مناظرة سلطان الواعظين مع الحافظ محمد رشيد في حكم فتح باب الإجتهاد ووجوب التمسّك بأهل البيت (عليهم السلام)
في الاحكام
منذ 14 سنةقال سلطان الواعظين في معرض حديثه عن وجوب التمسّك بأهل البيت عليهم السلام وفتح باب الاجتهاد : فقال النوّاب : لقد قرّرت في الليلة الماضية أن تحدّثنا عن مقام أئمّتكم واعتقادكم في حقّهم ، لاَنّا نحبّ أن نعرف ما هو الاختلاف بيننا وبينكم حول الاَئمّة عليهم السلام .
قلت : لا مانع لدي من ذلك إذا سمح العلماء الاَعلام والحاضرون الكرام .
الحافظ ـ وهو منخطف اللون ـ : لا مانع لدينا أيضاً .
قلت : إنّ العلماء في المجلس يعرفون إنّ لكلمة الاِمام معانٍ عديدة في اللغة ، منها : المقتدى ، فإمام الجماعة هو الذي تقتدي به جماعة المصلّين وتتابعه في أفعال الصلاة كالقيام والقعود والركوع والسجود .
وأئمّة المذاهب الاَربعة هم فقهاء بيّنوا لاَتباعهم أحكام الاِسلام ومسائل الدين ، وهم اجتهدوا فيها واستنبطوها من القرآن والسنّة الشريفة بالقياس والاستحسانات العقلية ، فلذلك لمّا نطالع كتبهم نرى في آرائهم وأقوالهم ، في الاُصول والفروع ، اختلافاً كثيراً .
ويوجد مثل الاَئمة الاَربعة في كلّ دين ومذهب ، وحتى في مذهب الشيعة ، وهم العلماء الفقهاء الذين يرجع إليهم الناس في اُمور دينهم ، ويعملون بأقوالهم ويقلّدونهم في الاَحكام الشرعية والمسائل الدينية ، ومقام هؤلاء المراجع عندنا كمقام الاَئمّة الاَربعة عندكم ، وهم في هذا العصر الذي غاب فيها عن الاَنظار الاِمام المعصوم المنصوص عليه من النبي صلى الله عليه وآله ، يستنبطون الاَحكام الشرعية ويستخرجون المسائل الدينية على أساس القرآن والسنّة والاِجماع والعقل ، فيفتون بها ، وللعوّام أن يتّبعوهم ويقلّدونهم ، وفي اصطلاح مذهبنا نسمّيهم : مراجع الدين ، والواحد منهم : المرجع الديني .
كان الاَئمّة الاَربعة حسب زعمكم فقهاء أصحاب رأي وفتوى في المسائل الدينية ومستندهم : الكتاب والسنّة والقياس.
فهنا سؤال يطرح نفسه وهو : إنّ الفقهاء وأصحاب الرأي والفتوى عددهم أكثر من أربعة ، وأكثر من أربعين ، وأكثر من أربعمائة ، وأكثر ... وكانوا قبل الاَئمة الاَربعة وبعدهم ، وكثير منهم كانوا معاصرين للاَئمّة الاَربعة ، فلماذا انحصرت المذاهب في أربعة ؟ !
ولماذا اعترفتم بأربعة من الفقهاء وفضّلتموهم على غيرهم وجعلتموهم أئمّة ؟ ! من أين جاء هذا الحصر ؟ ! ولماذا هذا الجمود ؟ !
نحن وأنتم نعتقد أنّ الاِسلام قد نسخ الاَديان التي جاءت قبله ، ولا يأتي دين بعده ، فهو دين الناس إلى يوم القيامة ، قال تعالى : ( وَمن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه ... )(2).
فكيف يمكن لهذا الدين الحنيف أن يساير الزمن والعلم في الاختراعات والاكتشافات والصناعات المتطوِّرة ، ولكلّ منها مسائل مستحدثة تتطلّب إجابات علمية .
