مناظرة الكراجكي مع بعض أهل الكلام في عذاب الكافر يوم القيامة إلى الاَبد
في العقائد
منذ 14 سنةقال الشيخ الكراجكي ـ أعلى الله مقامه ـ : حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعمائة مجلساً، فيه جماعة ممّن يحب استماع الكلام ، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم، فقال: كيف يصح لكم القول بالعدل ، والاعتقاد بأن الله تعالى لا يجوز عليه الظلم ؟ مع قولكم أنّه سبحانه يعذّب الكافر في يوم القيامة بنار الاَبد، عذاباً متّصلاً غير منقطع، وما وجه الحكمة والعدل في ذلك ؟
وقد علمنا أنَّ هذا الكافر وقع منه كفره في مدّة متناهية، وأوقات محصورة، وهي مائة سنة في المثل ، وأقل وأكثر، فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره ؟
وأَلاَ زعمتم أن عذابه متناهٍ كعمره، ليستمر القول بالعدل، وتزول مناقضتكم لما تنفون عن الله تعالى من الظلم.
الجواب :
فقلت له: سألت فافهم الجواب، اعلم أنّ الحكمة لما اقتضت الخلق والتكليف، وجب أن يرغب العبد فيما أمره به من الاِيمان بغاية الترغيب، ويزجره عمّا نهى عنه في الكفر بغاية التخويف والترهيب، ليكون ذلك أدعى له إلى فعل المأمور به، وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه.
وليس غاية الترغيب إلا الوعد بالنعيم الدائم المقيم، ولا يكون غاية التخويف والترهيب، إلاّ التوعيد بالعذاب الخالد الاَليم، وخلف الخبر كذب، والكذب لا يجوز على الحكيم، فبان بهذا الوجه ، أنّ تخليد الكافر في العذاب الدائم، ليس بخارج عن الحكمة، والقول به مناقض للاَدلّة.
فقال صاحب المجلس: قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنّا نظن بقيةً في السؤال، تطّلع نفوسنا إلى أن نسمع عنها الجواب، وهي: أنَّ الحال أفضت إلى ما ينفر منه العقل، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة، يكون مستحقاً على ذنوب مدّة متناهية محصورة.
فقلت له: أجل، إنَّ الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره، يعذب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، وهذا هو السؤال بعينه، وفي مراعاة ما أجبت به عنه بيان أنَّ العقل لا يشهد به ، ولا ينفر منه، على أنّني آتٍ بزيادة في الجواب مقنعة في هذا الباب.
فأقول: إنَّ المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نِعَم المعصي بها، ولذلك عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه، وجلت جناية العبد على سيّده، لجليل إنعام السيّد عليه، فلمّا كانت نعم الله تعالى أعظم قدراً، وأجل أثراً من أن توفى بشكر، أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الاِنعام، الموافق لمصالح الاَنفس والاَجسام، كان المستحق على الكفر به، وجحده إحسانه ونعمه، هو غاية الآلام، وغايتها هو الخلود في النار.
فقال رجل ينتمي إلى الفقه كان حاضراً: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين، هما أجلى وأبين ممّا ذكرت.
قال له السائل: وما هما ؟
قال: أمّا أحدهما فهو أنّ الله سبحانه، كما ينعم في القيامة على من وقعت منه الطاعة في مدةٍ متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياساً على ذلك أن يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناهٍ، بعذاب دائم غير منقضٍ ولا متناهٍ.
قال: والجواب الآخر، أنّه خلّد الكفار في النار لعلمه أنّهم لو بقوا أبداً لكانوا كفاراً. (1)
فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحساناً مفرطاً ، إما لمغايظتي بذلك، أو لمطابقتهما ركاكة فهمه.
فقال صاحب المجلس: ما تقول في هذين الجوابين ؟
فقلت: اعفني من الكلام، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية.
فأقسم عليَّ وناشدني.
فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه وقياسه في الشرع، أما اُصول العبادات والكلام في العقليّات فلم تكن من صناعته، ولو كانت له في ذلك بضاعة لاشتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر، فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب، فقد سبّه، من حيث أن فساد هذين الجوابين لا يكاد يخفى عمّن له أدنى تحصيل.
أمّا الاَوّل منهما وهو : مماثلته بيت إدامة الثواب والعقاب، فإنّه خطأ في العقل والقياس، وذلك أن مبتدىء النعم المتّصلة في تقدير زمانٍ أكثر من زمان الطاعة، إن لم يكن ما يفعله مستحقاً، كان تفضلاً، ولا يقال للمتفضّل المحسن: لِمَ تفضّلت وأحسنت، ولا للجواد المنعم، لِمَ جُدت وأنعمت.
