مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من أصحاب الحديث في آية التطهير ونزولها في أهل البيت عليهم السلام
في العقائد
منذ 14 سنةقال الشيخ الصدوق رحمه الله : ومن كلام الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي : ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال ، وذلك أنّهم زعموا أن قول الله سبحانه : ( إنّما يُريد الله ُليذهِب عَنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً ) (1) نزلت في علي وفاطمةوالحسن والحسين عليهم السلام مع ما في ظاهر الآية من أنها نزلت في أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وذلك أنك إذا تأمّلت الآية من أوّلها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الاَزواج خاصة ، ولم نجد لمن ادعوها له ذكراً.
فقال الشيخ ـ أيده الله ـ له : أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكاراً للحقِّ وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه الاِجماع والاتفاق ، وذلك أنه لا خلاف بين الاُمّة أن الآية من القرآن قد يأتي أوّلها في شيء وآخرها في غيره ، ووسطها في معنى وأولها في سواه ، وليس طريق الاتفاق في معنى إحاطة وصف الكلام بالآي وقد نقل المخالف (2) والموافق أنّ هذه الآية نزلت في بيت أُمّ سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد جللهم بعباءة خيبرية وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأنزل الله عزّ وجلّ : ( إنّما يُريد اللهُ ليذهِب عَنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً ) (3) فتلاها رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : يا رسول الله ، ألست من أهل بيتك ؟ فقال لها : إنّك إلى خير ، ولم يقل إنك من أهل بيتي.
حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية فقال : سلوا عنها عائشة، فقالت عائشة : إنها نزلت في بيت أختي أُمّ سلمة فاسألوها عنها فإنها أعلم بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة ولا أصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الاَثر أولى من حمله على الظن والترجيم، مع أن الله سبحانه قد دلّ على صحة ذلك بمتضمن الآية حيث يقول جلّ وعلا : ( إنّما يُريد اللهُ ليذهِب عَنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً ) وإذهاب الرجس لا يكون إلاّ بالعصمة من الذنوب لاَن الذنوب من أرجس الرجس ، والخبر عن الاِرادة هنا إنّما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الاِرادة التي يكون بها لفظ الاَمر لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالاِرادة، وأفرق بين الخبر عن الاِرادة هاهنا والخبر عن الاِرادة في قوله : ( يُريد اللهُ ليُبَيِّنَ لَكُم ) (4) وقوله : ( يُريد اللهُ بكم اليُسر وَلا يُريد بِكُم العُسر ) (5) إذ لو جرت مجرى واحداً لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى ، إذ الاِرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها فلما خصّ الله أهل البيت عليهم السلام بإرادة إذهاب الرجس عنهم دلّ على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه .
وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الاَزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن، مع أن من عرف شيئاً من اللسان وأصله لا يرتكب هذا القول ولا توهم صحته وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في حقيقة ولا مجاز، ولما وجدنا الله سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء فأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلاتخضعن بالقول ) إلى قوله : ( وَأطعنَ اللهَ وَرَسولَهُ ) (6) َ ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال : ( إنّما يُريد اللهُ ليذهِب عَنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً ) فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الاَول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ثمّ رجع بعد ذلك إلى الاَزواج، فقال : ( وَاذكُرنَ مَا يُتلى في بيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ وَالحِكمَة إنَّ اللهَ كانَ لطيفاً خَبيرا ) (7) فدل ذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة، وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الاَزواج مذكوراً رجل غير النساء وذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذا كان في الجمع ذكر ، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الاَزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه فمن جاء فيه الاَثر على ما بيناه (8) .
____________
(1) سورة الاَحزاب : الآية 33 .
(2) وقد تقدّمت تخريجات نزول الآية فيهم عليهم السلام من كتب الجمهور.
(3) سورة الاَحزاب : الآية 33 .
(4) سورة النساء : الآية 26 .
(5) سورة البقرة : الآية 185 .
(6) سورة الاَحزاب : الآية 33 .
(7) سورة الاَحزاب : الآية 34 .
(8) الفصول المختارة للمفيد : ص29 ـ 31 .
التعلیقات