مناظرة الشيخ الكراجكي مع أحد فقهاء العامّة في حكم القياس
في الاحكام
منذ 14 سنةيقول الشيخ الكراجكي ـ عليه الرحمة ـ : جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة ، اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة ، سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم ، فقال : ما تقول في القياس ، وهل تستجيزه في مذهبك ، أم ترى أنه غير جائز ؟؟
فقلت له : القياس قياسان : قياس في العقليات ، وقياس في السمعيات.
فأمّا القياس في العقليات فجائز صحيح ، وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل .
قال : فهل يتفق حدهما أم يختلف ؟
قلت : الواجب أن يكون حدهما واحداً غير مختلف .
قال : فما هو ؟
قلت : القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس ، هذا هو الحد الشامل لكل قياس ، وله بعد هذا شرائط لا بدّ منها ، ولا يقاس شيء على شيء إلاّ بعلّة تجتمع بينهما .
قال : فإذا كان الحد شاملاً للقياسين فلا فرق إذاً بين القياس الذي أجزته ، والقياس الذي أحلته ؟!
قلت : بل بينهما فروق ، وإن شمل الحد .
قال : وما هي ؟
قلت : منها أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب ، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك ، بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار .
ومنها : أن العلّة في العقليات لا تكون إلاّ معلومة ، وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة .
ومنها : أنها في العقليات لا تكون إلاّ شيئاً واحداً ، وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء ، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.
قال : فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز ؟
قلت : الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور ، واتفق في المختلف ، وورد الحظر لشيء والاِباحة لمثله ، بل ورد الحكم في الاَمر العظيم صغيراً ، وفي الصغير بالاِضافة إليه عظيماً ، واختلف كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس .
وإذا كان هذا سبيل المشروعات ، علم أنه لا طريق إلى معرفة شيء من أحكامها إلا من قِبَل المطّلع على السرائر ، العالم بمصالح العباد ، وإنه ليس للقائسين فيه مجال .
فقال أحد الحاضرين : فمثّل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المبائن للقياس .
قلت : هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال ، ولكني أورد منه طرفاً لموضع السؤال .
فمنه أن الله عزّ وجلّ أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط ، وليس هو بأنجس منهما ، وأكثر العامة يروون أنه طاهر ، وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام ، وأسقط عنها قضاء ما تركته من الصلاة ، وهي أوكد من الصيام ، وفرض في الزكاة أن يخرج من الاَربعين شاةً ، شاة ، ولم يفرض في الثمانين شاتين ، بل فرضها بعد كمال المائة والعشرين ، وهذا خارج عن القياس .
ونهانا عن التحريش بين بهيمتين ، وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد ، وجعل للرجل أن يطأ من الاِماء ما ملكته يمينه ، ولم يجعل للمرأة أن تمكِّن من نفسها من ملكته يمينها ، وأوجب الحدَّ على مَنْ رمى غيره بفجور ، وأسقطه عن مَنْ رمى بالكفر ، وهو أعظم من الفجور .
وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين ، وحظر جلد الزاني الذي يُشهد بالزنا عليه ، إلاّ أن يشهد بذلك أربعة شهود ، وهذا كلّه خارج عن القياس.
وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال : سألت سعيد بن المسيب ، فقلت : كم في إصبع المرأة ؟
قال : عشر من الاِبل .
قلت : كم في إصبعين ؟
قال : عشرون .
قلت : كم في ثلاث ؟
قال : ثلاثون .
قلت : كم في أربع ؟
قال : عشرون .
قلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها نقص عقلها ؟
فقال سعيد : أعرابي أنت ؟
قلت : بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلّم .
قال : هي السنة يا بن أخ(1).
ونحو ذلك مما لو ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب ، وفيما أوردته كفاية لذوي الاَلباب .
قال السائل : فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحاً ، ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمراً ولا صحيحاً ، فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات ، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحاً ، وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمراً ولا صحيحاً ؟
فقلت : أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه ، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جارياً مجراها .
ولسنا نجد اُصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس ، وإنما امتنع القياس فيها ، لاَنها اُصول لا اُصول لها ، فوضح الفرق بينهما.
