مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية وآخر من أهل العلم
في الإمامة
منذ 14 سنةقال ابن طاووس في وصاياه لولده :
وحضر عندي ـ يا ولدي محمد رعاك الله جلّ جلاله بعنايته الالهية ـ بعض الزيدية وقد قال : لي إن جماعة من الامامية يريدون مني الرجوع عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الامر بما يثبت في عقلي.
قلت له : أول ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية ، وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف.
هل يقبل عقلُ عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولاً أفضل من الاولين والاخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب ويصدّقه بالمعجزات القاهرة والايات الباهرة ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الاسلام والمسلمين على ظن ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.
فقال : كيف هذا ؟
فقلت : لانكم إذا بنيتم أمر الامامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على الاختيار من الامة للامام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته وليس معكم في الاختيار له إلاّ غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا الله جل جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) (1) ، فلما كشف لهم حال آدم ـ عليه السلام ـ رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم ، وقالوا : ( سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا ) (2) ، وكما جرى لادم الاكل من الشجرة ، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلاً من خيار قومه للميقات ، ثم قال عنهم بعد ذلك : ( أتهلكُنا بما فعل السفهاءُ منا ) (3) ، حيث قالوا : ( أَرنا الله جهرةً ) (4).
وكما جرى ليعقوب ـ عليه السلام ـ في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف ، وغيره من اختيار الانبياء والاوصياء والاولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك الآراء ، فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والاجماع من المسلمين فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا أمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.
وهل يقبل عقل عاقلُ وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لامر لا يعرفونه حجة على من حضر وعلى من لم يحضر ، أما هذا من الغلط المستنكر ؟
ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر وتدبير البلاد وعمارة الارضين والاصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه ، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه.
ومما يقال لهم : إن هؤلاء الذين يختارون الامام للمسلمين مَن الذي يختارهم لهم لتعيين الامام ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الامام مختلفة ، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى يختاروا عندها الامام وكم يكون عددهم وهل يكونون من بلد واحد أو من بلاد متفرقة ، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للامام أن يسافروا إلى البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للامامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الامام للمسلمين فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الاسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء الاسلام أفلا ترى تعذّر ما ادّعوه من اختيار الامام ؟!
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم الكلام.
فقال : إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.
فقلت له : هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم فكيف تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير الله جل جلاله في عباده وبلاده والاقدام بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة الشريفة ونقل تدبيرها عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف ومن جعل لهم ولاية على كل من في الدنيا والدين وما حضروا معهم في اختيار الامام ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من سائر بلاد الاسلام ومن وليهم عليَّ وأنا غافل بعيد عنهم حتى يختاروا لي بظنهم الضعيف إماما ما وكلتهم فيه ولا أرضى أبدا بالاختيار منهم فهل هذا إلا ظلم هائل وجور شامل من غير رضى من يدعي وكالته ونيابة ما استنابه فيها من غير رضى من يدعي نيابته ؟!
ثم قلت لهم : أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أول مرة لما أظهر العدل واجتمعتم عليه فلما تمكن منكم قتلكم وأخذ أموالكم وقد رأيتم ورأينا وسمعتم وسمعنا من اختيار الملوك والخلفاء والاطلاع على الغلط في الاختيار لهم وقتلهم وعزلهم وفساد تلك الآراء.
وقلت لهم : أنتم تعلمون أنه يمكن أن يكون عند وقت اختياركم لواحد من ولد فاطمة ـ عليها السلام ـ غير معصوم ولا منصوص عليه أن يكون في ذلك البلد وغيره من هو مثله أو أرجح منه ولا تعرفونه فكيف تبايعون رجلاً وتقتلون أنفسكم بين يديه ولعل غيره أرجح منه وأقوم بما تريدون.
وقلت له : أنتم يا بني الحسن لعل ما منعكم من القول بإمامة أئمة بني الحسين إلا أنكم ولد الامام الاكبر ولعلكم أبيتم أن تكونوا تبعا لولد الامام الاصغر وما أراكم خلصتم من هذا العار لانكم قلدتم زيدا وهو حسني فنسبتم مذهبكم إليه وفي بني الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ من هو أفضل منه ، قبله كان عبدالله بن الحسن وولداه والباقر والصادق ـ عليهما السلام ـ ما يقصرون عنه ، ثم إنكم ما وجدتم له فقها أو مذهبا يقوم بالشريعة فتمَّمتم مذهبكم بمذهب أبي حنيفة وأبو حنيفة من العوام والغلمان لجدّكم ولكم ، فإذا رضيتم إماما زيديا وهو حسني مرقع مذهبه بمذهب أبي حنيفة فأنا أدلكم على الباقر والصادق وغيرهما ـ عليهم السلام ـ من بني الحسين ـ عليه السلام ـ من غير مرقعين وعلومهم كافية في أمور الدنيا والدين.
ثم قلت له : الناس يعرفون أنا كنا معشر بني هاشم رؤساء في الجاهلية والاسلام وما كنا أبدا تبعا ولا أذنابا للعوام ، فلما بُعث محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وشرفنا بنبوته وشريعته نصير تبعا لغلمانه وللعوام من أمته وتعجز عناية الله جل جلاله به أن يكون لنا رئيسٌ منا أي مصيبة حملتكم على ذلك وفينا من لا يحسن أبو حنيفة يجلس بين يديه ويحتاج أبو حنيفة وغيره من العلماء أن يقرؤا عليه فعرف الزيدي الحق ورجع عن مذهبه في الحال ، وقد اختصرت في المقال (5).
____________
(1) سورة البقرة : الاية 30.
(2) سورة البقرة : الاية 32.
(3) سورة الاعراف : الاية 150.
(4) سورة النساء : الاية 153.
(5) كشف المحجة لابن طاووس : ص82 ـ 86.
التعلیقات