عدم الاختلاف في المضمون
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 373 ـ 375
( 373 )
شواهد إعجاز القرآن
(3)
عدم الاختلاف في المضمون
قد عرفتَ في القرينة السابقة أنّ المعجزة الخالدة نزلت على النبي الأكرم ـ صلى
الله عليه وآله وسلم ـ طيلة أعوام مختلفة من حيث الشدّة والرخاء ، والرغبة والرهبة ،
هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، إنّ الإنسان جُبل على التكامل ، فهو يرى نفسه في كل
يوم أعقل من سابقه ، وأنّ ما أتى به من عمل ، أو اخترعه من صنعه ، أو دَبّره من
رأي ، أو أَبْدَعَهُ من نَظَر ، يراه ناقصاً مفتقراً إلى الإصلاح والتجديد. وهناك
كلمة قيمة للكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد الله محمّد بن حامد الأصبهاني
(ت 597)، يقول فيها : « إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه ، إلاّ
قال في غده لو غُيِّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قُدّم هذا
لكان أفضل ، ولو تُرك هذا لكان أَجمل . وهذا من أعظم العِبَر ، وهو دليل على
استيلاء النقص على جملة البشر».
وهذا في الكاتب الصادق ، وأمّا الكاتب الّذي يبني أمره على الكذب
والإفتراء في أنظاره وآرائه ، وأحكامه وإخباراته ، فلا يمكن أن يتخلص عن التناقض
والاختلاف ، ولاسيما إذا تعرّض لكثير من الأُمور المهمة في مجال العقائد
والتشريعات والنُّظم الإجتماعية والأخلاقية الّتي تتطلب لنفسها تبنّي أدقّ القواعد
وأحكم الأُسس ، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفترى أيام ، ومرّت عليه عقود ،
________________________________________
( 374 )
فإنّه سيرتبك ويقع في التناقض والتهافت من حيث لا يريد ، وقد قيل قديماً : «لا
ذاكرة لكذوب».
وإنّا نرى العاِلم النابغ في علم معين ، يؤلّف الكتاب ويستعين عليه
بالباحثين ، ثمّ يطيل التأمّل فيه وينقّحه ويطبعه ، فلا تمرّ سنوات قليلة إلاّ ويظهر
له الخطأ والاختلاف ، فلا يعيد طبعه إلاّ بعد أن يغيّر منه ويصحح ما شاء.
وإنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشؤون ، وتوسّع فيها أحسن التوسّع ،
فبحث في الإلهيات ، والنبوات ، وسياسة المُدْن ، ونظم المجتمع ، وقواعد الأخلاق ،
وقوانين السلم والحرب ، كما وصف الموجودات السماوية والأرضية ، من شمس
وقمر ، وكواكب ، ورياح ، وبحار ، ونبات ، وحيوان ، وإنسان ، ووصف أهوال القيامة
ومشاهدها . ومع ذلك لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل
والعقلاء.
والعجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة ، فيطرحها مرتين أو مرّات ،
كقصة الكليم والمسيح ، ومع ذلك لا تجد فيها اختلافاً في الجوهر.
والحاصل : أنّ الكتاب الّذي يستعرض جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانية ،
كمعرفة المبدأ والمعاد ، والفضائل الأخلاقية ، والقوانين الإجتماعية والفردية ،
والقصص والعبر ، والمواعظ والأمثال ، وينزل في مدّة تعدل ثلاثاً وعشرين سنة ،
على اختلاف الأحوال والظروف ، ومع ذلك لا تجد في معارفه العالية ، وحكمه
السامية ، وقوانينه الإجتماعية والفردية ، تناقضاً ولا اختلافاً ، بل ينعطف آخره
على أوّله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه.
إنّ مثل هذا الكتاب ، يقضي الشعور الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن
يحكم فيه مرور الأيام ، ويتأثّر بالظروف والأحوال ، بل هو الله الواحد القهار.
ولعلّ قوله سبحانه: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(1)، ناظر إلى كلتا القرينتين ، ويبين أنّ مقتضى الطَبع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء: الآية 82.
________________________________________
( 375 )
الإنساني الناقص إذا خلا من التسديد ، العجزُ عن الإتيان بكتاب على سبك
واحد ، ومضمون يؤكّد بعضه بعضاً ، فكيف إذا كان يعتمد في ادّعائه على
الكذب والإفتراء ، فإنّ هذا سيكون وجهاً آخر لوقوعه في التهافت والتناقض.
والعرب أحسُّوا بالإستقامه في أُسلوب القرآن ، ومرور الزمن قد أثبت عدم
التناقض والتهافت في ما يدعو إليه.
وأمّا ( كَثِيرًا ) في قوله سبحانه: (اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، فهو وصف توضيحي
لا احترازي ، والمعنى : لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً ، وكان ذلك
الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الّذي يوجد في كل ما هو من عند غير
الله . ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الاختلاف الكثير دون
اليسير(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لاحظ الميزان في تفسير القرآن : ج 5، ص 7.
التعلیقات