تأمّلات واهية في أخبار المسح
المصدر : الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ، ص 101 ـ 107
________________________________________ الصفحة 101 ________________________________________
الفصل السادس :
تأمّلات واهية في أخبار المسح
إنّ لأهل النظر والبحث من أهل السنّة القائلين بالغسل في الوضوء ـ أمام تلك الروايات المخالفة لمذهبهم ـ تأمّلات مختلفة نذكر المهمّ منها :
التأمّل الأوّل : أَنّ روايات المسح ضعيفة ، ونقل عن البخاري والشافعي أنّهما ضعّفاها باعتبار أنّ مخالفها أكثر وأثبت منها (1).
يلاحظ عليه : أنّه ، كيف نضعِّف تلك الروايات المستفيضة ؟! وإنّما الذي يخضع للنقاش والجرح هو الخبر الواحد ، لا المستفيض ولا المتواتر.
مضافاً إلى أنّ في الروايات من يرويها البخاري ، فما ظنّك برواية يرويها الإمام البخاري ؟! ( لاحظ الرواية رقم 8 ).
التأمّل الثاني : إِنّ هذا كان في أوّل الإسلام ، ثم نسخ بأحاديث الغسل.
يلاحظ عليه : أنّ كثيراً من هذه الروايات رويت للاحتجاج على القائلين بالغسل ، فهل يمكن غفلة الراوي عن هذا الأمر ؟!
وبتعبير أوضح : أنّ الصحابة والتابعين يروونها لغاية إثبات أنّ الفريضة في
________________________________________
1. ابن القيم : في هامش مختصر سنن أبي داود : 1/96.
________________________________________ الصفحة 102 ________________________________________
الوضوء هي المسح لا الغسل ، فلو كانت الروايات ناظرة إلى العصر الأوّل من البعثة ، فهل يمكن أن يغفل عنها الصحابة الأجلاّء والتابعون لهم بإحسان ؟ وقد شارك في الروايات ثلّة من الصحابة والتابعين.
التأمّل الثالث : إنّ أحاديث المسح ، انّما هي وضوء من لم يحدث ، وقد اعتمد عليه ابن كثير في تفسيره. (1) وسار على ضوئه المتأخرون ، كالآلوسي في روح المعاني. (2) وأخيراً الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (3).
يلاحظ عليه : النقاط التالية :
1 ـ أنّ لفيفاً من الروايات الدالّة على المسح وردت في وضوء المحدث ، لا في الوضوء بعد الوضوء ؛ فكيف يمكن حملها على وضوء من لم يحدث ؟ كرواية النزال ابن سبرة ، حيث يحكي وضوء عليّ بعد البول.
2 ـ أنّ أكثر هذه الروايات الدالّـة على المسـح ، تحكـي وضوء رسـول اللّه ، والمتبادر منه هو وضووَه بعد الحدث ، لا قبله. فحمل هذه الروايات الكثيرة ، على الوضوء بعد الوضوء ، تفسير بالرأي ، حفظاً للمذهب وانتصاراً له.
3 ـ لو سلّمنا أنّ ما ورد من الروايات في المسح على الرجلين ، بأنّه وضـوء من لم يحدث ، لكنّها لا تشير إلى أنّ المسح على الرجلين فقط وضوء من لم يحدث ، وإِنّما تشير إلى أنّ الاكتفاء بكفّ من الماء في غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، وضوء من لم يحدث.
________________________________________
1. ابن كثير : تفسير القرآن العظيم : 2/27.
2. الآلوسي : روح المعاني : 6/77.
3. مجلة الفيصل ، العدد : 235 ص 48.
________________________________________ الصفحة 103 ________________________________________
فكم فرق بين أن يرجع اسم الإشارة إلى أنّ المسح على الرجلين هو وضوء من لم يحدث ، وبين أن ترجع إلى مجموع ما ورد في الرواية من الغسل والمسح بكفّ من الماء ؟! وإِن كنت في شكّ من ذلك فنتلو عليك نصوص تلك الروايات :
1 ـ ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال : أخبرنا أبو علي الروزبادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محوية العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن ميسرة ، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنّه صلّـى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتى بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم ، ثم قال : إنّ ناساً يكرهون الشرب قائماً ، وإنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) صنع كما صنعت ، وقال : وهذا وضوء من لم يحدث رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه (1).
2 ـ عن إبراهيم قال : كان علي إذا حضرت الصلاة دعا بماء ، فأخذ كفّاً من ماء ، فتمضمض منه واستنشق منه ، ومسح بفضلة وجهه وذراعيه رأسه ورجليه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث (2).
ترى أنّ الإمام اكتفى في الوضوء بكف ماء وحفنة منه مع أنّه غير كاف في الوضوء الواجب باتفاق الأُمّة ، ولأجل ذلك نبّه المخاطب بأنّه وضوء من لم يحدث ، وإلا فعلى المحدّث أن يسبغ ماء الوضوء بأكف وحفنات ، فمحور المذاكرة بين الإمام ومخاطبه هو الاكتفاء بماء قليل لا المسح على الرجلين.
3 ـ أخرج أحمد بسنده عن عبد اللّه ، قال : حدثني أبو خيثمة ، حدثنا إسحاق
________________________________________
1. كنز العمال : ج 9 الحديث 27030 ، مسند أحمد بن حنبل : الحديث 799.
2. كنز العمال : 9/456 ، الحديث 26949.