فإذا أغفلنا باب الاجتهاد ولم نسمح للفقهاء أن يبدوا رأيهم ويظهروا نظرهم ـ كما فعلتم أنتم بعد الاَئمة الاَربعة ـ فمن يجيب على المسائل المستحدثة ؟ !
وكم ظهر بينكم بعد الاَئمّة الاَربعة فقهاء أفقه منهم ، ولكنّكم ما أخذتم بأقوالهم وما عملتم بآرائهم ! فلماذا ترجّحون اُولئك الاَربعة على غيرهم من الفقهاء والعلماء ، لا سيّما على الاَفقه والاَعلم منهم ؟ ! أليس هذا ترجيح بلا مرجّح ، وهو قبيح عند العقلاء ؟ !
ولكن في مذهبنا نعتقد : أنّ في مثل هذا الزمان وبما أنّ الاِمام المعصوم غائب عن الاَبصار ، فباب الاِجتهاد مفتوح غير مغلق ، والرأي غير محتكر ، بل كلّ صاحب رأي حرّ في إظهار رأيه ، شريطة أن يكون مستنداً إلى الكتاب أو السنّة أو الاِجماع أو العقل ، وعلى العوام أن يرجعوا إليهم في أخذ الاَحكام ومسائل الاِسلام .
والاِمام الثاني عشر ، وهو المهدي المنتظر ، آخر أئمّتنا المعصومين عليهم السلام ، أمر بذلك قبل أن يغيب عن الاَبصار ... فقال : من كان من الفقهاء حافظاً لدينه ، صائناً لنفسه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لاَمر مولاه ـ أي ربّه ـ فللعوامّ أن يقلّدوه.(3) .
لذلك يجب عند الشيعة ، على كلّ من بلغ سنّ الرشد والبلوغ الشرعي ، ولم يكن مجتهداً فقيهاً ، يجب عليه أن يقلّد أحد الفقهاء الاَحياء الحاوين لتلك الشرائط التي اشترطها الاِمام المعصوم عليه السلام ، ولا يجوز عندنا تقليد الفقيه الميّت ابتداءً ، والعجيب أنّكم تتّهمون الشيعة بأنّهم يعبدون الاَموات لزيارتهم القبور ! !
ليت شعري هل زيارة القبور عبادة الاَموات ، أم عبادة الاَموات هي اعتقادكم بأنّ كلّ من لم يتّبع الاَئمّة الاَربعة في الاَحكام ، ولم يلتزم برأي الاَشعري أو المعتزلي في أصول الدين ؟ !
مع العلم أنّ أئمّة المذاهب الاَربعة ، وأبا الحسن الاَشعري والمعتزلي ، ما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يدركوا صحبته ، فبأيّ دليل تحصرون الاِسلام في رأي هؤلاء الستّة ؟ ! أليس هذا العمل منكم بدعة في الدين ؟ !
الحافظ : لقد ثبت عندنا أنّ الاَئمّة الاَربعة حازوا درجة الاِجتهاد ، وتوصّلوا إلى الفقه وإبداء الرأي في الاَحكام ، وهم كانوا على زهد وعدالة وتقوى ، فلزم علينا وعلى جميع المسلمين متابعتهم والاَخذ بقولهم ؟
قلت : إن الاَمور التي ذكرتها لا تصير سبباً لانحصار الدين في أقوالهم وأرائهم وإلزام المسلمين بالاَخذ منهم فقط إلى يوم القيامة ، لاَنّ هذه الصفات متوفّرة في علماء وفقهاء آخرين منكم أيضاً .
ولو قلتم بانحصار هذه الصفات في الاَئمّة الاَربعة فقد أسأتم الظنّ في سائر علمائكم الاَعلام ، بل أهنتموهم وهتكتم حرمتهم ولا سيّما أصحاب الصحاح منهم ! !
