من صراع الأمويين مع الدين
الدكتور نوري جعفر
منذ 4 أشهرجوانب أخرى من صراعهم مع الدين
لقد مر بنا الحديث عن قسم من جوانب الصراع الذي حدث بين الأمويين من جهة ومبادىء الدين الإسلامي من جهة أخرى . ونود ـ فيما تبقى من هذه الدراسة ـ أن نشير بشيء من الإيجاز غير المخل ، إلى جوانب أخرى من ذلك الصراع الرهيب أتاح للأمويين ، من الأسف الشديد ، أن يسيروا في حكمهم على سياسة جاهلية مكشوفة ، هي والدين الإسلامي على طرفي نقيض . وتتلخص تلك السياسة بجملة واحدة : هي الانصراف الكلي للحياة الدنيا ـ بأبشع صورها ـ والتكالب على موبقاتها وملاذها الرخيصة على حساب الدين . نقول :
« الانصراف الكلي إلى الحياة بأبشع صورها » ولا نقول :
الانصراف إلى الحياة . لأننا لا نجد تعارضا بين المثل العليا التي جاء بها الدين ـ وبخاصة الجوانب الاخلاقية منها ـ وبين الحياة التي يمكن أن يحياها الناس . ذلك لأن الدين يسعى ـ في جوانبه الخلقية ـ إلى رفع مستوى الحياة ليسمو بها فوق المستوى البهيمي الذي ينغمس فيه كثير من الناس .
أي ان الدين ، بعبارة أخرى ، لا يتعارض إلا مع الجوانب المنحطة من الحياة .
فإذا سمت الحياة إلى المستوى الخلقي الذي يريده الدين زالت جوانب التعارض بينهما .
وعلى هذا الأساس يمكن الجمع بين الدين والدنيا . وعلى الأساس نفسه يمكن الفصل بينهما .
فقد جمع الرسول بينهما وسار على على منواله .
وسار الأمويون على نقيض ذلك . فخسروا دينهم ـ كما سنرى ـ كما خسروا دنياهم كذلك .
دنياهم في جوانبها المثلى من الناحية الخلقية الإنسانية . وقد عبر عن خسران الأمويين دينهم ودنياهم ـ أحدهم ـ أحسن تعبير حين قال :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا |
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع |
وفي معرض التحدث عن جوانب التعارض بين الدين والحياة : ذكر القرآن في سورة البقرة « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ . »
وجاء في سورة الاعراف : « الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا . فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . »
وجاء في سورة يونس : « إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . . . » .
وجاء في سورة هود : « مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ . »
وأعيد المعنى السابق نفسه ـ حيث الأساس ـ في سورة الحديد :
« اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ . »
لقد أعطى الأمويون ، على ما يذكر ابن خلدون (1) : « الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهريا . » وكان ذلك برأيه السبب في سلب الله عزهم وتقويض ملكهم . وقد استشهد ابن خلدون على ذلك بقصة عبد الله بن مروان ـ مع ملك النوبة ـ عند هروبه من السفاح :
« قال عبد الله بن مروان أقمت مليا . ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض ؛ وقد بسطت لي فرش ذات قيمة . فقلت :
ما منعك عن القعود على ثيابنا . فقال : إني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع .
ثم قال لي :
لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا واتباعنا . قال :
فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت : ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا .
فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول : عبيدنا واتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا . ثم رفع رأسه إلي وقال : ليس الأمر كما ذكرت . بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم . (2) »
فالتحلل من الدين ـ وهو الجانب الإيجابي للتكالب على الملذات الدنيوية الرخيصة ـ إذن هو الطابع العام للأخلاق الأموية . وقد اتخذ ذلك التحليل أشكالا عديدة نجملها فيما يلي :
1 ـ قتل النفس
قتل النفس البشرية بشكل لا يجيزه الإسلام جاء في سورة آل عمران « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ . » وجاء في سورة النساء « وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ (3) وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا . » وجاء في سورة الانعام : « قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . . . »
« وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ . وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ . إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا . » وفي سورة الفرقان . « وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ . وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . » وذكر مسلم بن الحجاج (4) عن أنس بن مالك بأسانيده المختلفة في الكبائر « قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور . » والتاريخ الأموي ـ كما سنرى ـ يعج بالفحش ، وقتل النفس بغير حق ، وبالظلم ، ونكث العهد ، وقول الزور وغيرها من الكبائر .
لقد كان السير وفق ما حرم الله ـ من الكبائر والموبقات ـ هو القاعدة العامة للأسرة الأموية كلما كان ذلك السير بنظرهم ـ وسيلة من وسائل تثبيت حكمهم الممقوت .
ولم يلتزم الأمويون ببعض مظاهر الدين إلا حين استلزمت مصالحهم الأموية ذلك . وبقدر ما يتعلق الأمر بقتل النفس التي حرم الله ـ إلا بالحق ـ فإن في تاريخهم من مثلة على ذلك الشيء الكثير .
فقد ذهبت أرواح آلاف من المسلمين ضحايا غدرهم وعدوانهم . ولم يسجل التاريخ الإسلامي ـ على ما فيه من حوادث كثيرة من هذا القبيل ـ إلا جزءاً يسيرا مما ارتكبوه في هذا الباب .
وهنا تتوارد للذهن مأساة حجر بن عدي ، ومصرع الحسين بن علي ، ومقتل مصعب وعبد الله ابني الزبير ، واضحة للعيان .
هذا سوى مئات المسلمين الذين فتك بهم بسر بن أبي أرطاة كما رأينا .
ترى لماذا قتل الأمويون هؤلاء ؟ لأنهم ثاروا على ظلم الأمويين ؟
هل الثورة على الظلم خارجة عن نطاق الإسلام ؟
هل يجيز الإسلام موبقات الأمويين ؟
هل الحكم الأموي متفق مع القرآن وسنة الرسول ؟
ما حق الأمويين في الإستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية ؟
هل جاء الأمويون للحكم بأسلوب يجيزه الإسلام ؟
هل يبرر الإسلام وراثة الحكم في الأسرة الأموية خلفا عن سلف ؟
هل يعتبر قتل النفس ـ التي حرم الله ـ حقاً ؟
إذا كانت تلك النفس تدعو الناس إلى اتباع الحق ؟ وتحاسب السلطان على موبقاته ؟
تلك أسئلة تعتبر الإجابة عنها في إدانة الأمويين من أسهل الأمور .
2 ـ شرب الخمر
كان ولع الأمويين شديدا بتعاطى شرب الخمر ، وما يتصل به من خلاعة وتبذل وغناء . والخمر ـ كما لا يخفى ـ محرمة من الناحية الشرعية . جاء في سورة المائدة :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ . . . رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . »
ولم يكتف الأمويون بشرب الخمر بل أسرفوا وأدمنوا وأطلقوا لأنفسهم الشريرة العنان في هذا الضرب من ضروب العبث وما يتصل به من موبقات .
وكان ملوكهم ـ في الشام والأندلس « باستثناء عمر بن عبد العزيز » يكثرون من شربه حتى بلغ بعضهم في شربه حدا يفوق الوصف .
فيزيد بن معاوية كان مدمنا ، وكان لا يمسى إلا سكران ولا يصبح إلا مخموراً .
وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرة حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء .
وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوما ويدع يوما .
وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليال ليلة .
وكان هشام يسكر في كل جمعة .
وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشرب .
فأما يزيد بن الوليد فكان ـ دهره ـ بين حالين : سكر وخمار . ولا يوجد أبداً إلا ومعه إحدى هاتين .
وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت (5) . »
وللخمر كما لا يخفى مضار يتعدى أثرها شخص من يتعاطاها فينتظم الآخرين من ذوي العلاقة ـ من طرف قريب أو بعيد ، وبصورة مباشرة . ويتسع مجال ذلك الضرر باتساع مجال علاقات ذلك الشخص بغيره من الناس .
فكيف به إذا كان « أميراً للمؤمنين » و « خليفة للمسلمين » ! ! !
لقد مر بنا القول أن من ملازمات الخمر الغناء والتبذل والخلاعة . والملوك السابقين ـ على يحدثنا الجاحظ ـ : تقاليد خاصة في هذا الباب .
غير أن الأمويين قد أدخلوا على بعضها تحويراً استلزمته طبيعة استهتارهم بالدين وبالأخلاق . فمن أخلاق الملك عند الشرب : « أن يجعل ندماءه طبقات ومراتب .
وأن يخص ويعم ويقرب ويباعد ويرفع ويضع . . . وليس من حق الملك أن يبرح مجلسه إلا لقضاء حاجة . . . وليس له أن يختار كمية ما يشرب ولا كيفيتها . إنما هذا إلى الملك . . . فلما ملك يزيد بن عبد الملك ساوى بين الطبقة العليا والسفلى من الندماء وأفسد أقسام المراتب . . . وغلب عليه اللهو . . وهو أول من شتم في وجهه من الخلفاء على جهة الهزل والسخف (6) . »
ومن المحزن حقا أن يشجع « خليفة المسلمين » المساواة في التبذل والدعارة ويمنعها في المعاملة وتطبيق أسس الشريعة السمحاء . فلم يساو « الخليفة » بين المسلمين في العطاء ، ولكنه ساوى بين ندمائه في الموبقات ليرفع عن نفسه حواجز التبذل والاستهتار .
وروى الجاحظ كذلك ـ في معرض الموازنة بين تبذل الأمويين بالنسبة لبعضهم ـ أنه سأل اسحق بن ابراهيم فيما إذا كان ملوك بني أمية يظهرون للندماء والمغنين فقال له اسحق : « أما معاوية بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان وسليمان وهشام ، ومروان بن محمد فكان بينهم وبين الندماء ستارة .
وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب للمغني والتذه حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حتى لا يراه إلا خواص جواريه . . .
وأما الباقون ـ من خلفاء بني أمية ـ فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ، ويحضروا عراة بحضرة الندماء والمغنين .
وعلى ذلك لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء والتجرد ما يباليان ما صنعا (7) »
هذا نموذج من تبذل الأمويين في أخلاقهم وفي دينهم ـ وهو شيء يمجه ـ دون شك ـ الذوق السليم ويأباه الخلق الرفيع ولا يجيزه الإسلام . هذا إذا كان المتبذل من عامة الناس .
فكيف به إذا كان « خليفة المسلمين » و « أمير المؤمنين » ونائب رسول الله في تطبيق مبادىء الدين على شئون الحياة ! ! !