________________________________________ الصفحة 104 ________________________________________
ابن إسماعيل ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الملك ، عن النزال بن سبرة قال : صلّينا مع علي ( رض ) الظهر ، فانطلق إلى مجلس له يجلسه في الرحبة ، فقعد وقعدنا حوله ، ثم حضرت العصر ، فأتى بإناء فأخذ منه كفاً ، فتمضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه ، ثم قال : إني رأيت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعل كما فعلت (1).
وعلى ذلك تحمل الرواية التالية :
4 ـ عن عبد خير قال : رأيت علياً ( رض ) دعا بماء ليتوضّأ ، فتمسح بها تمسحاً ومسح على ظهر قدميه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث ، ثم قال : لولا إني رأيت رسول اللّه مسح على ظهر قدميه رأيت أنّ بطونهما أحقّ ، ثم شرب فضلة وضوئه وهو قائم (2).
فإنّ الظاهر أَنّ الإمام قام بمجموع العمل بكف ماء واحد ، ويحتمل اتحاد الحديث مع الحديث الأوّل ، فاسم الإشارة في قوله : « هذا » ليس إشارة إلى مسح القدمين ، بل إلى مجموع ما أتى به من الأعمال من مسح الوجه والأيدي وغيرهما بالماء ، فإنّ الواجب فيهما الغسل ، والاكتفاء بالمسح لخلوه من الحدث.
عثرة لا تقال :
قد عرفت أنّ مجموعة كبيرة من الروايات الدالّة على المسح رواها ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ، الغني عن الإطراء والبيان ، ولما كان ذلك الأمر
________________________________________
1. مسند أحمد بن حنبل : 1/256 ، الحديث 1370.
2. مسند أحمد بن حنبل : 1/187 ، الحديث 946.
________________________________________ الصفحة 105 ________________________________________
ثقيلاً على من يرى الغسل في الوضوء عاد يتمحل لتكذيب تلك الروايات بأنّه لم ينقلها ابن جرير الطبري السنّي وانّما رواها ابن جرير الشيعي ، وهي من غرائب الأُمور كما سيوافيك ، وممّن التجأ إلى هذا العذر ابن القيم قائلاً :
إنّ حكاية المسح عن ابن جرير غلط بيّـن ، فهذه كتبه وتفسيره كلّها تكذّب هذا النقل عنه ، وإِنّما دخلت الشبهة ، لأنّ ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه ، وقد رأيت له مؤلفات في أُصول مذهب الشيعة وفروعهم (1).
وقد تبعه في هذه العثرة الآلوسي في تفسيره ، قال : وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة ، ورواها بعض أهل السنّة ممن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقّق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب « الإيضاح للمسترشد في الإمامة » ، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنّة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ، ولا الجمع ، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه (2).
وممن تنبّه إلى عثرة ابن قيم والآلوسي ، صاحبُ المنار حيث أنّه بعد ما نقل عبارة الآلوسي أعقبـه بقوله : « إنّ في كلامـه ـ عفـا اللّه عنــه ـ تحاملاً على الشيعـة وتكذيباً لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة. والظاهر أنّه لم يطّلع على تفسير ابن جرير الطبري » (3).
________________________________________
1. ابن القيم : في هامش سنن أبي داود : 1/97 ـ 98.
2. الآلوسي : روح المعاني : 6/77.
3. المنار : 6/233.
________________________________________ الصفحة 106 ________________________________________
أقول : قد نقل أيضاً غير واحد أنّ ابن جرير قال بالتخيير بين المسح والغسل ، ولكن اللاّئح من عبارته هو الجمع بينهما ، فمن أمعن النظر في تفسير ابن جرير يقف على أُمور ثلاثة :
الأوّل : أنّه رجّح قراءة الجرّ على النصب وقال : وأعجب القراءتين إليَّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضاً ، لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللّذين وصفت ، ولأنّه بعد قوله : ( وامسحوا برؤوسكم ) فالعطف على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : ( وامسحوا برؤوسكم ) (1).
الثاني : أنّه يروي روايات المسح بصدر رحب ولا يتضايق كما نقل روايات الغسل.
الثالث : أنّه قائل بالجمع بين المسح والغسل ، ومراده منه ليس هو التوضؤ مرتين تارة بالغسل وأُخرى بالمسح بالنداوة المتبقّية على اليد ، بل بغسلهما باليد ومسح الرجل بها ، وإليك نص عبارته قال :
« والصواب من القول عندنا في ذلك أَنّ اللّه أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمّم ، فإذا فعل ذلك بهما المتوضّـي كان مستحقّاً اسم ماسح غاسل ، لأنّ غسلهما ، امرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليه ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح » (2).
والعجب عن عدّة من الباحثين حيث نسبوا إلى الطبري القول بالتخيير ،
________________________________________
1. الطبري : التفسير : 6/83.
2. الطبري : التفسير : 6/83.
________________________________________ الصفحة 107 ________________________________________
منهم : نظام الدين النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن (1) والقرطبي (2) والشوكاني (3). والشعراني (4).
والعجب أيضاً انّ الآلوسي نسب إلى ابن جرير القول بالغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير (5).
( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمينَ )
( النحل ـ 89 )
________________________________________
1. النيسابوري : تفسير غرائب القرآن بهامش تفسير الطبري : 6/74 ونسبه إلى الحسن البصري أيضاً.
2. القرطبي : الجامع لأحكام القرآن : 6/92.
3. الشوكاني : نيل الأوطار : 1/168.
4. ميزان الشعراني : 1/19 ، ط عام 1318 ه.
5. الآلوسي : روح المعاني : 6/78.
التعلیقات