ثمّ إنّ إلزام المسلمين وإجبارهم على أيّ شيء يجب أن يكون مستنداً إلى نصّ من القرآن الحكيم أو حديث النبي الكريم صلى الله عليه وآله ، وأنتم تجبرون المسلمين وتلزمونهم على أخذ أحكام دينهم من أحد الاَئمّة الاَربعة من غير استناد إلى الله ورسوله ، فعملكم هذا لا يكون إلاّ تحكّماً .
لقد سبق زعمكم أنّ التشيّع مذهب سياسي ، ولا أساس له في الدين ، ونحن أثبتنا وهن هذا الكلام وبطلانه ، بنقل الكثير من الاَحاديث النبويّة الشريفة التي يذكر النبي صلى الله عليه وآله فيها شيعة عليّ عليه السلام بالفوز والفلاح ويعدهم الجنّة .
وأثبتنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله هو مؤسّس مذهب الشيعة ، وهو واضع أساسه ، وهو الذي سمّى موالي الاِمام عليّ عليه السلام وأتباعه بالشيعة ، حتى صار هذا الاسم علماً لهم في حياته صلى الله عليه وآله ، واستندنا في كلّ ذلك على الروايات المعتبرة المرويّة في كتبكم ، المقبولة لديكم ، والتي تعتمدون عليها كلّكم .
فإن كنتم لا تعلمون أساس التزامكم بالمذاهب الاَربعة وانحصار الاِسلام الحنيف فيها كما تزعمون فراجعوا التاريخ وطالعوه بدقّة وتحقيق حتى تعرفوا إنّما وجدت المذاهب الاَربعة بدواعٍ سياسية(5) ، وكان الهدف منها ابتعاد المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام وغلق مدرستهم العلمية !
هذا ما كان يبتغيه السلطان الظالم الغاصب الذي تسمّوه : « الخليفة » لاَنّ الخلفاء كانوا يرون أهل البيت عليهم السلام منافسين لهم في الحكم والسلطة ، فهم يحكمون الناس بالقوّة والقهر والسوط والسيف ، ولكنّ الناس يميلون إلى أهل البيت عليهم السلام بالرغبة والمحبّة قربة إلى الله تعالى فيطيعونهم ويأخذون بأقوالهم ويتّبعونهم في مسائل الحلال والحرام ، وكلّ أحكام الاِسلام .
فأهل البيت عليهم السلام هم أصحاب السلطة الشرعية والحكومة الروحية المهيمنة على النفوس والقلوب عند الناس ، فلاَجل القضاء على هذه الحالة ـ التي جعلت الخلفاء في حذر وخوف دائم ، وسلبت منهم النوم والراحة ـ بادروا إلى تأسيس المذاهب الاَربعة ، واعترفت السلطات الحكومية والجهات السياسية بها دون غيرها ، وأعطتها الطابع الرسمي ، وحاربت سواها بكلّ قوّة وقسوة .
وأصدرت قرارات رسمية تأمر الناس بالاَخذ بقول أحد الاَئمّة الاَربعة ، وأمرت القضاة أن يحكموا على رأي أحدهم ويتركوا أقوال الفقهاء الآخرين ، هكذا انحصر الاِسلام بالمذاهب الاَربعة ، وإلى هذا اليوم أنتم أيضاً تسيرون على تلك القرارات ؟ !
والعجيب أنّكم ترفضون كلّ مسلم مؤمن يعمل بالاَحكام الدينية على غير رأي الاَئمة الاَربعة ، حتى إذا كان يعمل برأي الاِمام عليّ بن أبي طالب والعترة الهادية عليهم السلام كمذهب الشيعة الاِمامية .
فإنّ الشيعة سائرون على منهج أهل البيت والخطّ الذي رسمه النبي صلى الله عليه وآله ، فيأخذون دينهم من الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تربّى في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو باب علمه ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله المسلمين بمتابعته والاَخذ منه ، والاَئمّة الاَربعة بعد لم يُخلقوا ، فقد جاؤا بعد رسول الله بعهد طويل ، مائة عام أو أكثر ، مع ذلك تزعمون أنّكم على حقّ والشيعة على باطل ! !