وليس كذلك المعذِبُ على المعصية في تقدير زمانٍ زائدٍ على زمانها، لاَنَّ ذلك إن لم يكن مستحقاً كان ظلماً، تعالى الله عن الظلم، فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين لازمة، والمسألة مع هذا الجواب عمّا يوجب التخليد قائمة. والعقلاء مجمعون على أنّ من أعطى زيداً على فعله أكثر من مقدار أجره، فليس له ـ قياساً على ذلك ـ أن يعاقب عمراً على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.
وأمّا جوابه الثاني فهو وإن كان ذكره بعض الناس، لاحقٌ بالاَول في السقوط، لاَنّه لو كان تعذيب الله عزّ وجلّ للكافر بعذاب الاَبد، إنّما هو لاَنّه علم منه أنه لو بقي أبداً كافراً، لكان إنّما عذَّبه على تقدير كفر لم يفعله، وهذا هو الظلم في الحقيقة، الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، لاَنّ العبد لم يفعل الكفر إلاّ مدة محصورة (2).
وقد اقتضى هذا الجواب أن تعذيبه الزائد على مدّة كفره هو عذاب على ما لم يفعله، ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدىء خلقاً، ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره، ويكلفه، إذا علم منه أنه إذا أبقاه، وأقدره، وكلفه، كان كافراً جاحداً لاَنعمه، وقد أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه، وهو كالاَول بعينه في العذاب ، للعلم بالكفر قبل وجوده، لا على ما فعله وأحدثه ، وقبحها يشهد العقل به ويدل عليه، تعالى الله عن إضافة القبيح إليه.
فَعُلِمَ أنّه لا يعتبر في الجواب عن هذا السؤال بما أورده هذا الحاكي عن الشافعي، وأن المصير إلى ما قدمناه من الجواب عنه أولى ، والحمد لله.
فلمّا سمع المتفقه طعني فيما أورده، وقولي إن الشافعي ليس من أهل العلم بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة، ظهرت إمارات الغضب في وجهه، وتعذَّر عليه نصرة ما جاء به، كما تعذَّر عليه وعلى غيره ممن حضر القدح فيما كنت أجبت به، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديثٍ ابتداه لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه.
فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل، كانوا يصفونه بالمعرفة، وينسبونه إلى الاصطلاح بالفلسفة، فلما استقرّ به المجلس، حكوا له السؤال، وبعض ما جرى فيه من الكلام.
فقال الرجل : هذا سؤال يلزم الكلام فيه، ويجب على من أقر بالشريعة، طلب جواب صحيح عنه، يعتمد عليه.
ثمّ سألوني الرجوع إلى الكلام والاِعادة لما سلف لي من الجواب، ليسمع ذلك الرجل الحاضر.
فقلت له: ألا سألتم الفقيه إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه، الحاكي عن الشافعي ؟
قالوا: قد تبين لنا فساد ما أجاب به، ولا حاجة بنا إلى إشغال الزمان بإعادته.
قلت: فأنا مجيبكم إلى الكلام، وسالك غير الطريقة الاَُولى في الجواب، لعل ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس، وأقرب إلى سكون النفس، إن وجدت منكم مع الاستماع حسن إنصاف.
قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.
فقلت: كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب الله عزّ وجلّ لمن مات وهو كافر بالعذاب الدائم، الذي تقدير زمانه لا ينحصر، وقد وقع من العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي.
والجواب عن ذلك:
أنّ العذاب المجازى به على المعصية، كائنةً ما كانت، لا كلام بيننا في استحقاقه، وإنّما الكلام في اتصاله وانقطاعه، فلا يخلو المعتبر في ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه، أو المعصية في نفسها وعِظمِها من صغرها.
فلو كانت مدة هي المعتبرة، وكانت يجب تناهي العذاب لاَجل تناهيها في نفسها، لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها بحسبها وقدرها، حتى لا يتجاوزها ولا يزيد عليها.
وهذا حكم يقضي الشاهد بخلافه، ويجمع العقلاء على فساده، فكم قد رأينا فيما بيننا معصية قد وقعت في مدة قصيرة، كان المستحق من العقاب عليها يحتاج إلى أضعاف تلك المدة، ورأينا معصيتين، تماثل في القدر زمانهما، واختلف زمان العقاب المستحق عليهما، كعبد شتم سيده، فاستحق من الاَدب على ذلك أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبداً مثله، وإن كان زمان الشتمين متماثلاً.