لقد انغمس الأمويون ـ باستثناء عمر بن عبد العزيز ـ كما ذكرنا بالموبقات إلى الأذقان « ومع ذلك فقد كان يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد أكثرهم تبذلا ـ على ما تروى كتب التاريخ والأدب ـ . وحديث الأول منهما مع سلامة وحبابة معروف لدى الكثيرين .
ذكر المسعودي (8) إنه كان يغلب « على يزيد بن عبد الملك حب جارية يقال لها سلامة القس ، وكانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري . فاشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار . فأعجب بها وغلبت على أمره .
وفيها يقول عبد الله بن قيس الرقيات :
لقد فتن الدنيا وسلامة القسا |
فلم يتركا للقس عقلا ولا نفسا |
فاحتالت أم سعيد العثمانية ـ جدته ـ بشراء جارية يقال لها حبابة ـ قد كان في نفس يزيد بن عبد الملك قديما منها شيء . فغلبت عليه ووهب سلامة لأم سعيد . فعذله مسلمة بن عبد الملك لما عم الناس من الظلم والجور باحتجابه وإقباله على الشرب واللهو . . . فأظهر الاقلاع والندم . فغلظ ذلك على حبابة .
فبعث إلى الأحوص الشاعر ومبعد المغني : أنظرا ما أنتما صانعان ! !
فقال الأحوص : في أبيات له :
ألا لا تلمه اليوم إن يتبلدا |
فقد غلب المحزون أن يتجلدا |
|
إذا كنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى |
فكن حجرا من بابس الصخر جلدا |
|
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهى |
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا |
وغناه معبد وأخذته حبابه فلما دخل عليها يزيد قالت ـ يا أمير المؤمنين ـ اسمع مني صوتا واحدا . ثم افعل ما بدا لك . وغنته . فلما فرغت منه جعل يردد قولها :
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهى |
وعاد بعد ذلك إلى لهوه (9) |
وذكر اسحق بن ابراهيم الموصلي قال حدثني ابن سلام قال ذكر يزيد قول الشاعر :
صفحنا عن بنى ذهل |
وقلنا القوم إخوان |
|
عسى الأيام أن |
يرجعن قوما كالذي كانوا |
|
فلما صرح الشر |
فأمسى وهو عريان |
|
مشينا مشية الليث |
غدا والليث غضبان |
|
بضرب فيه توهين |
وتخضيع وأقران |
|
وطعن كفم الزق |
وهي والزق ملآن |
|
وفي الشر منجاة |
حين لا ينجيك إحسان |
وهو شعر قديم يقال أنه للفند في حرب البسوس . فقال لحبابة غني به بحياتي !
فقالت يا أمير المؤمنين هذا شعر لا أعرف أحدا يغني به إلا الأحول المكي .
فقال نعم قد كنت سمعت ابن عائشة يعمل فيه ويترك .
قالت إنما آخذه عن فلان بن أبي لهب وكان حسن الأداء . فوجه يزيد إلى صاحب مكة : إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان بن أبي لهب ألف دينار لنفقه طريقه وأحمله على ما شاء من دواب البريد . ففعل . فلما قدم عليه قال غن بشعر الفند . فغناه فأجاد وأحسن . وقال أعده فأعاده فأجاد وأحسن وأطرب يزيد .
فقال له ممن أخذت هذا الغناء ؟ فقال يا أمير المؤمنين أخذته عن أبي ، وأخذه أبي عن أبيه ، فقال لو لم ترث إلا هذا الصوت لكان أبو لهب قد ورثكم خيراً كثيراً .
فقال يا أمير المؤمنين إن أبا لهب مات كافرا مؤذيا لرسول الله .
فقال قد أعلم ما تقول ، ولكن دخلتني له رقة إذ كان مجيد الغناء . ووصله وكساه ورده إلى بلده مكرما . . .
واعتلت حبابة فأقام يزيد أياما لا يظهر الناس . ثم ماتت فأقام أياما لا يدفنها جزعا عليها . . . فقيل له إن الناس يتحدثون بجزعك وأن الخلافة تجل عن ذلك . فدفنها وأقام على قبرها فقال :
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى |
فباليأس تسلوا النفس لا بالتجلد |
ثم أقام بعدها أياما قلائل ومات . .
وحدث أبو عبد الله محمد بن ابراهيم عن أبيه عن اسحق الموصلي عن أبي الحويرث الثقفي قال : لما ماتت حبابة حزن عليها يزيد بن عبد الملك حزناً شديداً ، وضم إليه جويرية كانت تحدثها فكانت تخدمه . فشملت الجارية يوما :
كفى حزنا للهائم الصب أن يرى |
منازل من يهوى معطلة قفرا |
فبكى . . . ولم تزل جويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات . »
وفي معرض التحدث عن الوليد بن يزيد يقول صاحب الأغاني (10) أنه كان « فاسقا خليعا متهما في دينه مرميا بالزندقة . وشاع ذلك من أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل .
وله أشعار تدل على خبثه وكفره . »
وكان الوليد وليا للعهد أثناء خلافة هشام .
وكان مكرما عنده « حتى طمع هشام في خلعه وعقد العهد لابنه مسلمة . . .
فولاه الحج ليظهر فسقه بالحرمين فىسقط . فحج الوليد وظهر منه فعل كثير مذموم .
وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس . . .
فدعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة ، وكان يكنى أبا شاكر ـ .
وكتب هشام إلى الوليد : إنك ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر . فليت شعري ما دينك ؟ . . . فكتب إليه الوليد ـ معرضا بابنه مسلمة ـ
أيها السائل عن ديننا |
نحن على دين أبي شاكر |
|
نشربها صرفا وممزوجة |
بالسخن أحياناً وبالفاتر (11) |
ومن طريف ما يرويه (12) الطبري عن الوليد أثناء توليته الحج ـ كما ذكرنا ـ أنه عندما ولاه هشام الحج في عام 119 هـ حمل « معه كلابا في صناديق . فسقط منها صندوق ـ فيما يذكر علي بن محمد عمن سميت من شيوخه ـ عن البعير وفيه كلب . . .
وحمل الوليد معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة . وحمل معه خمراً . وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها . فخوفه أصحابه وقالوا لا نأمن الناس علينا معك . فلم يحركها . »
ومن أقذر ما يؤثر عن الوليد أنه عندما سمع بنعي هشام ـ على ما يذكر ابن شبة (13) ـ قال « والله لا تلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر وأنشأ يقول :
طاب يومي ولذ شرب السلافة |
إذ أتاني نعي من بالرصافة |
|
وأتانا البريد ينعى هشاما |
وأتانا بخاتم للخلافة |
|
فاصطحبنا من خمر عانة صرفا |
ولهونا بقينه عزافة |
وأقذر من ذلك أنه قال ـ حين سمع صياحا « فسأل عنه فقيل له هذا من دار هشام يبكيه بناته » :
إني سمعت بليل |
ـ وراء المصلى ـ برنه |
|
إذ بنات هشام |
يندبن والدهنه |
|
يندبن قرما جليلا |
قد كان يعضدهنه |
|
أنا المخنث حقا |
إن لم أنيكهنه |
ومن مجونه أيضاً ـ على شرابه ـ قوله لساقيه :
أسقني يا يزيد بالقرقاره |
قد طربنا وحنت الزماره |
|
اسقني اسقني فان ذنوبي |
قد أحاطت فما لها كفاره |
والخلاصة : فإن الوليد ـ في معرض الغرام والتبذل ـ كان كما وصفه ابن عبد ربه (14) عاكفا « على البطالة وحب القيان والملاهي ، والشراب ومعاشقة النساء .
فتعاشق سعدى ابنة سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها .
ثم تعاشق أختها سلمى . فطلق أختها سعدى وتزوج سلمى . فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر بن الوليد بن عبد الملك .
ثم ندم الوليد على فراقها . وكلف بحبها . فدخل عليه أشعب المضحك .
فقال له الوليد :
هل لك على أن تبلغ سعدى مني رسالة ولك عشرون ألف درهم ؟ قال هاتها .
فدعها إليه . فقبضها وقال ما رسالتك ؟ قال : إذا قدمت المدينة فأستأذن على سعدى وقل لها يقول لك الوليد :
أسعدى ما إليك من سبيل |
ولا حتى القيامة من تلاق |
|
بلى ولعل دهرا أن يؤاتى |
بموت من خليلك أو فراق |
فأتاها أشعب فقال يا سيدتي : أرسلني إليك الوليد برسالة . قالت : هاتها فأنشدها البيتين .
فقالت : ما جرأك على مثل هذه الرسالة ! ! قال : إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة . قالت : والله لاجلدنك أو لتبلغنه كما بلغتني ! ! قال فأجعلي لي جعلا .
قالت : بساطي هذا .
قال فقومي عنه . فقامت . فطواه وضمه ، ثم قال هاتي رسالتك فقالت قل له :
أتبكي على سعدى ! وأنت تركتها |
فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع ؟ |
>فلما بلغه الرسالة ـ هدده بالقتل ـ
فقال أشعب : يا سيدي ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى . فضحك وخلى سبيله . » (15)
أما ـ في معرض الشراب ـ فالوليد كان ـ بالإضافة إلى ذكرناه ـ كما وصفه علي بن عباس (16) حين قال :
« إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتى بابن شراعة من الكوفة . فوالله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له :
يا ابن شراعة أنا والله ما أبعث إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسوله . قال : لو سألتني عنهما لوجدتني حمارا ! ! قال : إنما أرسلت إليك لاسألك عن القهوة .
قال : دهقانها الخبير ولقمانها الحكيم وطبيبها العليم قال :
خبرني عن الشراب ! ! قال : يسأل أمير المؤمنين عما بدا له . قال :
ما تقول في الماء ؟ قال لا بد لي منه . والحمار شريكي فيه . قال : ما تقول في اللبن ؟ قال ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به .
قال ما تقول في السويق قال : شراب الحزين والمستعجل والمريض . قال :
فنبيذ التمر ؟ قال سريع الإمتلاء سريع الانفشاش . قال فنبيذ الزبيب ؟ قال : حاموا به على الشراب . قال ما تقول في الخمر ؟ قال أواه تلك صديقة روحي .
قال : وأنت ـ والله ـ صديق روحي (17) . »
وأما سبب قتله فقد رواه اسحق بن محمد الأزرق حين قال : ـ على ما يروى ابن عبد ربه (18) دخلت على منصور بن جهور الأزدي ـ بعد قتل الوليد ابن يزيد ـ وعنده جاريتان من جواري الوليد . فقال لي : اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان . قالتا قد حدثناك ! ! قال حدثاه كما حدثتماني .