أمَا قال النبي صلى الله عليه وآله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً(6)؟ !
فانظروا وفكّروا .. من المتمسّك بالثقلين ، نحن أم أنتم ؟ !
أما قال النبي صلى الله عليه وآله : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ـ وفي رواية : هلك(7)ـ فمن المتخلّف عنهم ، نحن أم أنتم .
هل الاَئمة الاَربعة من أهل البيت عليهم السلام ؟ ! أم الاِمام علي عليه السلام ، والحسن والحسين عليهما السلام ريحانتا النبي صلى الله عليه وآله وسبطاه وسيّدا شباب أهل الجنة ؟ !
أما قال النبي صلى الله عليه وآله فيهما : فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم(8)؟ !
ثم يقول ابن حجر في « تنبيه » له على الحديث : سمّى رسول الله صلى الله عليه وآله القرآن وعترته .. ثقلين ، لاَنّ الثقل : كلّ نفيس خطير مصون وهذان كذلك ، إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنية والاَسرار والحكم العليّة والاَحكام الشرعيّة ، ولذا حثّ صلى الله عليه وآله على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم .
وقيل سُمِّيا ثقلين : لثقل وجوب رعاية حقوقهما ، ثمّ الذين وقع الحث عليهم منهم ، إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله ، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى ورود الحوض ، ويؤيّده الخبر السابق : ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم .
وتَميّزوا بذلك عن بقيّة العلماء ، لاَنّ الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وشرفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرّ بعضها .. إلى آخر ما قاله ابن حجر.(9) .
وما لي لا أتعجّب منه ومن أمثاله وما أكثرهم في علمائكم ! فإنّه مع إذعانه وإقراره بأنّ أهل البيت عليهم السلام يجب أن يقدَّموا على مَن سواهم ، ويجب أن تأخذ الاُمّة منهم أحكام دينها ومسائلها الشرعية ، لكنّه قدّم أبا الحسن الاَشعري عليهم وأخذ منه اُصول دينه ، وقدّم الاَئمّة الاَربعة ، وأخذ أحكام الشريعة المقدّسة منهم لا من أهل البيت عليهم السلام ! !
وهذا نابع من العناد والتعصّب واللجاج ، أعاذنا الله تعالى منها .
ثمّ أسألك أيّها الحافظ ، إذا كان الواقع كما زعمت أنّ الاَئمّة الاَربعة كانوا على زهد وعدالة وتقوى ، فكيف كفّر بعضهم بعضاً ، ورمى بعضهم الآخر بالفسق ! !
الحافظ ـ وقد تغيّر لونه ولاح الغضب في وجهه وصاح ـ : لا نسمح لكم أن تتهجّموا على أئمّتنا وعلمائنا إلى هذا الحدّ ، أنا أعلن أنّ كلامك هذا كذب وافتراء على أئمّة المسلمين ، وهو من أباطيل علمائكم ، أمّا علماؤنا فكلّهم أجمعواعلى وجوب احترام الاَئمّة الاَربعة وتعظيمهم ، ولم يكتبوا فيهم سوى ما يحكي جلالة شأنهم وعظيم مقامهم .
قلت : يظهر أنّ جنابك لا تطالع حتى كتبكم المعتبرة ، أو تتجاهل عن مثل هذه المواضيع فيها ، وإلاّ فإنّ كبار علمائكم كتبوا في ردّ الاَئمّة الاَربعة ، وفَسَّقَ بعضهم الآخر بل كفّر بعضهم بعضهم الآخر ! !
الحافظ : نحن لا نقبل كلامك ، بل هو مجرّد ادّعاء ، ولو كنت صادقاً في ما تزعم فاذكر لنا أسماء العلماء وكتبهم وما كتبوا حتى نعرف ذلك !
قلت : أصحاب أبي حنيفة وابن حزم وغيرهم يطعنون في الاِمامين مالك والشافعي .
