المعاد الروحاني عند الحكماء
المعاد الجسماني أوالروحاني
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 286 ـ 288
(286)
المعاد الروحاني عند الحكماء
قد وقفتَ على تضافر آيات الكتاب وأحاديث السنّة على عدم حصر المعاد في
الجسماني ، كما تعرفتَ على حكم العقل في ذلك المجال ، وأنّ حصره في المعاد
الجسماني يخالف رحمة اللّه الواسعة و حكمته البالغة ، و على ذلك فالشرع والعقل
متعاضدان على أنّ هناك معاداً غير المعاد الجسماني ، ولكن يجب إلفات نظر الباحث
في المقام إلى نكتة ، وهي أنّ المعاد الروحاني في الكتاب والسنة يرجع إلى اللذات
والآلام الروحية التّي تلتذ بها النفس أو تتألم من دون حاجة إلى آلة جسمانية . وقد
عرفتَ ما هو الوارد في الكتاب في هذا المجال من رضوانه سبحانه ولقائه ، والابتعاد
عن رحمته ، وإحاطة الحسرة بالإنسان في تلك النشأة ، فهذه هي حقيقة المعاد
الروحاني التّي تتلخص في غير اللذات والآلام الجسمانية ، وعلى هذا فهو يعمّ جميع
أهل الجنة والنار من غير فرق بين الكاملين و المتوسطين.
وعلى الجملة هناك لذّات روحية ، وآلام كذلك تحيط أهل الجنّة والنار من غير
فرق بين طبقاتهم . وأمّا المعاد الروحاني عند الحكماء ، فهو يختلف عمّا وقفنا عليه في
الكتاب بأمرين :
الأوّل : إنّهم يخصّون المعاد الروحاني باللذات العقلية أي درك العقل الأمور
الملائمة والمنافرة له ؛ فإنّ اللذة عندهم على وجه الإطلاق تفسّر بإدراك الملائم من
حيث هو ملائم ، كالحلو من المذوقات ، والملائم للنفس الناطقة ، إدراك
المعقولات بأن تتمكن النفس من تصوّر ما يمكن أن يدرك من الحق تعالى ، وأنّه
واجب الوجود ، بريء عن النقائص والشرور والآفات ، منبع فيضان الخير على
الوجه الأصوب ، ثمّ إدراك ما يترتب بعده من العقول والنفوس المجرّدة ، والأجرام
السماوية ، والكائنات العنصرية حتى تصير النفس بحيث ترتسم فيها صور جميع
الموجودات على الترتيب الّذي هو لها.
وعلى هذا فإدراك الحس ، الملائم للحس ، معاد جسماني . وإدراك
العقل ، الملائم له ، من الوجودات العالية ، معاد روحاني.
وهذه العلوم وإن كانت حاصلة لبعض النفوس في هذه النشأة إلا أنّها معرفة
________________________________________
(287)
ناقصة تتجلى بعد الموت في النشأة الأُخرى بصورة كاملة برفع الموانع والحجب ،
فكأنّ المعرفة العقلية بذر المشاهدة ، فتلتذ النفوس في النشأة الأخرى بإدراك
الأكمل فالأكمل.
وهذا كماترى غير ما أشار إليه القرآن من اللذات الروحية ، نعم لا مانع
من ثبوت كلا النوعين من المعاد الروحاني ، وليس الوارد في القرآن راداً لهذا
القسم.
الثانى: إنّ المعاد الروحاني الوارد في القرآن الكريم يعمّ جميع النفوس ،
كاملة كانت أو متوسطة أو ناقصة ، ولكن المعاد الروحاني الّذي عليه الحكماء يختص
بصنف خاص ، وهم الكاملون في المعرفة ؛ وذلك لأنّ المعاد الروحاني حسب
الكتاب والسنة ، يرجع إلى اللذائذ الروحية لا إلى اللّذة العقلية التّي تختص
بالكاملين في المعرفة.
يقول صدر المتألهين : « وهذا النوع من اللذة و السعادة لا تنالها كل نفس ،
وإنّما ينالها من عرف العقليات في النشأة الأولى ؛ لأنّ المعرفة بذر المشاهدة ، فمعرفة
العقليات في النشأة الأولى منشأ الحضور في العقبى » (1).
إنّ النفوس مختلفة ومنقسمة إلى كاملة ومتوسطة و ناقصة ، فلا شكّ أنّ حصر
المعاد في الجسماني يخالف رحمته الواسعة وحكمته البالغة ؛ إذ النفوس الناقصة
والمتوسطة ، وإن كانت تلتذ بنعيم الجنة ، و لكن النفوس الكاملة لا تلتفت إلى مثلها
بل تطلب غاية أعلى منها ، ولأجل ذلك يجب أن يكون هناك وراء هذه اللذات
الحسية ، لذة عقلية تتشوق إليها النفوس الكاملة ، وتصبو إليها ، وليست هي إلا
نيل مقامات القرب من الحق تعالى.
يقول الحكيم السبزواري : « لو حصروا المعاد في الجسماني لكان قصوراً
حيث عطّلوا النفوس الكاملة عن البلوغ إلى غاياتها ؛ لأنّها المستصغرة للغايات
الجزئية ، الطالبة للاتصال بالأرواح المرسلة ، بل لمحض القرب من اللّه تعالى ».
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – الأسفار : ج 9، ص 123، و 129 .
________________________________________
(288)
وقال في موضع آخر : « إنّ الخلق طبقات ، فالمجازات متفاوتة ، فكل منها
محبوب ومرغوب ، و جزاء يليق بحالها ، واللذائذ الحسية للكمّل في العلم والعمل ،
كالظلّ غير الملتفت إليه بالذات ، والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم » (1).
ثمّ إنّ للحكماء المتألهين في تبيين السعادة و الشقاء الأُخرويين العقليين مباحث
مهمة لا سيما في تبيين دور العقل النظري والعملي فيهما ، فمَن أراد الوقوف عليها ،
فليرجع إلى مظانها » (2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - لاحظ إلهيات الشفاء : و المبدأ و المعاد للشيخ الرئيس . و الأسفار الأربعة : لصدر المتألهين ، ج 9 .
وشرح المنظومة ، وأسرار الحكم : كلاهما للحكيم السبزواري ، و غيرها من كتب الفلاسفة .
(2) - شرح المنظومة : للحكيم السبزواري ، المقصد السادس ، الفريدة الثانية.
التعلیقات