قالت إحداهما : كنا أعز جواريه عنده . فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة . فأخرجها ـ وهي سكرى جنبة ـ متلثمة فصلت بالناس . »
ولا ندري فيما إذا كان من المستطاع أن يبلغ الاستهتار بالدين وبالأخلاق عند « خليفة المسلمين » حدا يتعدى ما وصل إليه عند الوليد ! !
ترى لماذا استهتر الأمويون بالإسلام إلى هذا الحد ؟
تارة بالخروج على تعاليمه ، وأخرى بقتل الداعين إلى إتباعه .
وطوراً عن طريق هدم الكعبة واستباحة المدينة الخ ! ! !
أهو من باب التشفى من قتلاهم في عهد الرسول ؟
ذلك ما نجنح إلى قبوله والتسليم بوجاهته .
روى أبو خليفة ـ الفضل بن الحباب الجمحي القاضي ـ عن محمد بن سلام الجمحي « قال : حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن أبيه . قال :
كنت سميرا للوليد بن يزيد فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له :
إني رأيت صبيحة النحر |
حورا تفين عزيمة الصبر |
|
مثل الكواكب في مطالعها |
عند العشاء أطفن بالبدر |
|
وخرجت أبغى الأجر محتسباً |
فرجعت موقورا من الوزر |
فقال الوليد أحسنت والله . . . أعد بحق عبد شمس . فأعاد .
فقال : أحسنت والله أعد بحق أمية فأعاد .
فجعل يتخطى من أب إلى أب ويأمره بالإعادة حتى بلغ نفسه .
فقال أعد بحياتي . فأعاد . فقام إلى ابن عائشة فأكب عليه . ولم يبق عضوا من أعضائه إلا قبله . وأهوى إلى أيره .
فجعل ابن عائشة يضم دكره بين فخذيه . فقال الوليد ـ والله ـ لا زلت حتى أقبله . فقبل رأسه .
وقال : وا طرباه ! ! وا طرباه ! !
نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة وبقى مجرداً إلى أن أتوه بثياب غيرها .
ودعا بألف دينار فدفعت إليه . وحمله على بغلة وقال أركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغضى . . .
قد كان ابن عائشة غنى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك ـ أباه ـ فأطربه وقيل : إنه ألحد وكفر في طربه . . .
وذكر محمد بن يزيد المبرد أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته من ربه . . . ومن ذلك الشعر :
تلعب بالخلافة هاشمي |
بلا وحي أتاه ولا كتاب (19) » |
3 ـ الزنى
من الموبقات التي كانت منتشرة بكثرة ، بين العرب في جاهليتهم . وقد حاربه الإسلام محاربة لا هوادة فيها ولا شفقة .
وقد مر بنا ذكر بعض الآيات التي ورد فيها موقف الإسلام والصارم من هذا التصرف الفاسد . ولسنا في معرض التدليل على أخطار الزنى ومضاره ، القريبة والبعيدة ، المباشرة وغير المباشرة ، في الفرد وفي المجتمع الذي ينتمى إليه .
ويكفي التدليل على ذلك : أن نتذكر أن الإسلام قرن الزنى بقتل النفس التي حرم الله ، فحرمه ومنعه ووضع عقوبة صارمة على من يتعاطاه .
إستمع إلى ما جاء في سورة الانعام :
« قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . .
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . . .
« وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ . . . وجاء في سورة الاعراف :
« قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . . . » وفي سورة بني إسرائيل :
« وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . »
وقرنه القرآن ـ في موضع آخر ـ مع الشرك « وهو أكبر الموبقات بنظر الإسلام » فقال في سورة الفرقان : « وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ » .
وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا » .
وبقدر ما يتعلق الأمر بشيوع موبقة الزنى عند الأمويين فإن بإمكان الباحث أن يعثر على تأصله ـ في هذه الأسرة العربية الكريمة ـ منذ عهد الجاهلية ، عند رؤوس الأسرة من الرجال والنساء .
فقد مر بنا وصف ما صنعه أمية بن عبد شمس « وجد معاوية بن أبي سفيان » في الجاهلية عندما زوج إبنه عمراً إحدى نسائه في حياته فولدت أبا معيط .
وقد ورث أبو سفيان عن جده هذه الخصلة الجاهلية .
وحوادث زناه معروفة لدى الكثيرين ، نذكر منها ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ علاقاته الجنسية بالنابغة والدة عمرو بن العاص ، وبسمية أم زياد .
« فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب « ربيع الأبرار » فقال :
كانت النابغة ـ أم عمرو ـ أمة لرجل من عنزة . فسبيت .
فأشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة . فكانت بغيا . ثم أعتقها .
فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة .
وأبو سفيان والعاص بن وائل السهمي . . . فولدت عمروا » . فأدعاه كل منهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص . فقال أبو سفيان :
اما أني لا أشك أني وضعته في رحم أمه . فأبت إلا العاص .
فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسباً . فقالت :
إن العاص كثير النفقة علي . . .
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو :
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت |
لنا فيك منه بينات الدلائل |
|
ففاخر به أما فخرت ولا تكن |
تفاخر بالعاص الهجين بن وائل |
|
وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت |
فقالت رجاء عند ذاك لنائل |
|
من العاص عمرو تخبر الناس كلما |
تجمعت الاقوام عند المحافل (20) |
وأما علاقات أبي سفيان بسمية فأشهر من أن تذكر .
فقد ذكر أبو مريم السلولي أنه جمع بين أبي سفيان وسمية على زنى .
« وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحرث ابن كلدة .
وكانت تنزل في الموضع الذي ينزل فيه البغايا بالطائف ـ وخارجا عن الحضر ـ في محلة يقال لها حارة البغايا (21) . » وإلى هذا المعنى يشير يزيد بن مفرغ الحميري في هجائه معاوية (22) :
وكان عباد عظيم اللحية فقيل له ما أراد غيرك . فطلبه فهرب وهجاء :
إذا أودى معاوية بن حرب |
فبشر شعب رحلك بالصداق |
|
وأشهد أن أمك لم تباشر |
أبا سفيان واضعة القناع |
|
ولكن كان أمراً فيه لبس |
على وجل شديد وارتياع |
|
ألا أبلغ معاوية بن حرب |
مغلغلة من الرجل اليماني |
|
|
وترضى أن يقال أبوك زان |
|
فأشهد أن رحمك من زياد |
كرحم الفيل من ولد الإتان |
أما أخبار الزنى عند الأمويين بعد ذلك وبخاصة عند يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد فمشهورة .
وقد ذكرنا طرفا منها عند البحث في الخمر .
ذلك ما يتعلق بالزنى عند رجال الامويين .
أما ما يتصل بالزنى عند نسائهم فيكفي أن نذكر حمامة أم أبي سفيان ـ جدة معاوية ـ التي كانت بغيا في الجاهلية وكانت صاحبة راية ، وهند ـ أم معاوية .
والزرقاء : جدة مروان بن الحكم لأبيه . فقد كانت هند ـ على ما يذكر الرواة ـ تذكر في مكة بعهر وفجور .
ذكر الزمخشري (23) أن معاوية كان مشكوكا في أبيه . فكان يعزي إلى أربعة :
إلى مسافر بن أبي عمرو .
وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة .
وإلى العباس بن عبد المطلب .
وإلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد بن المغيرة .
وكان الصباح عسيفاً ـ أجيراً ـ لأبي سفيان ، شابا وسيما . فدعته هند إلى نفسها فغشيها .
وكان أبو سفيان دميماً قصيراً .
وقيل : إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً .
وقيل أنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك .
وفي هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة الرسول قبل عام الفتح :
لمن الصبي بجانب البطحاء |
في الترب ملقى غير ذي نهد |
|
نجلت به بيضاء آنسة |
عن عبد شمس صلبة الخد . » |
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ابن حجر العسقلاني (24) قد ذكر « إن معاوية كان طويلا أبيض . »
وقد ذكرنا أن أبا سفيان على ما يصفه المؤرخون كان دميماً قصيراً .
وأن الصباح ـ مغنى عمارة بن الوليد بن المغيرة كان وسيما .
فهل توجد علاقات ـ فسلجية ـ موروثة بين الصباح ومعاوية ؟
وإذا كان الأمر كذلك فإن العلم الحديث يلقى بعض الضوء على ما ذهب إليه المؤرخون في هذا الباب .
وهناك روايات أخرى تتصل بعهر السيدة هند نذكر منها ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى حين قال :
إن السيدة « هند كانت تحت الفاكة بن المغيرة المخزومي ، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس . . . فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه وهند . ثم قام الفاكة وترك هند في البيت ـ لأمر عرض له . ثم عاد إلى البيت فإذا رجل خرج . . .
فأقبل الفاكه إلى هند فركلها برجله وقال : من الذي كان عندك ؟ فقالت :
لم يكن عندي أحد ، وإنما كنت نائمة . فقال : ألحقي بأهلك .
فقامت من فورها إلى أهلها وتكلم في ذلك الناس (25) .
وأما الزرقاء ـ جدة مروان بن الحكم لأبيه ـ فهي بنت وهب .
وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء (26) .
وكان يقال لأولاد عبد الملك بن مروان : « أولاد الزرقاء » في معرض الذم .
4 ـ الغدر
وهو : صفة ممزوجة دينياً وإجتماعياً . ويتضمن الغدر ، في كثير من الأحيان جبن الشخص الذي يستعين به للإيقاع بخصومه ومناوئيه .
وللغدر آثار خلقية سيئة ، وله إضرار مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، فردية وإجتماعية من الناحيتين المباشرة وغير المباشرة .
وقد حرم الإسلام الغدر ونهى عنه . استمع إلى الآيتين التاليتين : سورة البقرة :
« الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . » وجاء في سورة الرعد :
« وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ . »
لقد برزت ظاهرة الغدر في الأسرة الأموية بين النساء والرجال على السواء ، ضد بعضهم بعضاً أحياناً ، وضد غير الأمويين أحيانا حسبما تستلزم الظروف السياسية القائمة .
غير أن الأمويين ـ مع هذا لا يبعدون عن عصبيتهم الأموية في هذا الباب ، ومن الممكن أن تفسر خصوماتهم الداخلية بأنها ناتجة عن إختلافهم في أساليب تثبيت تلك العصبية . ومهما يكن من شيء فإن ظروف الحاكم الأموي القائم إذا استلزمت الغدر بأموي آخر ـ أو البطش به ـ فإنه يتراجع به إنتهاء مهمته تلك فيرعى ذوي الأموي المغضوب عليه .