وأصحاب الشافعي ، مثل : إمام الحرمين ، والاِمام الغزالي وغيرهما يطعنون في أبي حنيفة ومالك .
فما تقول أنت أيّها الحافظ ، عن الاِمام الشافعي وأبي حامد الغزالي وجار الله الزمخشري ؟ !
الحافظ : إنّهم من كبار علمائنا وفقهائنا ، وكلّهم ثقات عدول يُعتمد عليهم ويُصلّى خلفهم .
قلت : جاء في كتبكم عن الاِمام الشافعي أنّه قال : ما وُلد في الاِسلام أشأم من أبي حنيفة.(10) .
وقال أيضاً : نظرت في كتب أصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة ، فعددت منها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنّة !(11) .
وقال الاِمام الغزالي في كتابه « المنخول في علم الاُصول » : فأمّا أبو حنيفة فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن ، وشوّش مسلكها ، وغيّر نظامها(12).
ثمّ أردف جميع قواعد الشريعة بأصلٍ هَدَم به شرع محمد المصطفى(13) صلى الله عليه وآله ، ... ومن فعل شيئاً من هذا مستحلاً كفر ، ومن فعله غير مستحلّ فسق .
ويستمر بالطعن في أبي حنيفة بالتفصيل إلى أن قال : إنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، يلحن في الكلام ولا يعرف اللغة والنحو ولا يعرف الاَحاديث ، ولذا كان يعمل بالقياس في الفقه ، وأوّل من قاس إبليس . انتهى كلام الغزالي.(14) .
وأمّا جار الله الزمخشري صاحب تفسير « الكشّاف » وهو يُعدُّ من ثقات علمائكم وأشهر المفسّرين عندكم ، قال في كتابه « ربيع الاَبرار » : قال يوسف بن أسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة حديث أو أكثر !(15) .
وحكي عن يوسف أيضاً : أنّ أبا حنيفة كان يقول : لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وآله لاَخذ بكثير من قولي ! !(16) .
وقال ابن الجوزي في « المنتظم » اتّفق الكلّ على الطعن فيه ـ أي : في أبي حنيفة ـ والطعن من ثلاث جهات :
1 ـ قال بعض : إنّه ضعيف العقيدة ، متزلزل فيها .
2 ـ وقال بعض : إنّه ضعيف في ضبط الرواية وحفظها .
3 ـ وقال آخرون : إنّه صاحب رأي وقياس ، وإنّ رأيه غالباً مخالف للاَحاديث الصحاح . انتهى كلام ابن الجوزي .(17) .
والكلام من هذا النوع كثير في كتبكم حول الاَئمّة الاَربعة ، وأنا لا اُحب أن أخوض هذاالبحث ، وما أردت أن أتكلّم بما تكلّمت ، ولكنّك أحرجتني بكلامك حيث قلت : إنّ علماء الشيعة يكذبون على علمائنا وأئمتنا فأردت أن أثبت لك وللحاضرين أن كلام علماء الشيعة مستدلّ وصحيح ولا يصدر إلاّ عن الواقع والحقيقة ، ولكن كلامك أيّها الحافظ عار من الصحة والواقع ، وإذا أردت أن تعرف المطاعن كلّها حول الاَئمّة الاَربعة ، فراجع كتاب « المنخول في علم الاُصول » للغزالي ، وكتاب « النكت الشريفة » للشافعي ، وكتاب « ربيع الاَبرار » للزمخشري ، وكتاب « المنتظم » لابن الجوزي .. حتى تشاهد كيف يطعن بعضهم البعض إلى حدّ التكفير والتفسيق ! !
ولكن لو تراجع كتب الشيعة الاِمامية حول الاَئمّة الاثني عشر عليهم السلام لرأيت إجماع العلماء والفقهاء والمحدّثين والمؤرخين على تقديسهم وعظم شأنهم وجلال مقامهم وعصمتهم (سلام الله عليهم) .
