مناظرة الشيخ المفيد مع علي بن عيسى الرماني في أمر فدك
في العقائد
منذ 14 سنةقال الشريف المرتضى ـ أعلى الله مقامه ـ : ومن حكايات الشيخ ـ المفيد ـ وكلامه، قال الشيخ أيده الله: حضرت مجلساً لبعض الرؤساء ، وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء ، فالتفت أبو الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلاً من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شيء يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث:
سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الاَنبياء لا نورث (3) فسلمت عليها السلام لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم الباطل ، لا سيّما وأنتم تقولون إنّ علياً عليه السلام كان حاضراً في المجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الاَُمّة ولا علمنا أن واحداً ردَّ على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنّه كان محقّاً فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.
فاعترضه الرجل الاِمامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاماً في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.
فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شيء تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شيء عليه الاِجماع وبه حاصل علم الاضطرار، فلو كان ما تدّعونه من خلافه حقّاً لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الاِجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الاَمر كذلك دلّ على بطلانه، فكلَّمه الاِمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعاً.
فأشار صاحب المجلس إليَّ لاَخذ الكلام فأحسَّ بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في مجلس واحد، فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.
ثمّ قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه ؟ فظن أنني أريد شيئاً غير المسألة الماضية وأنني لا أكسر شرطه.
فقال: لست أدري أي شيء تريد بهذا الكلام ، فأَبِن لي عن غرضك لاَتكلم عليه.
فقلت: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية! وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن يلزمني في حكم النظر والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره، أتقول إن الشيء إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلاً على بطلانه، أو قد يكون حقاً وإن اختلفت العقلاء فيه.
فقال: ليس يكون الشي باطلاً من حيث اختلف الناس فيه ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل.
فقلت له: فما أنكرت إلا أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على أبي بكر حكمه وردت عليه في خبره واحتجّت عليه في بطلان قضائه واستشهدت بالقرآن (4) على ما جاء الاَثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقّاً ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعاه بل قد يكون صدقاً وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.
فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدلّ على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه لا يورث (5) ، وصوابه فيما حكم به ما جاء به الخبر عن علي عليه السلام أنّه قال: ما حدّثني أحد بحديث إلا استحلفته ، ولقد حدّثني أبو بكر وصدق أبو بكر، ولو لم يكن صادقاً أميناً عادلاً لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.
فقلت له: أوّل ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدأ ورغبت عنه بعد أن كنت راغباً فيه وأحلتنا على شيء لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على استينافه من الكلام، وأنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الاَخبار أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته وإنّما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بأبي بكر خاصة فإن لزم الشيعة أمراً بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، هذا على شرط الاِنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن يصير إلى اعتقاد ضلالة كل ما روت الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والاَئمّة من ذريته عليهما السلام ما يوجب ضلالتهم فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك ، فكيف استجزت إلزامهم الاِقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الاِنصاف، على ان أقرب الاَمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الاِجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الاِجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله.
مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توفِ الدليل حقّه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذباً في جميع الاَخبار ، ولا من شرط من صدق في شيءٍ أن يصدق في كل الاَخبار، وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه ولا نكذبهم فيما صدقوا فيه لاَجل كذبهم في الاَُمور الاَُخر، ولا نعلم أنّ أحداً من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلاً على صدقه في كل أخباره، وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئاً فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله في الميراث ، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله فكان حفظه له عينه يغنيه عن استحلافه ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره، على أنّ الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله شيء يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته عن النبي صلى الله عليه وآله ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه، وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول الله يقول: ما من عبد يذنب ذنباً فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثمّ يعترف به ويستغفر الله عزّ وجلّ منه إلا غفر الله له (6) وهذا شيء نطق به القرآن، قال الله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَيَعفُو عن السَّيِئاتِ وَيَعلمُ ما تَفعَلُونَ ) (7) وقال: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهّرِينَ ) (8) والعقل يدل على قبول التوبة، وإذا كان الاَمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لاِبي بكر خاصة لاَنّه لم يحدثه بحديث غير هذا فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت ولا لتصويبه في الاَحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.
فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد وطوَّلت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أنّي وجدت أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع أبا بكر وأخذ عطاءه وصلَّى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان ، فلو كان أبو بكر ظالماً لفاطمة عليها السلام لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين عليه السلام إماماً ينتهي في طاعته إلى ما وصفت .
فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلاف فارط وتذكر ما كان منسياً وإن عملنا على هذا انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحير وخرج الاَمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعه عندما يظهر من وهن معتمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيراً هو توطئة أو عماد، فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلاً كلّمناك عليه، مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لان كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه ، ووضح فساد مبناه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدّم بأنه توطئة لا معنى له، ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع الرجل دعوى عرية عن برهان لا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيباً فيما حكم به على فاطمة عليها السلام فدلّ على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع على ما ادعيت ثمّ ابن عليه.
فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنّها تضر ولا تنفع، وقولك إنّه عليه السلام صلَّى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلّى متأخراً عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنّه صلّى مقتدياً به ومؤتماً فما الدليل على ذلك ؟ فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالاَُولى تضر من اعتمد عليها أيضاً ولا تنفع.
وأمّا قولك إنه أخذ العطاء فالاَمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه ؟ أوليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقّه ولم يحل له الامتناع من أخذه لاَن في ذلك تضييعاً لماله وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الاَموال بالباطل، وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت بعينه حجة في إمامة معاوية.
فقال : وجدت الحسن والحسين عليهما السلام وعبدالله بن عبّاس وعبدالله بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والاَنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السلام وأخذوا منه العطاء وصلّوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان ، فكلما جعلته إسقاطاً لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل.
فلم يأت بشيء تجب حكايته. (9)
____________
(1) هو: محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الملقب بالشيخ المفيد من أعاظم علماء الاِمامية، انتهت إليه رئاسة متكلّمي الشيعة في عصره، وكان فقيهاً متقدّماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، له قريب من مائتي مصنّف، ولد سنة 338 هـ وتوفّي سنة 413 هـ وكان يوم وفاته يوماً لم يُر أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق ، وقيل شيعه ثمانون ألفاً من الناس وصلّى عليه الشريف المرتضى ودفن بجوار الامامين الكاظم والجواد عليهم السلام . راجع ترجمته في: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات للشيخ المفيد في المقدّمة ص16 ، ميزان الاعتدال ج4 ص 30 ، الفهرست للشيخ الطوسي ص 157 ترجمة رقم : 696 .
(2) الرماني : أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبدالله الرماني نحوي لغوي وفقيه مفسّر ومتكلّم معتزلي ، ولد في بغداد 296 هـ ، وأصله من سر من رأى ، أخذ عن ابن السراج وابن دريد ، له الجامع في علم القرآن ، وكتاب الاَلفاظ المتقاربة والمترادفة المعنى، وشرح كتاب سيبويه ، قيل في إسلوب الرماني انّه كان يمزج النحو بالمنطق ، توفي ببغداد سنة 384 هـ . راجع ترجمته في وفيات الاَعيان لابن خلكان : ج 3 ص 299 ترجمة رقم: 435 ، تاريخ بغداد للخطيب : ج 12 ص 16 ترجمة رقم : 6377 ، الاَعلام للزركلي : ج5 ص 134 .
(3) تقدمت تخريجاته .
(4) وقد احتجّت عليها السلام بالقرآن في خطبتها التي خطبتها بمحضر من الخليفة الاَوّل وحشد من المهاجرين والاَنصار لما منعوها فدكاً ومما احتجت به عليها السلام قالت: أيها المسلمون أاُغلب على إرثي ؟ يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول: ( وورث سليمان داود ) ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: ( فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال: ( واُولوا الاَرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) وقال: ( إن ترك خيراً الوصية للوالدين والاَقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين ) وزعمتم : أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون: إنّا أهل ملَّتين لا يتوارثان ؟ أولستُ أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ..الخ . راجع هذه الخطبة الشريفة في: الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص97ـ 107، بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّي سنة 380 هـ : ص 12 ـ 19 ، أعلام النساء لعمر كحالة: ج4 ص 116 ـ 119، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص 211 ـ 213 و ص 249 ـ 251 .
(5) تقدّمت تخريجاته .
(6) مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص 10 ، كنز العمّال: ج4 ص 206 ح 10168.
(7) سورة الشورى: الآية 25 .
(8) سورة البقرة : الآية 222 .
(9) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص 269 ـ 274 .
التعلیقات