وفي التاريخ الأموي من ذلك شيء كثير : من ذلك مثلا موقف عبد الملك بن مروان من يحى وعنبسه ـ ابني سعيد ـ بعد أن قتل أخاهما عمرو بن سعيد الأشدق .
فقد أمر عبد الملك بقتل يحى « فقام إليه أخوه عبد العزيز فقال : جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين اترك قاتلا بني أمية في يوم واحد . ! ! فأمر عبد الملك بيحى فحبس . ثم أتى بعنبسة بن سعيد . فأمر به أن يقتل . فقام إليه عبد العزيز فقال : أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها ! ! فأمر بعنبسة فحبس (27) . »
فقد اعتبر عبد العزيز قتل يحى قتلا للأمويين فناشد أخاه أن يصفح عنه ففعل . وتظهر تلك العصبية كذلك في موقف عبد الملك بن مروان من أولاد عمرو ابن سعيد الاشدق . فقد وفد هؤلاء عليه ـ بعد مقتل أبيهم ـ ، فرق لهم رقة شديدة . . . وقال : إن أباكم خبرني بين أن يقتلني أو أقتله ، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم ! ! فأحسن جائزتهم ووصلوهم وقربهم (28)
لقد مر بنا القول بأن صفة الغدر كانت متفشية بين الأمويين من النساء والرجال على السواء وبقدر ما يتعلق الأمر ، بالغدر عند النساء الأمويات يمكننا أن نقول :
لقد غدرت أم خالد ـ ابنة أبي هشام ـ أرملة يزيد بن معاوية بزوجها مروان بن الحكم فخنقته بالوسادة حتى قتلته . وتفصيل ذلك على ما رواه الطبري (29) :
إن معاوية بن يزيد « عندما حضرته الوفاة أبي أن يستخلف أحداً . وكان حسان بن مالك بن بحدل ـ خال يزيد بن معاوية ـ يريد أن يجعل الأمر ، بعد معاوية بن يزيد ، لأخيه : خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .
وكان خالد صغيراً . فبايع لمروان بن الحكم على أن يجعل الأمر من بعده لخالد . فلما بايع لمروان وبايعه أهل الشام قيل لمروان تزوج أم خالد حتى تصغر شأنه فلا يطلب الخلافة . فتزوجها . فدخل خالد يوماً على مروان وعنده جماعة كثيرة .
فقال مروان لخالد تعال يا ابن الرطبة الإست ـ يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشام ـ فرجع خالد إلى أمه فأخبرها . فقالت له : أنا أكفيكه . . .
ثم أن مروان نام عندها فغطته بالوسادة حتى قتلته . » ويحدثنا الطبري كذلك (30) عن منشأ العداوة بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الأشدق ـ الذي سنذكره عند التحدث عن الغدر عند الأمويين من الرجال ، فيغزو . إلى حقد قديم منطو على الغدر الذي اتصفت به أم مروان بن الحكم .
وتفصيل ذلك : أن عمرو ابن سعيد وأخاه ، وعبد الملك ومعاوية ابني مروان يأتون ـ وهم غلمان ـ إلى « أم مروان بن الحكم الكنانية . فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود . وكانت أم مروان ـ إذا أتوها ـ هيأت لهم طعاماً ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحيفة على حدة .
وكانت لا تزال تورش بين معاوية ومروان ومحمد بن سعيد ، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد فيقتتلون ويتصارمون الحبل لا يكلم بعضهم بعضا .
وكانت تقول : إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين .
فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم » .
أما الغدر عند رجال بني أمية فهو أبين منه عند نسائهم وذلك لطبيعة الأوضاع العامة التي تميز بين الجنسين . ويتجلى الغدر ـ بين الأمويين ـ بأوضح أشكاله عند معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك .
ويلوح لي أن الغدر كان صفة ملازمة للحكام الأمويين فإذا صادف أن اختفى الغدر في عهد أحدهم فإن مرد ذلك يعود إما إلى عدم تسجيل المؤرخين لذلك « الأسباب شتى مقصودة أو غير مقصودة » أو إلى أن ذلك الحاكم لم ير حاجة إلى الاستعانة به لتوافر أساليب ملتوية أخرى ـ من نوعه من حيث الأساس ـ وبقدر ما يتعلق الأمر بالحكام الأمويين : الذين ذكرنا أسماءهم فإن قصص الغدر عند معاوية مشهورة في كتب التاريخ .
فقد غدر بالأشتر كما هو معروف ودس له من يسمه وهو في القلزم في طريقه إلى مصر والياً من قبل علي بن أبي طالب .
فلما بلغ معاوية نجاح غدره إلتفت إلى زميله عمرو بن العاص وقال مبتسما : إن لله جنوداً من عسل .
وغدره بالحسن بن علي وبعبد الرحمن بن خالد بن الوليد أشهر من أن يذكر .
وأما غدر عبد الملك بن مروان فيتجلى بأبشع أشكاله في موقفه من عمرو ابن سعيد الأشدق (31) . وقد حصل ذلك في عام ( 70 ) عندما كان عبد الملك منشغلا في المسير من دمشق نحو العراق للقاء مصعب بن الزبير .
وكان مروان بن الحكم قد وعد عمرو بن سعيد بأن يتولى الامر من بعده فكسب مساعدته وتأييده في ظروف وملابسات تاريخية معروفة نجمت عن تخلى معاوية بن يزيد عن الحكم واضطراب الأمر من بعده غير أن مروان بن الحكم ـ على عادته الأموية ـ نكث عهده للأشدق وأوصى بالخلافة لإبنه عبد الملك .
فذكر الأشدق عبد الملك بذلك وطلب إليه أن يعهد له بالأمر من بعده .
ولكن عبد الملك أرادها لأولاده من بعده . فبيت للأشدق شراً وطلبه إليه .
فأجاب الأشدق على رغم تحذير خواصه . فقال لهم :
« والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء . . .
ومضى في مئة رجل من مواليه . وبعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده . فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه . وأذن له فدخل فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك فإذا حوله بنوا مروان .
فلما رأى جمعهم أحس بالشر . فرحب به عبد الملك وقال : ههنا يا أبا أمية يرحمك الله . فأجلسه معه على السرير . . وجعل يحدثه طويلا ثم قال : « يا غلام خذ السيف عنه » . فقال عمرو : أنا لله ـ يا أمير المؤمنين ـ فقال عبد الملك أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ! ! فأخذ السيف عنه . ثم تحدثا . فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها أمامه . ثم قال يا غلام قم فاجمعه فيها .
فقام الغلام فجمعه فيها .
فقال عمرو اذكرك الله ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تخرجني فيها على رؤوس للناس .
فقال عبد الملك أمكراً يا أبا أمية عند الموت ! ! ثم اجتذبه إجتذابة أصاب فمه فكسر ثنيته . فقال عمرو أغدرا يا ابن الزرقاء ! ! ـ . . وأذن مؤذن العصر .
فخرج عبد الملك ليصلي بالناس ، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتل عمروا . . وصلى عبد الملك . . . ورجع فوجد عمرا حيا . فقال ـ لعبد العزيز ـ ما منعك من أن تقتله ؟ قال : إنه ناشدني الله والرحم فرفقت به .
فقال له عبد الملك أخزى الله أمك البواله على عقبها . . . ثم إن عبد الملك قال يا غلام أئتني بالحرية . فأتاه بها . فهزها . ثم طعنه بها . . . وجلس على صدره فذبحه . . .
انتفض عبد الملك رعدة . . . فحمل عبد الملك عن صدره ووضع على سريره . . .
وجاء عبد الرحمن بن أم حكيم الثقفي فرفع إليه الرأس فألقاه في الناس .
وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ الأموال في البدور فجعل يلقيها إلى الناس . فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس إنتهبوا الأموال وتفرقوا . »
تلك هي مأساة الأشدق . ولا بد أن القارىء قد لاحظ معنا جملة أمور قام بها عبد الملك بن مروان « خليفة » للمسلمين وابن « خليفتهم » ـ لا يجيزها الدين ولا العرف ، ولا الذوق الإنساني الرفيع .
ترى لماذا قتل عبد الملك ابن عمه بذلك الشكل الغادر ؟ لكي يحافظ على الخلافة الإسلامية التي انتهك حرمتها أبوه من قبله ؟
لماذا صلى وهو متلبس بجريمة التهيؤ للقتل ؟
أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ؟
هل تنسجم الصلاة مع قتل النفس التي حرم الله ؟
ثم لماذا نثرت الدراهم على الناس مع رأس القتيل ؟ للإمعان في إفساد أخلاق الناس ؟ هل يجيز الإسلام أن يعمل « الخليفة » على إفساد أخلاق المسلمين ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسوقنا إلى القول بأننا أمام تصرفات خلقية جاهلية وثنية حاربها الإسلام وتعهدها الأمويون بالرعاية والتنشيط .
ولعل أطرف قصص الغدر وما يرافقه من التواء في الخلق عند الأمويين قصة الوليد بن عبد الملك عندما أراد خلع أخيه سليمان من ولاية العهد وتحويلها لولده عبد العزيز « بعد أن أغراه على ذلك ـ ووافقه عليه ـ جملة أشخاص من المتنفذين وفي مقدمتهم الشاعر جرير وقتيبة بن مسلم الباهلي وإلى خراسان والحجاج بن يوسف الثقفي وإلى العراق » .
ومن أطرف ما نظمه جرير في هذا الصدد ـ قوله :
إذا قيل أي الناس خير خليفة |
أشارت إلى عبد العزيز الأصابع |
|
رأوه أحق الناس كلهم بها |
ـ وما ظلموا ـ فبايعوه وسارعوا (32) |
وقال : أيضاً في قصيدة أخرى يحث الوليد على جعل ولاية العهد لأبنه عبد العزيز :
فزحلقها بأزملها إليه |
أمير المؤمنين إذا تشاء |
|
فان الناس قدموا إليه |
أكفهم وقد برح الخفاء |
|
ولو قد بايعوه ولي عهد |
لقام الوزن واعتدل البناء |
غير أن إخفاق الوليد في مسعاه قد جعل الأمر ينتقل بعد وفاته إلى أخيه سليمان وبذلك أصبح موقف الذين ألبوا الوليد على خلع سليمان حرجا .
ولعل محاولة « الخليفة » الجديد الإنتقام لنفسه من هؤلاء وسعى قتيبة بن مسلم الباهي إلى تدارك الموقف تبين لنا الغدر الأموي بإحدى صوره البشعة .