لاَنّنا نعتقد أنّ الاَئمّة الاثنا عشر عليهم السلام كلّهم خريجوا جامعة واحدة ، وهم أخذوا علمهم من منبع ومنهل واحد ، وهو منبع الوحي ومنهل الرسالة ، فلم يفتوا إلاّ على أساس كتاب الله تعالى والسنّة الصحيحة التي ورثوها من جدّهم خاتم النبيّين وسيّد المرسلين صلى الله عليه وآله عن طريق الاِمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليهم السلام ، وحاشا أئمّتنا عليهم السلام أن يفتوا على أساس الرأي والقياس ، ولذا لا تجد أي اختلاف في ما بيّنوه ، لاَنّهم كلّهم ينقلون عن ذلك المنبع الصافي الزلال : « روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري »(18)(19) .
____________
(1) وإليك في ما يلي جملة من كلمات بعض مفكري وعلماء أهل السنّة في مساوىء غلق باب الاِجتهاد :
1 ـ إن قفل باب الاجتهاد معناه الضربة القاضية على حرية الفكر ، بل على الاسلام الذي قلنا : إنه جاء للناس كافة ، ليساير مختلف العصور والشعوب ، والآن بعد سير ألف سنة سار خلالها المسلمون جامدين .
محمد علي مؤلف كتاب الدين الاِسلامي
2 ـ وإني أستطيع أن أحكم بعد هذا بأن منع الاِجتهاد قد حصل بطرق ظالمة ، وبوسائل القهر والاغراء بالمال ، ولا شكّ أن هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الاَربعة التي نقلدها الآن لبقي لها جمهور يقلدها أيضاً ، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها ، فنحن إذاً في حلٍ من التقيدبهذه المذاهب الاَربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة ، وفي حل من العود إلىالاِجتهاد في أحكام ديننا لاَن منعه لم يكن إلاّ بطرق القهر ، والاِسلام لا يرضى إلاّ بما يحصل بطريق الرضي والشورى بين المسلمين كما قال تعالى في الآية /82 من سورة الشورى ( و أمرهم شورى بيهم ) .
عبد المتعال الصعيدي ( أحد علماء الأزهر ) ميدان الاجتهاد : ص 14 .
3 ـ منع الاجتهاد هو سر تأخير المسلمين ، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخير المسلمون بقدر ما تقدم العالم ، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغير ويبدل ، لأنه لاعتبارات سياسية منع الولاء والسلاطين الاجتهاد حتى يحفظوا ملكهم ، ويطمئنوا إلى أنه لن يعارضهم معارض ، وإذا ما عارضهم أحد ـ لأنه لاتخلو أمة من الاُمم إلاّ وفيها المصلح النزيه ، والزعيم الذى لا يخشى في الحق لومة لائم ـ فلن يسمع قوله لأن باب الإجتهاد قد اُغلق ، والزعيم الذي لايخشى في الحق لومة لائم ـ فلن يسمع قوله لأن باب الإجتهاد قد اُغلق ، لهذا جمد التشريع الإسلامي الآن ، وما التشريع إلاّ روح الجماعة وحياة الأمة ... الخ .
4 ـ كم بين دفتي التاريخ من أحزاب سياسية استحالت إلى مذاهب دينية ، رب مغفل أرعن يحقد على أخيه لاختلاف مذهبيهما اختلافاً في الفروغ منشؤه الاجتهاد ، ولا يذكر أن كلمة التوحيد التي تجمعه وأخاه على خطر عظيم ، وأن حقده هذا يزيده خطراً ، الاجتهاد مجلبة اليسر ، واليسر من أكبر مقاصد الشارع وأبدع حكم التشريع ، بالأجتهاد يتلاطم موج الرأي فينفذ جوهر الحقيقة على الساحل ، الحوادث لا تتناهى والعصور محدثات ، فاذا جمدنا على ما قيل فما حيلتنا فيما يعرض من ذاك القبيل ؟ سد باب الإجتهاد اجتهاد ، فقل للقائل به : إنك قائل غير ما تفعل ؟!