فالمستحق عليهما من الاَدب والعقاب يقع في زمان غير متماثل، ولو لم يكن في هذا حجّة إلاّ ما نشاهده من هجران الوالد أياماً كثيرة لولده على فعل، وقع في ساعة واحدة منه، مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله، بل لو لم يكن فيه إلا جواز حبس السيد فيما بيننا لعبده زماناً طويلاً على خطيئته.
وكذلك الاِمام العادل لمن يرى من رعيته، لكان فيه كفاية في وضح الدلالة، وليس يدفع الشاهد إلاّ مكابر معاند، فَعُلِمَ ممّا ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر زمانها، ولا يجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها، ووجب أن يكون المرجع إليها نفسها، فبعظمها يعظم المستحق عليها، سواء أطال الزمان أو قصر، اتصل أم انقطع، وجد فكان محققاً، أو عُدِم فكان مقدراً، والحمد لله.
فلمّا سمع القوم مني هذا الكلام، وتأمّلوا ما تضمّنه من الاِفصاح والبيان، وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان، لم يسعهم غير الاِقرار للحق والاِذعان والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان، والحمد لله الموفق للصواب، وصلواته على سيّدنا محمد خاتم النبيّين وآله الطاهرين.
زيادة في المسألة:
وقد احتج من نصر الجواب الثاني المنسوب إلى الشافعي بقول الله تعالى: ( وَلَو رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ ) (3) ، وجعل ذلك دلالة على أنه عذّبهم بعذاب الاَبد، لعلمه بذلك من حالهم ، وليس في هذه الآية دلالة على ما ظن، وإنّما هي مبنية على باطن أمرهم، ومكذبة لهم فيما يكون في القيامة من قولهم، وما قبل الآية تتضمن وصف ذلك من حالهم، وهو قوله تعالى سبحانه:
( إِذ وُقِفُوا عَلى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ ربِّنَا، وَنَكُونَ مِنَ المؤُمِنينَ ) (4) ، فقال الله سبحانه : ( بَل بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبلُ وَلَو رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ وإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ) (5).
هذا: لمّا تمنوا الرجوع إلى دار التكليف، وليس فيه إخبار بأنه عذبهم لما علمه منهم أن لو أعادهم، حسبنا الله ونعم الوكيل (6).
____________
(1) سوف يأتي إن مفاد بعض الروايات إنما خُلد أهل النار فيها لنياتهم العصيان (الكفر به تعالى) وهذا غير القول أنه يعذبهم لعلمه بعصيانهم لو بقوا أبداً ، فهل يمكن القول : بأنه لو مات إنسانٌ مؤمن صالح ، وكان في علم الله تعالى أن هذا الرجل لو بقي في الحياة حيناً لكان عاصياً فاسقاً، كان يعذبه الله تعالى على ما علم منه ذلك ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، إن الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة ، فكيف يعذبه على أمر لم يفعله !
(2) وقد جاء مفاد بعض الروايات ، إنما خلد أهل النار في النار لنيتهم العصيان الاَبدي لو خلدوا في الدنيا ، لاحظ ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله في العلل عن أبيه عن سعد ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داوود الشاذكوني عن أحمد بن يوسف ، عن أبي هاشم قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الخلود في الجنّة والنار ، فقال : إنما خلّد أهل النار في النار لاَنّ نياتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لاَن نياتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يطيعوا الله أبداً ما بقوا ، فالنيّات تخلّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلى قوله تعالى : ( قل كلّ يعمل على شاكلته ) قال : على نيّته. علل الشرائع : ج 2 ص 523 ب 299 ح 1 وعنه بحار الاَنوار : ج 8 ص 347 ح 5.
وعلى ضوء هذه الرواية والله العالم أنّ أهل النار إنما خلدوا لنيتهم الكفر الاَبدي ، فعذابه الاَبدي ليس زائداً على مدة كفره بل مؤاخذ عليه ، إذ عقد قلبه على الكفر بالله تعالى لو بقي مخلداً في الحياة ، فيكون عذابه الاَبدي في الاَخرة على أمر فعله في الدنيا.
(3) سورة الاَنعام : الآية 28.
(4) سورة الاَنعام : الآية 27.
(5) سورة الاَنعام : الآية 28.
(6) كنز الفوائد للكراجكي : ج1 ، ص 308 ـ 314.
التعلیقات