وإلى القارىء ملخصها : عندما علم قتيبة بتسلم سليمان مقاليد الحكم الأموي كتب إليه كتاباً « يهنئه ويعزيه على الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان .
وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم . .
وكتب إليه كتاباً ثالثاً فيه خلعه . وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة .
وقال له : إدفع إليه هذا الكتاب . فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه سليمان ثم ألقاه إليه فأدفع إليه هذا الكتاب فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فأدفع إليه هذا الكتاب .
فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فأحتبس الكتابين الآخرين . . .
فلما قدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب . فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد . فدفع إليه كتاباً آخر . فقرأه ثم رمى به إلى يزيد . فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه . ثم دعا بطين فحثمه . ثم أمسكه بيده . . .
ثم أمر برسول قتيبة أن ينزل فحول إلى دار الضيافة . فلما أمسى دعا به سليمان . فأعطاه صرة فيها دنانير وقال : هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسولي معك بعهده . فخرج الباهلي . فبعث معه سليمان رجلا من عبد القيس ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة أو مصعب . فلما كانوا بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة وقتله (33) . »
5 ـ الظلم
وقد مر بنا ذكره ضمنا في النقاط السابقة . فالغدر والزنى وقتل النفس كلها أمور تقع من الظلم في الصميم . والظلم ـ بمختلف صنوفه ـ من الموبقات التي حاربها الإسلام (34) » . جاء في سورة الزمر :
« وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ـ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » .
وذكر مسلم بأن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار المزنى في مرضه الذي مات فيه . فقال معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله لو علمت أن لي حياة ما حدّثتك :
إنّي سمعت رسول الله يقول : ما من يسترعيه الله رعيته يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة . (35) »
ولعل الحادثة التالية تكشف جانباً من جوانب الظلم عند الأمويين :
ذكر الطبري : عن أبي عبيدة « عن رؤية بن الحجاج قال :
حج سليمان بن عبد الملك وحج الشعراء معه وحججت معهم . فلما كان بالمدينة راجعاً تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم . فقعد سليمان . . .
فقدم بطريقهم ـ فضرب عنقه ـ . وجعل سليمان يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير منهم فدست إليه بنو عبس سيفاً في قراب أبيض . فضربه فأبان رأسه .
ودفع إلى الفرزدق أحد الأسرى فلم يجد سيفاً . فدسوا له سيفاً ددناً متيناً لا يقطع . فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً . فضحك سليمان والقوم .
وشمت الفرزدق بنو عبس ـ أخوال سليمان . فألقى السيف وأنشأ يقول ويعتذر إلى سليمان :
إن يك سيف خان أو قدر أتى |
بتأخير نفس حتفها غير شاهد |
|
فسيف بني عبس وقد ضربوا به |
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد |
|
كذلك سيوف الهند تنبو ظباتها |
وتقطع أحياناً مناط القلائد (36) |
وإذا أمعنا النظر في قضية سليمان بن عبد الملك « خليفة » المسلمين مع أولئك الروم المساكين ـ الذين ساقهم سوء الطالع إلى الوقوع أسرى بين يديه ويعبث ـ ويمرح ـ بأرواح أولئك البشر .
وإذا كان الذوق الإنساني ـ والدين بالطبع ـ لا يستسيغان العبث ـ بهذا الشكل ـ بحياة الحيوان ، فكيف جاز « الخليفة » أن يفعل ذلك بالبشر ! ! ولكنها الأخلاق الأموية على كل حال .
ويظهر ظلم الأمويين ـ بأبشع أشكاله ـ في تصرفات ولاتهم القساة وفي مقدمتهم الحجاج بن يوسف الثقفي .
وإلى القارىء هذا الجانب المخيف من تلك القسوة .
كتب عبد الملك بن مروان (37) للحجاج أن يعرض أسرى دير الجماجم على السيف وقال له :
فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله .
ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه . ففعل . فلما عرضهم أتى بشيخ وشاب .
فقال للشاب : أمؤمن أنت أم كافر ؟ قال بل كافر .
فقال الحجاج لكن الشيخ لا يرضى بالكفر . فقال الشيخ أعن نفسي تخادعني يا حجاج ! ! والله لو كان شيء أعظم من الكفر لارتضيت به .
فضحك الحجاج وخلى سبيلهما . ثم قدم إليه رجل فقال له على دين من أنت ؟
قال على دين ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين . فقال أضربوا عنقه .
ثم قدم آخر فقال له : على دين من أنت ؟ قال على دين أبيك الشيخ يوسف . . . فقال : خل سبيله يا غلام .
فلما خلى عنه انصرف إليه فقال له يا حجاج سألت صاحبي على دين من أنت فقال على دين ابراهيم حنيفا وما كان المشركين . فأمرت به فقتل .
وسألتني على دين من أنت فقلت : على دين أبيك الشيخ يوسف فأمرت بتخلية سبيلي ! ! والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه .
فأمر به فقتل . . . ثم أتى بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير . . .
فلما قدم له الشعبي قال : أكافر أنت أم مسلم ؟ قال :
أصلح الله الأمير بنا بنا المنزل وأجدب بنا الجناب واستحلنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء .
قال الحجاج صدق والله . خليا عنه .
ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال له أكافر أنت أم مؤمن ؟ قال :
أصلح الله الأمير إن من شهر العصا ونكث البيعة ، وفارق الجماعة ، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فقال صدق . خليا عنه .
ثم أتى بسعيد بن جبير . فقال له . أنت سعيد بن جبير ؟ قال نعم : قال لا بل شقي بن كسير . قال : أمي أعلم بأسمى منك . فقال : شقيت وشقيت أمك . قال : الشقاء لأهل النار .
قال أكافر أنت أم مؤمن ؟ قال ما كفرت بالله منذ آمنت به . قال : أضربوا عنقه . »
خبرونا على أي شيء يدل سلوك الحجاج وخليفته ؟ ! !
هل الخروج على أئمة الكفر ـ لإرجاعهم إلى حضيرة الدين ـ كفر بالله ؟
يعاقب عليه بالقتل ؟ هل فعل الرسول ـ بأسرى قريش من المشركين ـ .
ما فعله الأمويون بهؤلاء المسلمين ؟
الواقع : إن تلك أمثلة ـ كسابقاتها ـ « يسند بعضها بعضا » تدل على جاهلية القوم وتمردهم على الدين . . ويلوح لي : إن أسرى دير الجماجم كان يتنازعهم خوف ذو جانبين :
خوف من الله وخوف من « الوهية » الأمويين ، والحجاج على حساب الله .
وتنعكس الآية في الجانب الثاني . نقول :
الوهية الحجاج والأمويين ونحن غير متجنين عليهم .
فقد مر بنا ما قاله عبد الملك للحجاج بشأن الأسرى : فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله . ومن زعم أنه مؤمن فأضرب عنقه . »
وقد استلزم موقفهم من الله أن يطوحوا بحياتهم ، كما استلزم موقفهم من الطاغوت أن يطوحوا بدينهم وخلقهم . فأختار بعضهم الموقف الأول فعرضوا على السيف .
وجنح آخرون نحو الموقف الثاني فأرتاح لهم الحجاج وعفا عنهم .
كل ذلك والحجاج أمير المسلمين يحكم بأسم « أمير المؤمنين » نيابة عن رسول الله ! ! .
6 ـ شهادة الزور
وهي : موبقة لا تقل شناعة عما سبقها . وقد استبشعها الإسلام ومنعها وعاقب عليها . ولشهادة الزور نتائج وخيمة ، مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، مباشرة وغير مباشرة . وتتعلق شهادة الزور ـ أشد التعلق ـ بالموبقات التي ذكرناها فتكون سبباً لبعضها ونتيجة لبعض آخر . وفي معرض التحدث عن شهادة الزور قال مالك بن أنس (38) قيل لرسول الله ما الكبائر ؟ فقال : « الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور . » أي أن شهادة الزور ـ بنظر النبي ـ كالشرك بالله ، وهو أعظم منكر في الإسلام وكقتل النفس التي حرم الله .
ولم يتردد الأمويون من الإستعانة بهذا السلاح ـ الخطر ـ للتنكيل بخصومهم لا لذنب إقترفوه بل لأنهم يطالبون الأمويين ، الذين يحكمون باسم الدين ، ألا يخرجوا عليه .
ويرتكب الأمويون ـ عند إستعانتهم بشهادة الزور ـ موبقتين في آن واحد : تلفيق الشهادة ، والعقاب على جرم ملفق .
وفي تاريخ الأمويين من ذلك الشيء كثير . ولعل أشهر شهادات الزور في التاريخ الأموي تلك الشهادة التي لفقوها ضد حجر بن عدي وأصحابه .
وإلى القارىء نصها (39) : هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري لله رب العالمين . شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة . وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين ـ معاوية بن أبي سفيان ـ وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء .
فقال زياد بن سمية : على مثل هذه الشهادة فأشهدوا . . . فشهد اسحق بن طلحة ابن عبيد الله وموسى بن طلحة واسماعيل بن طلحة والمنذر بن الزبير . . .
والسري بن وقاص الحارثي ـ كتبت شهادته وهو غائب في عمله ـ . .
والهيثم بن الأسود النخعي ـ وكان يعتذر إليهم ـ . . . وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانىء الحارثي .
فأما شريح القاضي فقال : سألني عن حجر فأخبرته أنه كان صواما قواما .
وأما شريح بن هانىء الحارثي فكان يقول : ما شهدت . ولقد بلغني أن كتبت شهادتي فأكذبته ولمته . »
فهل يجيز الخلق الكريم شهادة الزور ؟
وهل يستسيغها الإسلام ؟ يهون الأمر ـ على فظاعته ـ لو كان فاعله من عامة المسلمين . فكيف به وهو أمير من أمرائهم ! !
وفي هذه الشهادة تزوير مضاعف :
فقد لفقت صيغتها بمجموعها كما لفقت شهادة من لم يكن حاضراً أثناء التلفيق .
وقد لفق تلك الشهادة حاكم يزعم أنه يحكم باسم « خليفة المسلمين » و « أمير المؤمنين » الذي ينوب في حكمه عن رسول الله .
أما الشهود ففي مقدمتهم ـ كما يلاحظ القارىء ـ : أبناء رجال يعتبرهم كثير من المسلمين من خيار صحابة الرسول . وقد قدم بعضهم شهادته الكاذبة ـ وأبوه ما زال حياً ـ ولم يمض على وفاة الرسول نصف قرن . فأبو بردة بن أبي موسى الأشعري بطل التحكيم الذي « خلع » معاوية يعتبر معاوية ـ الذي خلعه أبوه ـ أميراً للمؤمنين .
