مناظرة الشيخ المفيد مع بعض فقهاء العامّة في حكم الإجتهاد والتصويب
في الاحكام
منذ 14 سنةقال الشيخ الكراجكي ـ عليه الرحمة ـ في كتابه كنز الفوائد : جرى لشيخنا المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ـ رضوان الله عليه ـ مع بعض خصومه في قولهم : « إن كل مجتهد مصيب » .
قال شيخنا المفيد (رضي الله عنه) : كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة ، فقلت لهم : إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف ، يحظر عليكم المناظرة ، ويمنعكم من الفحص والمباحثة ، واجتماعكم على المناظرة يناقض اُصولكم في الاجتهاد ، وتسويغ الاختلاف .
فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم ، فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم ، وتلزموا الصمت .
وإما أن تختاروا المناظرة ، وتؤثروها على المتاركة ، فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد ، وتتركوا مذاهبكم في الرأي ، وجواز الاختلاف ، ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفتم طريق الاستدلال .
فقال أحد القوم : لِمَ زعمت أن الاَمر كما وصفت ، ومن أين وجب ذلك ؟
قال شيخنا رحمه الله : فقلت له : عليَّ البيان عن ذلك ، والبرهان عليه حتى لا (يحتج) على أحدٍ من العقلاء ، أليس من قولكم أن الله تعالى سوّغ خلقه(1) الاختلاف في الاَحكام للتوسعة عليهم ، ودفع الحرج عنهم رحمةً منه لهم ، ورفقاً بهم ، وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الاَحكام ، وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقاً عليهم ، (معنتاً) لهم ، والله يتعالى عن ذلك ، حتى (أكّدتم) هذا المقال بما رويتموه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « اختلاف اُمتي رحمة »(2) ، وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف.
قال : بلى ، فما الذي يلزمنا على هذا المقال ؟
قال شيخنا رحمه الله : قلت له : فخبرني الآن عن موضع المناظرة ، أليس إنما هو التماس الموافقة ، ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة ، وتتغير له عن الاِقامة على ضد ما دلّ عليه البرهان ؟
قال : لا ، ليس هذا موضوع المناظرة ، وإنما موضوعها لاِقامة الحجة والاِبانة عن رجحان المقالة فقط.
قال الشيخ : فقلت له : وما الغرض في إقامة الحجّة والبرهان على الرجحان ، وما الذي يجرانه إلى ذلك ، والمعنى الملتمس به ، أهو تبعيد الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حججها ، أم الدعوة إليها بذلك ، واللطف في الاجتذاب إليها به ؟؟
فإن قلت : إن الغرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه ، والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه ؟ قلت : قولاً يرغب عنه كل عاقل ، ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.
وإن قلت : إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داعٍ إليه بذلك ، والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضُرب بهذا القول ـ وهو الحقّ الذي لا شبهة فيه ـ إلى ما أردناه ، من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة .
وإذا كان ذلك كذلك ، فلو حصل الغرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة ، وسقطت التوسعة ، وعدم الرفق من الله تعالى بعباده ، ووجب في(3) صفة العنت والتضييق ، وذلك ضلال من قائله ، فلا بد على أصلكم في الاختلاف من تحريم النظر والحِجاج ، وإلاّ فمتى صحّ ذلك ، وكان أولى من تركه فقد بطل قولكم في الاجتهاد ، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.
فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال : ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق ، وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد .
فقال له الشيخ رحمه الله : هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه ، وأنتما جميعاً حائدان عن التحقيق والصواب ، وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض ، ولا بد لفعل النظر من معقول .
فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد ، البيان عن موضع الرجحان ، فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والاَيناس بالحجة إلى المقال.
وإن كان الغرض فيه التعمية والاِلغاز فذلك محال ، لوجود المناظر مجتهداً في البيان التحسين لمقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب .
وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه ، الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها ، والتحسين لها ، والتقبيح لضدها ، والترجيح لها على غيرها ، وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من قوله ، وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه ، فقد ثبت بما قلناه.
ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه ، المجتهد في تحسينه وتشييده ، غير قاصدٍ بذلك إلى الدعاء إليه ، ولا مزيد للاتفاق عليه ، لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعياً بذلك إلى اعتقاده ، ومرغباً به إلى المصير إليه .
ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشيء مدحاً له ، والمدح له ذماً له ، والترغيب في الشيء ترهيباً عنه ، والترهيب عن الشيء ترغيباً فيه ، والاَمر به نهياً عنه ، والنهي عنه أمراً به ، والتحذير منه إيناساً به ، وهذا ما لا يذهب إليه سليم.
فبطل ذلك ما توهموه ، ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه ، والله نسأل التوفيق .
قال شيخنا رحمه الله : ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له : لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها ـ ولن يسلموا أبداً من الله ـ لما سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به ، والرد للنص في كتابه ، والخروج عن مفهوم أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الاَحكام ، قال : الله عزّ وجلّ : ( وَلا تَكونوا كَالَّذينَ تَفَرَّفوا وَاختَلفوا مِن بَعدِ مَا جاءَهمُ البيّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمُ عَذابُ عَظِمُ )(4).
فنهى الله تعالى نهياً عاماً ظاهراً ، وحذّر منه وزجر عنه ، وتوعد على فعله بالعقاب ، وهذا منافٍ لجواز الاختلاف ، وقال سبحانه : ( وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعاً وَلا تَفرَّقوا )(5) فنهى عن التفرّق ، وأمر الكافة بالاجتماع ، وهذا يبطل قول مسوغ الاختلاف ، وقال سبحانه : ( وَلا يَزالوُنَ مُختلفينَ ، إلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ )(6) ، فاستثنى المرحومين من المختلفين ، ودلّ على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة ، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة ، ولولا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل ، وهذا بيّن لمن تأمّله.
قال : صاحب المجلس : أرى هذا الكلام كلّه يتوجه على من قال : إن كل مجتهدٍ مصيب ، فما تقول فيمن قال : إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف ؟
قال الشيخ رحمه الله : فقلت له : القائل بأن الحق في واحد ، وإن كان مصيباً فيما قال على هذا المعنى خاصة ، فإنه يلزمه المناقضة بقوله : إن المخطىء للحقِّ معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه ، واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقه العنت والتضييق ، فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الاَوّلين فيما عليهم من المناقضة ، ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة ، وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحقة ، يزيدون عليه في المناقضة وتهافت المقالة ، بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم ، مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده ، فهو شاهد بصوابه وخطئه في الاِصابة ، معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه ، مأجور على مباينته ، وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها ، وتكشف عن قبح باطنها بظاهرها ، وبالله التوفيق .
ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيدالله بن فارس قبل أن يتولى الوزارة(7).
____________
(1) الظاهر : سوغ لخلقه ، والله العالم .
(2) كنز العمّال : ج10 ص 136 ح28686 ، تذكرة الموضوعات : ص 90 ، إتحاف السادة المتقين : ج1 ص 204 و 205.
(3) الظاهر : فيه .
(4) سورة آل عمران : الآية 105 .
(5) سورة آل عمران : الآية 103 .
(6) سورة هود : الآية 118 و 119 .
(7) كنز الفوائد للكراجكي : ج2 ص 210 ـ 214 .
التعلیقات