ومما يبيّن لك ذلك أيضاً أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه اُصول الشرعيات ، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات ، فلا طريق إلى الجمع بينهما .
قال : فما تنكرون على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الاُصول في السمعيات وفروعها ، فنص لنا على الاُصول وعرّفنا بها ، وأمرنا بقياس الفروع عليها ، ضرباً من التعبد والتكليف ، ليستحق عليه الاَجر والثواب .
قلت : هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعباد ، لاَن القياس لا بد فيه من استخراج علّةٍ يحمل عليها الفروع على الاُصول ، ليماثل بينهما في الحكم.
والاَحكام الشرعية لو كانت مما توجبه العلل ، لم يجز في المشروعات النسخ ، وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل .
وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة ، والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق ، ولا مؤدية إلى العلم بمراد الله تعالى من الحكم .
ولو فرضنا(2) جواز تكليف العباد القياس في السمعيات ، لم يكن بد من ورود السمع بذلك في القرآن أو في صحيح الاَخبار ، وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه خلقه .
قال : فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الاَخبار ، قال الله عزّ وجلّ : ( فَاعتَبِروا يا اُولي الاََبصَار )(3)، فأوجب الاعتبار ، وهو الاستدلال والقياس ، وقال : ( فَجَزاء مِثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحكُمُ بهِ ذَوَا عَدلٍ مِنكُم )(4) ، فأوجب بالمماثلة المقايسة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أرسل معاذاً إلى اليمن ، قال له : بماذا تقضي ؟ قال : بكتاب الله .
قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟
قال : بسنة رسول الله .
قال : إن لم تجد في سنة رسول الله ؟
قال : أجتهد رأيي .
فقال صلى الله عليه وآله : الحمدلله الذي وفق رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.
وروي عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه سئل فقيل له : بماذا كان يحكم أمير المؤمنين عليه السلام .
قال : بكتاب الله ، فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإن لم يجد ، رجم فأصاب .
وهذا كلّه دليل على صحة القياس ، والاَخذ بالاجتهاد والظن والرأى .
فقلت له : أما قول الله عزّ وجلّ : ( فَاعتَبِروا يا اُولي الاََبصَار )(5) ، فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف ، لاَنه تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ما يستدل به على حق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأن الله أمده بالتوفيق ونصره ، وخذل عدوه ، وأمر الناس باعتبار ذلك ليزدادوا بصيرة في الاِيمان .
وليس هذا بقياس في المشروعات ، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الاَحكام .
وأما قوله سبحانه : ( فَجَزاء مِثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحكُمُ بهِ ذَوَا عَدلٍ مِنكُم )(6) ، فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس ، وإنما تعبّد الله سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص الله تعالى .
ولو كان حكمهما قياساً لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبَدَنة قد قاسا ، مع وجود النص بذلك ، فيجب أن يتأمّل هذا .
وأما الخبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد ، التي لا يثبت بهما الاُصول المعلومة في العبادات ، على أن رواة خبر معاذ مجهولون ، وهم في لفظه أيضاً مختلفون .
ومنهم من ورى أنه لما قال : اجتهد رأيي قال له صلى الله عليه وآله : لا أحب إلى (أن) أكتب إليك .
ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله : أجتهد رأيي ، أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.
وأما ما رويته عن الحسن عليه السلام من حكم أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ففيه تصحيف ممن رواه ، والخبر المعروف أنه قال : فإن لم يجد في السنة زجرَ فأصاب ، يعني بذلك القرعة بالسهام ، وهو مأخوذ من الزجر والفال.
والقرعة عندنا من الاَحكام المنصوص عليها(7) ، وليست بداخلة في باب القياس ، فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والاَخبار.
فقال أحد الحاضرين : إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس ، فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار ، فقد تساويا في هذه الحال.
فقلت له : قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات ، وما يستغنى به متأمّله عن إيراد ما سواه .