واسحق وموسى ، واسماعيل أبناء طلحة والمنذر بن الزبير يشهدون على حجر أنه خلع الطاعة وفارق الجماعة وجمع إليه الجموع ويدعوهم إلى نكث البيعة وخلع « أمير المؤمنين » معاوية بن أبي سفيان .
وقد نسى السادة : اسحق وأخواه ـ موقف أبيهم طلحة من إمام زمانه ونكثة البيعة وخروجه إلى البصرة مع جمل السيدة عائشة أم المؤمنين .
كما نسى المنذر موقف أبيه الزبير .
وهذا من مفارقات التاريخ الإسلامي المملوء بالمفارقات . . .
7 ـ نقض العهد
وهو موبقة من أبشع الموبقات التي حاربها الإسلام لما يترتب عليها من فقدان الثقة بين الناس ومن نتائج مادية ومعنوية على جانب كبير من الوخامة والضرر .
وتتجسم بشاعته إذا صدر من صاحب النفوذ ـ فكيف به إذا كان « أميرا » للمؤمنين ! ! ولهذه الموبقة علاقة وثقى بالموبقات التي ذكرناها .
جاء في سورة الإسراء : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا . »
وذكر البخاري : بأسانيده المختلفة (40) عن حذيفة بن اليمان أنه « قال : ما منعني أن أشهد بدرا ، إلا أني خرجت أنا وأبي حيل . فأخذنا كفار قريش . فقالوا :
إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده . نريد المدينة . فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه . فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر . فقال :
إنصرفا . نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عز وجل . »
وقد ضرب الرسول للمسلمين أسمى مثل في المحافظة على العهد في القضية المذكورة . فقد أمر هذين الرجلين ـ اللذين ساقهما تفادى ما لا تحمد عقباه أن يعطيا ميثاقا للكفار بعدم الإلتحاق بالنبي ـ بالمحافظة على ذلك الميثاق ـ للكفار الذين لا مواثيق عندهم ـ .
وفي وقت كان النبي أحوج ما يكون لنصرتها للمحافظة على بيضة الدين .
غير أن « خلفاء » الأمويين قد ساروا ـ كما جرت عادتهم ـ سيرا يناقض
سير النبي تمام المناقضة .
ويلوح للباحث أنهم ـ قد ورثوا ـ هذه الموبقة ـ من جاهليتهم كما ورثوا
موبقاتهم الأخرى .
ذكر ابن هشام (1) موقف أبي سفيان « عندما أسر المسلمون في بدر إبنه عمرا »
من المسلمين الذين تعاهد معهم بعدم التعرض لهم والاعتداء عليهم . إذ بينما كان
عمرو محبوسا في المدينة خرج سعد بن النعمان بن أكال « أخو بني عمرو بن عوف »
معتمرا . وكان شيخاً مسلماً .
فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو . وأنشد مفتخراً .
أرهط بن أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فان بني عمرو لئام أذلة
لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
أما الأمثلة الأخرى على نكث الأمويين عهودهم وهم حكام المسلمين فكثيرة .
وقد مر قسم كبير منها في الفقرات السابقة .
ويلوح للباحث بأن الوفاء بالعهد ركن من أهم الأركان الخلقية التي بني عليها
الإسلام . فقد نص عليه القرآن ـ كما رأينا ـ .
والتزم به رسول الله في أقواله وأفعاله على السواء .
وفي تاريخ النبي أمثلة كثيرة تؤيد ما نقول . وقد مر بنا ذكر بعضها .
أما الأمثلة الأخرى فتشير إلى وفاء رسول الله بعهده للمسلمين والمشركين على
__________________
1 ـ سيرة النبي محمد 2 / 294 .
السواء . ولا نظن أن موقفه في الحديبية ـ مع سهيل بن عمرو زعيم المشركين ـ
غريب على كثير من القراء .
فقد اشترط سهيل ـ النبي كما هو معروف ـ « من جملة ما اشترط » أن يرد
الرسول من يلتحق به من المشركين إلى أهله . ولا عكس .
وقد وافق الرسول على ذلك . ! ! فأقبل أبو جندل ـ ابن سهيل عمرو ـ
يحمل في القيود . وكان أسلم فأشفق أبوه أن يلحق بمحمد فقيده . فأقبل أبو جندل
حتى ألقى نفسه بين رجال المؤمنين وقال :
أنشدكم الله والإسلام أن لا تردوني الى الكفار . فحماه ناس من أصحاب
رسول الله فقال سهيل : للنبي أذكرك عهدك . فأمر رسول الله بابن سهيل أن يدفع
إليه (1) . » ولم يغب وفاء الرسول بالعهد ـ وفق مستلزمات الإسلام ـ حتى
عن ذهن خصومه .
فهذا أبو سفيان ـ أشد خصوم النبي والإسلام ـ لم يستطع نكران ذلك
عند محاورته مع هرقل حول النبي ـ خصمه اللدود ـ . قال الواقدي (2) :
« وكان أبو سفيان عند هرقل في تجارة . فقال هرقل : يا أبا سفيان لقد كان يسرني
أن ألقى رجل من أهل بلدك يخبرني عن هذا الرجل الذي خرج منكم .
فقال أبو سفيان : على الخبير سقطت . سلني عما شئت من أمره .
فقال هرقل : حدثني عنه ابني هو أم كذاب ؟ فقال أبو سفيان : هو كذاب .
قال هرقل : ما الذي يأمركم به ؟ وما الذي ينهاكم عنه ؟
__________________
1 ـ الواقدي « مغازي رسول الله » ص 310 .
2 ـ المصدر نفسه ص 223 .
قال أبو سفيان : يأمرنا أن ننحني طرفي النهار كما تنحني النساء ، وأن نعطيه
خراجا من أموالنا كل عام . وينهانا عن الميتة والدم . . .
قال هرقل : أخبرني هل يغدر إذا واثق ؟ قال أبو سفيان لا . ما غدر قط . »
8 ـ ولاة السوء
استعان الأمويون بطائفة ضخمة من الولاة القساة الفجرة في تصريف شئون
المسلمين (1) . فكان هؤلاء لا يقلون ـ عن أسيادهم الأمويين ـ جفاء لروح
الدين وخروجا سافراً على مقوماته وتعاليمه .
وقد اشترك هؤلاء ـ مع الأمويين ـ في جميع الموبقات التي ذكرناها بشكل
مباشر أحيانا وبشكل غير مباشر أحيانا أخرى .
وأشهر هؤلاء الولاة ـ وهم كثيرون ـ عمرو بن العاص وزياد بن سمية
والحجاج بن يوسف الثقفي .
فعمرو وهو ابن العاص بن وائل السهمي « أحد المستهزئين برسول الله
والمكاشفين له بالعداوة والبغضاء والأذى » .
وكان العاص يدعى الأبتر وفيه نزل قوله : « إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ » .
قال ابن اسحق : (2)
« وكان خباب بن الأرت ـ صاحب رسول الله ـ قينا ، أي حدادا بمكة
_________________
1 ـ أما القواد الذين اعتمد عليهم الأمويون فقد كانوا أشد من الولاة وأقسى . وقد
مر بنا طرف من أخبارهم وخاصة بسر بن أرطاة .
2 ـ ابن هشام « سيرة النبي محمد » 1 / 380 .
يعمل السيوف وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له . حتى إذا كان
عليه مال فجاء يتقاضاه فقال له : يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم ـ هذا الذي
أنت على دينه ـ إن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم ؟
قال خباب بلى . قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك
الدار فأقضيك هنالك حقك . فوالله : لا تكون أنت ـ وصاحبك ـ يا خباب
آثر عند الله مني .
فأنزل الله فيه : أفرأيت الذي كفر بآيتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع
الغيب . . . إلى قوله ونرثه ما يقول ويأتينا فردا . »
أما أم عمرو بن العاص فهي النابغة التي مر بنا ذكر جانب من فجورها وعهرها
عندما تحدثنا عن أبي سفيان .
وأما زوج عمرو فقد اتهمت هي الأخرى بالاجتماع على زنى مع عمارة
ابن الوليد بن المغيرة ـ أخي خالد بن الوليد .
فقد ذكر ذلك ابن اسحق في كتابه : عن عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص ـ
عند خروجها إلى الحبشة للايقاع بالمسلمين هناك ـ .
وكان عمارة جميلا وسيما تهواه النساء . وهو صاحب محادثة لهن . فركبا البحر .
ومع عمرو بن العاص امرأته . حتى إذا صاروا في البحر اصابا من خمر معما .
فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص : قبليني .
فقال لها عمرو قبلي بن عمك : فهويها عمارة وجعل يراودها عن نفسها . » (1)
وأما عمرو نفسه فقد كان أشد خصوم الرسول في بدر واحد .
__________________
1 ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » 2 / 107 الطبعة الأولى بمصر .
وكان عمرو أحد الذين تعقبوا زينب بنت النبي حين خرجت مهاجرة ـ من
مكة إلى المدينة ـ وقرعوا هودجها بكعوب رماحهم حتى أجهض جنينا ميتا من
بعلها أبي العاص بن الربيع قبل إسلامه . وقد روى الواقدي وغيره من الرواة .
إن عمروا هجا رسول الله واتهم بالتعاون مع آخرين أمثال : عقبة بن أبي معيط
كانوا يؤذون رسول الله بأيديهم ويلقون القاذورات في مصلاه والعوسج
على رأسه .
وعمرو هو القائل يوم أحد عندما حارب النبي في صفوف المشركين :
لما رأيت الحرب ينزو شرها بالرضف نزوا
أيقنت أن الموت حق والحياة تكون لغوا
حملت أثوابي على عند يبذ الخيل رهوا
فلما يئس عمرو ، من الانتصار على النبي في الحرب لجأ إلى الغدر والدس والتواري
عن الأنظار .
قال عمرو نفسه على ما يذكر ابن هشام (1) : « لما انصرفنا من الأحزاب عن
الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم :
إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا . . . فأرى أن نلحق بالنجاشي فنكون
عنده . فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي . فإما أن نكون تحت يديه أحب
الينا من أن نكون تحت يدي محمد فإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا . »
وكان عمرو من أكبر المؤلبين على عثمان بن عفان والمخذلين عن نصرته لأنه
عزله عن ولاية مصر .
__________________
1 ـ سيرة النبي محمد 3 / 317 .
