَّلاً ـ فإنّنا نسأل الشيخ الأشعري إنَّه سبحانه إذا أوْلَم طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب ، مع كون الطفل بريئاً لم يصدر منه ذنب ، ورأى الأشعري ذلك بأم عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحُسن ؟! أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً مُنْكَراً ؟.
ومثله ما لو فُعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل ، غير متجاوَز عنه ، بحجّة أنَّ الله سبحانه مالِك المُلك يفعل في ملكه ما يشاء ؟ أو أنّه يقضي بخلاف ذلك ؟.
وأَمَّا ثانياً : فلا شكّ أنَّه سبحانه مالِك المُلك والملكوت يقدر على كلّ أمر ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحَسَن والقبيح ، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنَّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهمّ في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنَّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحقّ غير ذلك.
توضيحه : إِنَّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقليّة ، يكشف عن القوانين السَّائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضيّة ، فلو قال العقل : إِنَّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنَّ العقل بذلك فَرَض حُكْمَه على الطبيعة ، أو يقال إنَّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه ؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكِهِ حُسْن الفعل وقُبحه وأنَّ أيّ فعل يصدر منه وأيَّهُ لا يصدر منه ، و فَرْضِهِ الحُكْمَ على الله سبحانه فرضاً يحدّد سعة قدرته وَإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه ، بل هو بالنظر إلى الله تعالى وصفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنَّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصّة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، و لا الإِخلال بما هو حسن.
وبعبارة أخرى : إِنَّ العقل يكشف عن أنَّ المُتَّصفَ بكلّ الكمال ، والغنى عن كلّ شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقّق الصَّارف عنه وعدم الداعي إليه ، وهذا الإمتناع ليس امتناعاً ذاتيّاً حتّى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإن الفعل بالإِختيار ، والترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدليّة من أنَّه يمتنع عليه القبائح. ولا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل ، بل الله بحكم أنَّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخل بالحسن ولا يفعل القبيح. وليس دور العقل هنا إلّا دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.
وباختصار : إِنَّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضويّاً ومتحرراً عن كلّ سلب وإيجاب ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعيّة وحقيقة كشف عنه العقل ، كما كشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتَصوُّر أنَّ فعله سبحانه متحرّر عن كلّ قيد وحَدّ ، بحجّة حفظ شأن الله سبحانه ، وسعة قدرته ، أشبه بالمُغالَطة ، فإنَّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعلِه عن كلّ قيد وشرط.
وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استَدلَّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليين. ولا بأس بالإِشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري.
الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضروريّاً لما وقع الإِختلاف
قالوا : لو كان العلم بحسن الإِحسان وقبح العُدوان ضروريّاً لما وقع التَّفاوت بينه و بين العِلْم بأنَّ الواحد نصف الإِثنين ، لكنَّ التالي باطل بالوجدان.
وأجاب عنه المحقّق الطّوسي بقوله : « يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصوّر » (2).
توضيحه : إنَّه قد تتفاوت العلوم الضروريّة بسبب التفاوت في تصوّر أطرافها. وقد قرّر في صناعة المنطق أنَّ للبديهيّات مراتب : فالأَوليّات أبدَه من المشاهَدات بمراتب. والثانية أبده من التجريبيّات والثالثة أبده من الحَدْسيّات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريَّات. والضابط في ذلك أنَّ ما لا يتوقّف التصديق به على واسطة سوى تصوّر الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوليّات (3) ، و هكذا.
فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أنْ لا تكون الحدسيّات من اليقينيّات.
وباختصار ، إنَّ العلوم اليقينيّة ، مع كثرتها ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإِنسان إذا مارس علومه ويقينيّاته وعلى ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضروريّة لدوافع خاصّة ، وهي في المقام تصوّر أنَّ الحكم بالحُسن والقُبح تحديد لسلطته سبحانه ، فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.
الدليل الثالث : لو كان الحُسن والقُبح عقليين لما تغيّرا
إِنَّ الحُسنَ والقُبحَ لو كانا عقليين لما اختلفا ، أيّ لما حَسُن القبيح ولما قَبُح الحسن ، والتَّالي باطل ، فإنَّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح وذلك فيما إذ تضمّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك ، والصدق إهلاكه.
فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله (4).
وأجاب عنه المحقّق الطّوسي بقوله : « وارتكاب أقلّ القبيحين مع إمكان التخلّص » (5).
وتوضيحه : إِنَّ الكذب في هذه الصّورة على قبحه إلّا أنَّ ترك انقاذ النبي أقبح من الكذب ، فيحكم العقل بارتكاب أقلّ القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنَّه يمكن التخلّص عن الكذب بالتعريض ـ أيّ التورية ـ.
و باختصار : إِنَّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.
أضف إلى ذلك ، أنَّ الإِستدلال مبني على كون قُبح الكذب وحُسن الصدق ، كقُبح الظّلم وحُسن العدل ، ذاتيين لا يتغيّران. وأَمَّا على ما مرّ من أنَّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقُبح على أقسام منها ما يكون الفعل علّة تامّة لأحدهما ، فلا يتغيّر حُسنه ولا قُبحه بعروض العوارض كحُسن الإِحسان وقُبح الإِساءة. ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وقد تقدّم أنَّ حُسْن الصّدق وقُبح الكذب من هذا القبيل. ومنها ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، جزاء أو ايذاءً.
* * *
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أنَّ هناك أفعالاً يستقلّ العقل بحسنها وقبحها ، ويقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع ، ويرى حسنها وقبحها مطّرداً في جميع الفاعلين ، من غير اختصاص بالخالق أو المخلوق. وقد ذكرنا مِلاك قضائه وهو ملاءمة الفعل أو منافرته للشخصية العلوية المثالية التي خلق الإِنسان عليها.
ثمّ إنَّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين إنّما يتمّ على القول بأنَّ الإِنسان فاعل مختار ، وأمَّا على القول بأنَّه مجبور في أفعاله ، فالبحث عنهما منفي بانتفاء موضوعه ، لأن شيئاً من أفعال المجبور لا يتّصف بالحسن ولا بالقُبح عقلاً. وبما أنَّ الأشاعرة يصوّرون الإِنسان فاعلاً مجبوراً ، فلازم مقالتهم نفي التحسين والتقبيح العقليين ، وسيوافيك كون الإِنسان فاعلاً مختاراً غير مجبور ، كما سيوافيك نقد ما استدلّ به الأشاعرة على مقالة الجبر (6).
* * *
الهوامش
1. اللّمع ، ص 117.
2. كشف المراد ، ص 186.
3. وجه الضبط أنَّ القضايا البديهيّة إمَّا أن يكون تصوّر طرفيها مع النسبة كافياً في الحكم والجزم ، أو لا يكون.
والأوّل هو الأوليّات ، والثاني إمَّا أن يتوقّف على واسطة غير الحسّ الظاهر والباطن أو لا.
والثاني المشاهدات ، و تنقسم إلى مشاهدات بالحسّ الظاهر ومشاهَدات بالحسّ الباطن.
والأوّل إمَّا أن تكون تلك الواسطة بحيث لا تغيب عن الذهن عند تصور الأطراف أو لا تكون كذلك ، فالأوّل هي الفطريّات ، وتسمّى بالقضايا التي قياساتها معها. و الثاني إمَّا أن يستعمل فيه الحدس ، وهو انتقال الذهن الدفعي من المبادي إلى المطالب أو لا يستعمل فيه ، فالأوّل هو الحَدْسيّات ، والثاني إن كان الحكم فيه حاصلاً بإخبار جماعة يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب فهو المتواترات ، و إن لم يكن كذلك بل حاصلاً من كثرة التجارب فهي التجربيّات وقد علم بذلك حدّ كلّ واحد منها.
4.. الإِحكام ، للآمدي ، ج 1 ، ص 121.
5. كشف المراد ، ص 187.
6. لاحظ شرح تجريد الاعتقاد للفاضل القوشجي ، ص 329 ، حول قولهم بكون الإِنسان مجبوراً في فعله. وسيوافيك مفصّلاً البحث في الجبر الأشعرى عند البحث في « العدل الإِلهى و أفعال الإِنسان ».
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 249 ـ 254
التعلیقات