ثم إن الاَمر بخلاف ما ظننت ، وقد تناصرت الاَدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الاَخبار ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَمِن لَم يَحكم بِما أَنزلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون )(8) ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل ، قال : الله عزّ وجلّ : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهَذا حَرَامٌ لِتَفتَروا على اللهِ الكَذِبَ )(9) ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصحّ له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره ، وهو المحلل والمحرم في الشرع بقولٍ من عنده ، وكذب وصفه بلسانه ، فقال سبحانه : ( وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ إنَّ السَّمعَ والبَصرَ والفؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عنهُ مَسئُولاً )(10) ونحن نعلم أن القائس معول على الظن دون العلم ، والظن مناف للعلم ، ألا ترى أنهما لا يجتمعان في الشيء الواحد ، وهذا من القرآن كافٍ في إفساد القياس .
وأما المروي في ذلك من الاَخبار فمنه قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « ستفترق اُمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على اُمّتي ، قوم يقيسون الاُمور برأيهم فيحرمون الحلال ، ويحللون الحرام » .
وقول أمير المؤمنين عليه السلام « إياكم والقياس في الاَحكام ، فإنه أول من قاس إبليس » .
وقال الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام « إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس ، قد جعل الله تعالى للقرآن أهلاً ، أغناكم بهم عن جميع الخلائق ، لا علم إلاّ ما اُمروا به ، قال الله تعالى : ( فَاسألوا أهلَ الذكرِ إن كنتم لا تَعلمونَ )(11) إيانا عنى(12).
وجميع أهل البيت عليهم السلام أفتوا بتحريم القياس ، وروي عن سلمان الفارسي رحمه الله أنه قال : « ما هلكت اُمّة حتى قاست في دينها » ، وكان ابن مسعود يقول : « هلك القائسون » ، وفي هذا القدر من الاَخبار غنى عن الاِطالة والاَكثار .
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال : إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلاً ، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الاُمم ، فقالوا فيهم بالرأي ، فأضلوهم.
قال ابن عيينة : فما زال أمر الناس مستقيماً حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة ، وأبو حنيفة بالكوفة ، وعثمان البنيّ بالبصرة ، وأفتوا الناس ، وفتنوهم ، فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الاُمم .
فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ، ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت والحمدلله(13).
____________
(1) وهذا مأخوذ عن أهل البيت عليهم السلام فقد جاء عن أبان بن تغلب قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : رجل قطع أصبع امرأة ، فقال : فيها عشرة من الاَبل ، قلت : قطع اثنتين ، قال : فيهما عشرون من الاَبل ، قلت : قطع ثلاث أصابع قال : فيها ثلاثون من الاَبل ! قلت : قطع أربعاً ، قال : فيهن عشرون من الاَبل ، قلت : أيقطع ثلاثاً وفيهن ثلاثون من الاَبل ، ويقطع أربعاً وفيها عشرون من الاَبل ؟ قال : نعم ، إن المرأة إذا بلغت الثلث من دية الرَّجل سفلت المرأة وارتفع الرّجل ، إن السنة لا تقاس ، ألا ترى أنها تؤمر بقضاء صومها ولا تؤمر بقضاء صلاتها ، يا أبان اخذتني بالقياس ، وإن السنة إذا قيست محق الدين . بحار الاَنوار : ج 101 ص 405 ح5 (ب 42 الجناية بين المسلم والكافر) .
(2) من هنا نقل هذه المناظرة المجلسي في البحار : ج 2 ص 310 ـ 312 .
(3) سورة الحشر : الآية 2 .
(4) سورة المائدة : الآية 95 .
(5) سورة الحشر : الآية 2 .
(6) سورة المائدة : الآية 95 .
(7) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي : ج 18 ص 187 ـ 192 (ب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى) .
(8) سورة المائدة : الآية 44 .
(9) سورة النحل : الآية 116 .
(10) سورة الاِسراء : الآية 36 .
(11) سورة النحل : الآية 43 ، وسورة الاَنبياء : الآية 7 .
(12) راجع : تفسير البرهان للبحراني : ج 3 ص 423 ـ 428 ، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : ج 1 ص 432 ح 459 ـ 466 .
(13) كنز الفوائد للكراجكي : ج2 ص 203 ـ 210 .
التعلیقات