« فكان يؤلب الناس عليه ويحرضهم ما وسعه ذلك سرا . على أنه لم يتردد
أن قال لعثمان جهرة في المسجد : إنك ركبت بالناس أمورا وركبناها معك فتب
إلى الله نتب .
وتلقى عثمان ذلك أسوأ لقاء . فلما اشتدت وعرف أنها منتهيه إلى غايتها أثر
أن يعتزلها في طورها ذاك . فخرج إلى أرض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها
يتنسم الأخبار .
وكان عمرو وأبناه على ما هم عليه بفلسطين حتى جاءهم النبأ بقتل عثمان . فقال
عمرو لابنه عبد الله أنا أبوك ما حككت قرحة إلا أدميتها ـ يريد أنه مهد
للفتنة والثورة بعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الأمر إلى غايته (1) . » ويحدثنا عمرو
نفسه عن بعض ما فعله من التأليب على عثمان وهو في طريقه إلى فلسطين فيقول
على ما يذكر البلاذري (2) :
« والله أني كنت لالقى الراعي فأحرضه على عثمان . » أما موقفه الدنيء في
التحكيم فلا يحتاج إلى شرح .
فقد أغفل أبا موسى الأشعري ـ إبتداء ـ وألقى في روعه أن موضوع
التحكيم ينحصر في تعيين خليفة للمسلمين ـ كأن خلع على من الخلافة قد بات
أمراً مفروغا .
ولما اطمأن عمرو إلى ثبوت ذلك في ذهن أبي موسى جعل موضوع البحث
ينحصر في الاتفاق على مرشح جديد .
__________________
1 ـ الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى » : علي وبنوه ص 67 ـ 68 .
2 ـ أنساب الأشراف : 5 / 74 .
ولما ظهر أنهما لم يتفقا على شخص معين طلب عمرو من أبي موسى أن يوجد
حلا للخروج من ذلك المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير المسلمين آنذاك .
فتقدم أبو موسى باقتراح جديد ظنه كسبا له واندحارا لابن العاص . فقد خيل
اليه أنه سينتصر إذا ما وافق عمرو على « خلع » معاوية بعد أن بات على خلع « على »
أمرا متفقا عليه . فوافق عمرو ـ في الظاهر ـ على الفكرة وأغرى صاحبه أن
يعلنها للناس . ثم عاد فغدر به . فبرز عمرو ـ في ذلك كله ـ بأبشع ما يبرز فيه
الرجل من الخداع والدس والتدني عن مستويات الأخلاق الرفيعة .
ومن طريف ما يروى عن عمرو قوله لعائشة . « كنت أود أنك قتلت يوم
الجمل .
قالت : ولم لا أبا لك ! ! قال كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك
أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب . »
و « روى ابن مزاحم قال : حدثني يحيى بن يعلى قال حدثني صباح المزني عن
الحرث بن حصن عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال : كنا
بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى وقد استظللنا برداء أحمر
إذ أقبل رجل يستقرى الصف حتى انتهى الينا وقال :
أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار : أنا عمار . قال أبو اليقظان ؟ قال نعم ـ
قال إن لي اليك حاجة . قال : أفأنطق بها سرا أو علانية ؟ قال اختر لنفسك
أيهما شئت . قال . لا بل علانية . قال : فأنطق بها . قال إني خرجت من أهلي
مستبصرا حتى ليلتي هذه . فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ونادى بالصلاة ونادى مناديهم مثل ذلك . ثم اجتمعت الصلاة
فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحداً ودعونا دعوة واحدة .
فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلة لا يعلهما إلا الله حتى أصبحت فأتيت
أمير المؤمنين فذكرت ذلك له . فقال : هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت لا . . .
قال : فألقه فأنظر ماذا يقول لك عمار فأتبعه . فجئتك لذلك .
قال عمار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ؟ فإنها راية
عمرو بن العاص قاتلها مع رسول الله ثلاث مرات وهذه الرابعة . فما هي بخيرهن
ولا أبرهن بل شرهن وأفجرهن .
أشهدت بدراً وأحداً ويوم حنين أو شهدها أب لك فيخبرك عنها ؟ قال لا .
قال : فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم أحد ويوم
حنين ، وإن رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب .
فهل ترى هذا المعسكر ومن فيه ؟
والله لوددت أن جميع من فيه ممن مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه
كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته . والله لدماؤهم جميعاً أحل من دم عصفور .
أفتراني بينت لك ! ! قال قد بينت لي . قال : فاختر أنى ذلك أحببت . فانصرف
الرجل فدعاه عمار ثم قال : أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون
منكم فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا . والله ما هم من الحق على
ما يقذى عين دباب . لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على
حق وانهم على باطل (1) . »
__________________
1 ـ ابن أبي الحديد : « شرح نهج البلاغة » 1 / 506 . لقد ضرب عمار ـ في ذلك
أروع مثال في التضحية في سبيل الإسلام وجهاد الخارجين عليه . وقد مر بنا ذكر صور
أخرى من ذلك في مقدمة الكتاب .
أما زياد بن سمية والحجاج بن يوسف فلم يدركا النبي ليساهما في إيذائه .
ولكنهما نالا من تعاليمه ودينه بقدر ما نال ابن العاص من شخصه الكريم .
فقد عاث هذان الأميران الفاجران في الأرض فسادا وعبثا بأرواح المسلمين
وممتلكاتهم وعقائدهم .
فقتلا من قتلا وحبسا ونفيا وعذبا من المسلمين عدداً كبيراً .
وقد مر بنا ذكر جانب من تصرفات ابن سمية وطرفا من سلوك أمه التي كانت
من ذوات الرايات .
ذكر الطبري : أن زياد بن أبيه حينما كان واليا على البصرة « كان يؤخر صلاة
العشاء . . . ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج . ولا يرى إنساناً إلا قتله .
قال : فلقى ليلة إعرابياً فأتى به زياداً فقال : هل سمعت النداء ؟ قال لا والله . قدمت
بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع . فأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان
من الأمر . قال : اظنك ـ والله ـ صادقاً ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة .
ثم أمر به فضربت عنقه .
كان زياد أول من شد أمر السلطان وأكد الملك لمعاونه والزم الناس لطاعته
وتقدم في العقوبة وجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة (1) .
والغريب في الأمر إن أبسط العقوبات الشائعة في العهد الأموي هي القتل . وكان
ينبغي أن تكون تلك العقوبة آخر العقوبات حسب تعاليم الدين والعرف السياسي
الشائع . وأغرب من ذلك أن القتل كان يجرى على التهمة ودون محاكمة أو سماع
لوجهة نظر المتهم .
__________________
1 ـ « تاريخ الأمم والملوك 7 / 217 .
ونود في ختام هذا الجانب من جوانب الدراسة أن نعرض على القارىء طرفا
من تصرفات الحجاج الذي ملأ اسمه أسماع الناس مقروناً بالظلم والبغي والخروج
على تعاليم الإسلام .
هذا إلى أن الحجاج قد ساهم في جميع الموبقات الأموية التي ذكرناها ، وأسرف
في قتل النفس التي حرم الله .
« وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكثر لذاته سفك الدماء وإرتكاب أمور
لا يقدم عليها غيره ولا سبق إليها سواه (1) .
وقد سأل الحجاج يوما بعض كتابه عن رأي الناس فيه فاستعفاه الكاتب فلم
يعفه . « فقال : يقولون إنك علوم ، غشوم ، قتال ، عسوف ، كذاب (2) .
وقد سأله يوما عبد الملك بن مروان أن يصف نفسه على حقيقتها .
« فقال أعفني يا أمير المؤمنين : قال لتفعلن .
قال : أنا لجوج ، حقود ، حسود .
قال عبد الملك ما في الشيطان شر مما ذكرت (3) . »
__________________
1 ـ المسعودي : « مروج الذهب » 3 / 67 . ومن الطريف أن نذكر هنا أن ظلم
الرعية من أسهل الأمور التي يستطيع أن يقوم بها الحاكم إذا توافرت لديه عناصر القوة في
جهازه الحكومي . وأن غالبية الناس ـ في العادة ـ يتحملون الذل ويألفون الانقياد تفادياً
التعذيب أو القتل . وإذا رأينا بعض الحكام لا يميلون إلى الشدة ـ رغم توافر الإمكانيات
المادية لاستعمالها ـ فان مرد ذلك على ما نرى . ليس هو الخوف من الرعية أو من انتفاضها
بقدر ما هو الخوف من وخز الضمير وعقاب النفس .
2 ـ الجهشياري : « الكتاب والوزراء » ص 42 .
3 ـ ابن قتيبة : « عيون الأخبار » مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة .
الطبعة الأولى .
لقد مر بنا القول أن اسم الحجاج مقرون في العادة ـ عند كثير من الناس ـ
بالشدة والقسوة المتناهيتين . حتى أصبح اسمه يضرب فيه المثل في أخذ الرعية بسياسة
الشدة بابشع صورها .
وقد يخيل لبعض الناس إن هذه الشدة تدل على الرجولة والشجاعة . غير أني
أرى أنها تدل على الجبن والتخاذل . لأن الشجاعة إنما تظهر عند الرجل في مواقفه
مع من هم في منزلته « من الحياء والسطوة والنفوذ أو القوة الجسمية » أو مع من
هم فوقه في ذلك .
أما أن يستعمل المرء ضروب القسوة والشدة مع من هم دونه ، في السطوة
والنفوذ ، أو مع العزل من الناس فأمر إن دل على شيء فانما يدل على الخسة
والجبن وضعة النفس ، خاصة إذا ما كانت مواقف ذلك الشخص ـ مع من هم
أعلى منه ـ تنطوى على الجبن والتهافت .
وإلى القارىء موقف الحجاج مع عبد الملك بن مروان في قضيتين هامتين :
عندما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وعلم بذلك عبد الملك بن
مروان كتب إليه يزجره وذيل كتابه بالأبيات التهديدية التالية :
إذا أنت لم تطلب أموراً كرهتها
وتطلب رضائي بالذي أنت طالبه
وتخشى الذي يخشاه مثلي هاربا
إلى الله منه ضيع الدير حالبه
فإن ترمني غفلة قرشية
فيا ربما قد غص بالماء شاربه
وإن ترمني وثبة أموية
فهذا وهذا كل ذا أنا صاحبه
فلا لا تلمني والحوادث جمة
فإنك مجزى بما أنت كاسبه
ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعد
يقوم بها يوما عليك نوادبه (1)
__________________
1 ـ المسعودي : « مروج الذهب ومعادن الجوهر » 3 / 74 ـ 76 .