العلامة العبيدي ، النواة في حقل الحياة : ص 136
راجع : الامام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة لأسد حيدر ج 1ص 178 ـ 180 .
(2) سورة آل عمران : الآية 85 .
(3) وسائل الشيعة للعاملي : ج 18 ص 94 ح 20 (ب 10 من أبواب صفات القاضي) ، بحار الاَنوار : ج 2 ص 88 ح 12 .
(4) لا يخفى على من تأمل في نشأة المذاهب الاسلامية انها كانت كثيرة جداً ، ولم تكن محدودة بمذهب دون آخر ، إلاّ انها انقرضت ولم يبق منها إلاّ أربعة فقط ، وهذا لا يعني ـ كما عند بعضهم ـ أنّها أفضل المذاهب وأجودها ، إذ أن هناك من علماء السلف أفضل بكثير من أصحاب هذه المذاهب الاَربعة ، إلاّ أنّهم لم يقدر لهم البقاء ، ولم تحالفهم الظروف كما حالفت هؤلاء الاَربعة ، والتي قضت باقتصار الفُتيا واستنباط الاَحكام الشرعية عليهم فقط لا على غيرهم ، فذاع صيتهم في الاَقطار واشتهرت مذاهبهم في الاَمصار ، حتى ألفها الناس فربى عليها الصغير وشاب عليها الكبير ، ودرج الناس على ذلك في كل عهد حتى اعتبروا الخروج عنها أمراً غير مستساغ ، مع أن هذا الشيء لم يحكم به حتى فقهاء المذاهب أنفسهم ، فقد قال مالك بن أنس : إنما أنا بشر اُصيب واُخطىء ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة وقال أبو حنيفة : هذا رأيي ، وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأيٍ غير هذا قبلناه ، حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي . وقال الشافعي : إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، وقال أحمد بن حنبل : من ضيق علم الرجال أن يقلدوا الرجال ، لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا ، وقيل له : لم لا تضع لاَصحابك كتاباً في الفقه ؟ قال : ألاَحدٍ كلام مع الله ورسوله ؟ وقال محي الدين بن العربي : لا يجوز ترك آية أو خبر صحيح لقول صاحب أو إمام ومن يفعل ذلك فقد ضلّ ضلالاً مبيناً وخرج عن دين الله .
وبعد هذا كلّه تعرف أنهم لم يقسروا أحداً على تقليد مذهب معين أو عالم بعينه بدون النظر إلى الكتاب والسنة حتى جاء الخلفاء والولاة فلم يسمحوا لاَحدٍ مهما بلغ أمره ودرجته في العلم أن يتخطى أو يتجاوز هذا المربع الذي قُضي أن يكون كتاباً مفروضاً ، يقول أحمد أمين المصري : كان للحكومات دخل كبير في نصرة مذهب أهل السنة ، والحكومات عادة إذا كانت قوية ، وأيدت مذهباً من المذاهب تبعه الناس بالتقليد ، وظل سنداً إلى أن تدول الدولة. (ظهر الاسلام : ج 4 ص 96) .
وقال الشعراني : لم يبلغنا أن أحداً من السلف أمر أحداً أن يتقيّد بمذهب معين ، ولو وقع ذلك منهم لوقعوا في الاِثم ، لتفويتهم العمل بكل حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده ، والشريعة حقيقة إنّما هي مجموع ما بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد مجتهد واحد ، ومن أين جاء الوجوب والاَئمّة كلهم قد تبرأوا من الاَمر باتباعهم ، وقالوا : إذا بلغكم حديث فاعملوا به واضربوا بكلامنا الحائط .
أقول : وأين هؤلاء من الذين نصّ القرآن على عصمتهم ، وجعلهم النبي صلى الله عليه وآله عدل الكتاب ، وقال عنهم : أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى ، وقال صلى الله عليه وآله : النجوم أمان لاَهل الاَرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس (انظر الصواعق المحرقة : ص 152).
