مناظرة أحد العلماء مع بعض الجامعيين حول صداق الزوجة
في الاحكام
منذ 14 سنةالجامعي : سمعنا كراراً ، أن الاِسلام يؤكد على عدم جعل صداق المرأة باهظاً ، حتى قال الرسول صلى الله عليه وآله : شؤم المرأة غلاء مهرها(1) ، وقال صلى الله عليه وآله : أفضل نساء اُمّتي أصبحهن وجهاً وأقلهنّ مهراً(2)، ولكن ذكر في القرآن موضعين ، جعل فيهما زيادة المهر مطلوباً.
عالم الدين : في أي موضع من القرآن ذكر ذلك ؟
الجامعي : الموضع الاَول ، في الآية 20 من سورة النساء نقرأ : ( وان أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ). ولفظ « قنطار » بمعنى المال الكثير ، الذي يشمل الآلاف من الدنانير ، فجاء في هذه الآية ، لفظ « القنطار » ولم ينتقدها ، بل أكّد على عدم أخذ شيء منه ، لذلك يكون أخذ الصداق الكثير أمراً مطلوباً ، وإلا لما كان القرآن قد ذكره.
على هذا الاَساس ، جاء في الروايات ، أن عمر بن الخطاب في عصر خلافته ، عندما رأى أن المهور باهظة الثمن ، صعد المنبر وانتقد الناس واعترض عليهم ، وقال : أيها الناس لا تغلو في مهور النساء ـ وحذرّهم ـ وأن لا يزيد على أربعين أوقية ـ أربعمائة درهم ـ فمن زاد أقمت الحد عليه ، وألقيت الزيادة في بيت المال ، فقامت إليه إمرأة وقالت : أتمنعنا ؟ ما ذلك لك.
قال عمر : نعم.
قالت : لاَن الله يقول : ( وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً )(3) بل تبذل لها كاملة.
فأقرّ عمر قولها واستغفر الله وقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال(4).
عالم الدين : إن للآية المذكورة شأن نزول ، وهو أنَّه هناك كانت رسوم جاهلية قبل الاِسلام ، فمن أراد أن يطلق زوجته السابقة ، ويتزوج زواجاً جديداً ، ويهرب من مهرها ، يتهمها في شرفها ، ويضغط عليها ، لتطلق نفسها وتهب له مهرها ، وبهذا المهر يتخذ لنفسه زوجة جديدة.
فالآية المذكورة تتهجم على هذا العمل السيء وتقبّحه ، وتقول : لو كان المهر بقدر قنطار أي « مالاً كثيراً » ، لا تأخذوا شيئاً منه بالاِجبار ، فنظر الاِسلام أن لا تجعل المهور غالية ، ولكن لو ترك هذا العمل الصالح ، وجعل المهر باهظاً فبعد العقد ، وبدون رضى المرأة ، لا يجوز التقليل منه ، فالآية المذكورة لا تعارض جعل المهور خفيفة المؤنة.
وأما قصة عمر مع تلك السيدة ، فلا بد من القول أن جواب السيدة كان صحيحاً ، لان عمر قال : كل من جعل المهر أكثر من400 درهم ، أخذ الاِضافة منه وألحقها ببيت المال ، فالسيدة المذكورة بقرأتها للآية ، قالت لعمر ، بعد العقد لا يحق لك ذلك ، وقد خضع عمر لقولها.
النتيجة : أنّ هناك استحباباً وتأكيداً في الاِسلام على جعل المهر قليل عند العقد ، ولكن لو تُركت هذه السنّة الشريفة وجعل المهر باهظ الثمن ، فلا يجوز الاَخذ منه إلا برضى المرأة.
الجامعي : أشكرك على توضيحاتك ، لقد كانت منطقية ومقنعة ، ألآن أحبّ أن أطرح الموضع الآخر.
عالم الدين : تفضل.
الجامعي : جاء في القرآن ، في قصة موسى عليه السلام وشعيب عليه السلام ، حينما تخلص موسى عليه السلام من أذى الفراعنة ، وجاء إلى مدينة « مدين » في مصر ، وأخيراً دخل بيت شعيب عليه السلام ، فقال له شعيب عليه السلام : ( إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن اشقَّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصابرين )(5).
فوافق موسى على اقتراح شعيب عليه السلام ، ومن الواضح أن العمل ثمان سنوات ، هو مهر ثقيل ، وقد وافق عليه كلا النبيين عليهما السلام ، وقد نقله القرآن دون أن ينتقده ، فيكون دليلاً على مطلوبية العقد بالمهر الثقيل.
عالم الدين : في قصة موسى عليه السلام وشعيب عليه السلام ، لابد أن نشير أن زواج موسى عليه السلام مع بنت شعيب عليه السلام لم يكن زواجاً عادياً ، بل كان مقدمة لبقاء موسى عليه السلام بجانب شعيب عليه السلام ، لكسب العلم والكمال من هذا العارف الكبير سنوات طويلة ، إضافة إلى أن موسى عليه السلام وإن عمل لسنوات طويلة لاَجل دفع الصداق ، ولكنّ شعيب عليه السلام أخذ على عاتقه تأمين الحياة المعاشية لموسى عليه السلام وزوجته ، ولو طرحناها من السنوات الطويلة لعمل موسى عليه السلام ، فلا يبقى مبلغاً كبيراً ، فيحتسب ذلك المبلغ الضئيل كصداق لزوجته ، وهذا المبلغ الباهظ في الظاهر هو ما أقدم عليه شعيب عليه السلام كمقدمة لبناء الجانب المادي والمعنوي في حياة موسى عليه السلام مع وساطته وقبول ابنته ، وبعبارة أوضح ، إن شعيب عليه السلام وإن أخذ مهراً ثقيلاً ظاهراً ، ولكن أراد بذلك ان يخرج موسى عليه السلام من وحشة الوحدة وضغط الحياة ، فيكون هدفه في النتيجة تسهيل حياة موسى عليه السلام لا الضغط عليه ، كما قال : وما أريد أن أشق عليك).
الجامعي : أشكرك على بياناتك اللطيفة ، وفي الحقيقة أن شعيب عليه السلام باتخاذه ذلك الاَسلوب الذكي ، والتدبير العقلائي ، قدّم لموسى عليه السلام خدمة كبيرة.(6) .
____________
(1) بحار الاَنوار : ج 61 ص 198 ح 44 وج 100 ص 231 ح 7 ، وسائل الشيعة للحر العاملي : ج 3 ص 560 ح 3 .
(2) بحار الاَنوار : ج 100 ص 236 ح 25 ، وسائل الشيعة : ج 14 ص 16 ح 8 .
(3) سورة النساء : الآية 20 .
(4) تفسير الدر المنثور للسيوطي : ج2 ص466 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ج1 ص478 ، تفسير القرطبي والكشّاف وغرائب القرآن في شرح ذيل الآية ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 48 ص 97 ح 106.
(5) سورة القصص : الآية 27 .
(6) أجود المناظرات ، للاشتهاردي : ص 374 ـ 378 .
التعلیقات