والحجاج إنما أسرف في القتل خدمة للعرش الأموي لا شك في ذلك عنده
أو عند عبد الملك أو عند الآخرين .
فلما قرأ الحجاج كتاب عبد الملك أجابه متخاذلا متراجعاً ذليلا متهافتاً ،
طفحت وضاعة نفسه على لسانه ، وذيل كتابه بالأبيات التالية :
إذا أنا لم أتبع رضاك واتق
أذاك فيومي لا تزول كواكبه
ومالا مرىء ـ بعد الخليفة ـ جنة
تقيه من الأمر الذي هو كاسبه
أسالم من سالمت من ذي قرابة
ومن لم تسالمه فأني محاربه
إذا قارف الحجاج منك خطيئة
فقامت عليه في الصياح نوادبه
إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه
واقص الذي تسرى إلى عقاربه
فمن ذا الذي يرجو نوالي ويتقى
مصاولتي والدهر جم نوائبه
فقف بي على حد الرضا لا أجوزه
ـ مدى الدهر ـ حتى يرجع الدر حالبه
هناك ـ على ما يبدو ـ حجاجان . حجاج القسوة والشدة مع العزل
والضعفاء والأبرياء . والحجاج التخاذل والجبن مع القساة الفجرة من الحكام والأمراء .
حجاج « يرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها : يعصب الناس عصب السلمة
حتى يذلوا ويضربهم ضرب غرائب الإبل حتى يذروا العصيان وينقادوا » .
وحجاج آخر جبان متخاذل إذا لم يبع رضا الخليفة ويتق أذاه فليله لا تزول
كواكبه . حجاج يقوله :
وما لامرىء ـ بعد الخليفة ـ جنة
تقيه من الأمر الذي هو كاسبه
حجاج يخاطب الخليفة متضرعاً :
فقف بي على حد الرضا لا أجوزه
ـ مدى الدهر ـ حتى يرجع الدر حالبه
أما المثال الثاني ـ الذي يتخاذل الحجاج فيه أمام سيده عبد الملك « بعد أن
تعالى وتجبر على فرد أعزل من رعاياه » فقد ذكره ابن الأثير (2) حين قال :
فحين دخل على الحجاج أنس بن مالك قال له الحجاج : لا مرحبا ولا أهلا بك
يا ابن الخبيثة ، شيخ ضلالة ، جوال في الفتن . . . أما والله لاجردنك جرد القضيب ،
ولاعصبنك عصب السلمة ، ولأقلعنك قلعة الصمغة .
فقال أنس : من يعني الأمير ؟ قال إياك أعني أصم الله صداك . فرجع أنس
فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج . . .
فكتب عبد الملك إلى الحجاج : إنك عبد طمت بك الأمور فعلوت حتى
عدوت طورك ، وجاوزت قدرك . يا ابن المستضرمة بعجم الزبيب لأغمزنك
غمزت كبعض غمزات الليوث والثعالب ، ولأخبطنك خبطة تود لها أنك رجعت
في مخرجك من بطن أمك .
أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم
ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم ؟ !
أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة ، في المروءة والخلق ؟ وقد بلغ أمير
المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك . . .
فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين ، أصك الرجلين ، ممسوح الجاعرتين . . .
أكرم أنساً وأهل بيته ، وأعرف حقه ولا تقصر في شيء من حوائجه .
وبعث بالكتاب مع اسماعيل بن عبد الله « مولى بني مخزوم » فأتى اسماعيل بكتاب
أمير المؤمنين فقرأه . وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرؤه ووجهه يتغير
وجبينه يرشح عرقا ويقول : يغفر الله لأمير المؤمنين . ثم اجتمع بأنس . فرحب
الحجاج به واعتذر إليه . »
__________________
1 ـ الكامل في التاريخ 4 / 39 .
ونود أن نختتم هذا البحث بعرض آراء طائفة من أجلة المسلمين في « تزكية »
الحجاج . قال ابن عبد ربه : (1) « حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه قال : حدثنا
عمر بن عبد العزيز قال : لو جاءت كل أمة بمناقبها وجئنا بالحجاج لفضلناهم . »
وذكر ميمون بن مهران عن الأجلح « قال : قلت للشعبي يزعم الناس أن
الحجاج مؤمن ! ! قال مؤمن ! ! بالجبت والطاغوت كافر بالله .
وقال علي بن عبد العزيز عن اسحق بن يحيى عن الأعمش قال :
اختلفوا في فقالوا بمن ترضون ؟ قالوا بمجاهد . فأتوه فقالوا إنا اخيلفنا في الحجاج .
فقال أجئتم تسألونني عن الشيخ الكافر ! ! !
وقال محمد بن كثير عن الأوزاعي قال : سمعت القاسم بن محمد يقول :
كان الحجاج بن يوسف ينقض عرى الإسلام عروة عروة . » انتهى
الهوامش
1. مقدمة ابن خلدون ص 206 .
1. مقدمة ابن خلدون ص 307 .
3. يلاحظ أن الله لعن هؤلاء فأوجب بذلك على المسلمين لعنهم وقد ورد ذلك في أكثر من موضع في القرآن ، راجع سورة النساء ـ في موضعين ـ ، وسورة المائدة وهود ـ في موضعين وسورة الحجر وسورة ( ص ) ، وسورة محمد.
4. صحيح مسلم : 1 / 49 .
5. الجاحظ « التاج في أخلاق الملوك » ص 151 ـ 154 .
6. « المصدر نفسه » ص 21 ـ 30 .
7. الجاحظ « التاج في أخلاق الملوك » ص 32 .
8. مروج الذهب ومعادن الجوهر / 3 / 131 ـ 134 .
9. ومن طريف ما يروى عن يزيد بن عبد الملك أن حبابة غنته يوما :
بين التراقي واللهاة حرارة |
ما تطئن ولا تسوغ فتبرد |
فأهوى يزيد ليطير . فقالت يا أمير المؤمنين لنا بك حاجة . فقال والله لأطيرن . . . وقد قورن موقفه هذا بموقف أبيه عندما خاطب زوجته عاتكة « لما أرادت منعه من الخروج إلى قتال مصعب بن الزبير » قائلا قاتل الله كثير عزة كأنه شاهد هذا حين قال :
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه |
حصان عليها نظم در يزينها |
|
نهته فلما لم تر النهي نافعا |
بكت فبكى ـ مما شجاها ـ قطينها |
10. الأصبهاني « الأغاني » 6 / 99 ـ 106 .
11. فغضب هشام على ابنه مسلمة . فأغرى مسلمة شاعرا يمدحه فقال :
أيها السائل عن ديننا |
نحن على دين أبي شاكر |
|
الواهب البزل بارسانها |
ليس بزنديق ولا كافر |
12. تاريخ الأمم والملوك / 7 / 289 .
13. الأغاني / 6 / 105 ـ 106 .
14. العقد الفريد 4 / 181 .
15. ابن عبد ربه العقد الفريد 3 / 184 .
16. ويروى أن الوليد قال ـ في سلمى ـ قبل تزويجه بها ـ .
لعل الله يجمعني بسلمى |
اليس الله يفعل ما يشاء ! ! |
|
ويأتي بي ويطرحني عليها |
فويوقظني وقد قضى القضاء |
|
ويرسل ديمة من بعد هذا |
فتغسلنا وليس بنا عناء |
17. « أمير المؤمنين » يستفسر عن مراتب الشراب وأوصافه ، وليس له حاجة ـ باعترافه ـ أن يستفسر عن الكتاب أو السنة . يفعل ذلك على مرأى ومسمع من المسلمين .
18. العقد الفريد 3 / 161 .
19. المسعودي ، مروج الذهب 3 / 149 . ومما يحكي أن الوليد استفتح فألا في المصحف فخرج : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . فألقى المصحف ورماه بالسهام وأنشد :
تهددني بجبار عنيد |
وها أنا ذاك جبار عنيد |
|
إذا ما جئت ربك يوم حشر |
فقل يا رب مزقني الوليد |
20. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2 / 100 ـ 101 الطبعة الأولى بمصر .
21. المسعودي ، « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ، / 2 / 310 ـ 312 .
22. ابن الأثير « الكامل في التاريخ » 3 / 257 . ومن طريف ما يروى عن ابن مفرغ هذا أنه كان مع عباد بن زياد بن سمية بسجستان فانشغل عنه بحرب الترك فاستبطأه ابن مفرغ ، وأصاب الجند الذي مع عباد ضيق في علوفات دوابهم . فقال ابن مفرغ :
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً |
فنعلفها دواب المسلمينا |
23. ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » 1 / 110 ـ 113 الطبعة الأولى .
24. الإصابة في تمميز الصحابة 3 / 412 .
25. ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » 1 / 313 الطبعة الأولى .
26. ابن الاثير ، « الكامل في التاريخ » 2 / 3 . تلك جدة عبد الملك ومواقف جده وأبيه من النبي معروفة . أما جده لأمه فهو ـ أبو عائشة ـ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الذي جدع أنف حمزة في أحد ومثل به . راجع المقريزي ، النزاع والتخاصم ص 20 .
27. الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » 7 / 178 .
28. تاريخ الأمم والملوك 7 / 180 .
29. تاريخ الأمم والملوك 7 / 83 ـ 84 .
30. المصدر نفسه : 7 / 180 .
31. راجع الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » 7 / 176 ـ 179 .
32. الطبري : تاريخ الأمم والملوك 8 / 97 .
33. الطبري : تاريخ الأمم والملوك 8 / 104 .
34. صحيح مسلم 1 / 67 .
35. تاريخ الأمم والملوك 8 / 127 .
36. ورقاء بن زهير ـ من جذيمة العبسي ـ ضرب خالد بن جعفر بن كلاب ، وخالد مكب على أبيه زهير فسد ضربه بالسيف وصرعه . فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالداً فلم يصنع شيئاً : فقال ورقاء :
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد |
فأقبلت أسعى كالعجول أبادر |
|
فشلت يميني يوم أضرب خالدا |
ويحصنه مني الحديد المظاهر |
راجع الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » / 8 / 127 .
37. ابن عبد ربه « العقد الفريد » 3 / 256 ـ 257 .
38. صحيح مسلم بن الحجاج : 1 / 49 .
39. الطبري ، تاريخ الأمم والملوك 6 / 149 ـ 155 .
40. صحيح البخاري 2 / 89 .
مقتبس من كتاب : الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام / الصفحة : 130 ـ 181
التعلیقات