وقال عنهم أيضاً صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن تبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ـ وزاد الطبراني ـ إني سألت ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم (انظر الصواعق : ص 150 ، والمعجم الكبير للطبراني : ج 5 ص 186 ح 4971 ط الدار العربية بغداد) فبعد هذه النصوص وغيرها الكثير هل ترى مسوغاً لترك مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي رسمه النبي صلى الله عليه وآله وتقديم غيرهم عليهم ، وعدم الاعتبار حتى لرواياتهم وأحاديثهم وما عليك فقط إلاّ الرجوع إلى كتب الصحاح لتعرف مدى حرمان هذه الاُمّة من الاستفادة ممّن نزل الكتاب في بيوتهم وحوته صدورهم ، ولذا أخذنا معالم ديننا من آل محمد صلى الله عليه وآله الذين أوجب حقهم على الاُمّة ، وفرض مودتهم عليها ، وأردفهم بعد النبي صلى الله عليه وآله حتى في الصلاة عليه في الصلاة المفترضة ، وإلاّ كانت باطلة لو تعمد أحدٌ إغفالهم ، فهل يا تُرى لمن يتركهم حجّة يوم القيامة ؟ ! ومن أراد التوسع في معرفة أسباب نشأة المذاهب وشيوعها فليراجع :
1 ـ كتاب الاِمام الصادق عليه السلام والمذاهب الاَربعة للشيخ أسد حيدر : ج 1 ص 149 الخ .
2 ـ بحوث مع أهل السنّة والسلفية للسيد مهدي الروحاني : ص 207 ـ 209 .
(5) لتقف على المزيد من ملابسات هذا الموضوع راجع : كتاب الاِمام الصادق عليه السلام والمذاهب الاَربعة للشيخ أسد حيدر : ج 1 ص 170 ـ 175 تحت عنوان : (السلطة وانتشار المذاهب).
(6) تقدمت تخريجاته .
(7) تقدمت تخريجاته .
(8) تقدمت تخريجاته .
(9) الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 151 (عند ذكره الآية الرابعة من الآيات الواردة فيهم(عليهم السلام)) .
(10) روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ج 13 هذه المقالة عن عدة أشخاص ، منهم :
1 ـ مالك ، قال : ما ولد في الاِسلام مولود أضر على أهل الاِسلام من أبي حنيفة (ص 415 و 422) .
2 ـ سفيان الثوري لما جاءه نعي أبي حنيفة قال : الحمدلله الذي أراح المسلمين منه ، لقد كان ينقض عرى الاِسلام عروة عروة ، ما ولد في الاِسلام مولود أشأم على أهل الاِسلام منه. (ص 418 ـ 419) .
3 ـ الاَوزاعي ، قال : ما ولد في الاِسلام أضر على الاِسلام من أبي حنيفة (ص 419) .
4 ـ الشافعي ، قال : ما ولد في الاِسلام مولود شر عليهم من أبي حنيفة (ص 419) وغيرهم كما في نفس المصدر إلى صفحة : 420 .
(11) تاريخ بغداد للخطيب : ج 13 ص 437 .
(12) المنخول من تعليقات الاَصول للغزالي : ص 500 .
(13) نفس المصدر : ص 503 .
(14) راجع : نفس المصدر : ص 471 .
(15) ربيع الاَبرار للزمخشري : ج 3 ص 197 ، المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك لابن الجوزي : ج 8 ص 137 .
(16) المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك لابن الجوزي : ج 8 ص 134 ، تاريخ بغداد للخطيب : ج13 ص 407.
(17) راجع : المنتظم : ج 8 ص 131 ـ 132 .
(18) تقدّمت تخريجاته .
(19) ليالي بيشاور لسلطان الواعظين : ج 1 ص 228 ـ 239 .
التعلیقات