سرّ عظمة الإمام الحسين عليه السلام
السيّد محمّد تقي المدرّسى
منذ 9 سنواتسرّ عظمة الإمام الحسين عليه السلام
ترى لماذا كتب الله عزّ وجلّ عن يمين العرش بأنّ الحسين « مصباح هدى وسفينة نجاة » (1) ، وكيف جعل السبط الشهيد بمثابة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ، ولماذا هذه الكرامة البالغة لشخص أبي عبد الله الحسين عليه السلام عند الله وانّه ـ كما جاء في الحديث ـ : « إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض » (2) أي انّ أهل السماء أعرف بالحسين وكرامته من أهل الارض مع انّنا نجد انّ كرامته عند أهل الارض ليست بالقليلة ؟
في كلّ عام يحلّ علينا موسم محرّم ، موسم الحزن الثائر ، فنجد الدنيا وكأنها قد انقلبت ؛ فالشوارع تتجلّل بالسواد ، والناس يفرضون على أنفسهم لباس الحزن ، والاذاعات ومحطات التلفاز تبث برامج خاصة بهذه المناسبة. فهذا الموسم هو نسمة جديدة تهب على قلوب العالمين ليس في المناطق التي يسكنها أتباع أهل البيت عليهم السلام فحسب وانّما في سائر مناطق العالم. فلماذا أعطى الله سبحانه هذه الكرامة لأبي عبد الله الحسين عليه السلام ؟
نظرات في عظمة الإمام الحسين
البعض من الناس عندما يقفون إزاء عظمة عاشوراء ، وملحمة كربلاء ، فانّهم يعبّرون عن اعجابهم بالحسين عليه السلام وبتلك الثورة الناهضة التي ما تزال حيّة في أفئدة الجماهير. فهم يقدّرونه عليه السلام لانّه كان حرّاً لم تستعبده السلطة ، ولانّه دافع عن حريّته ، ودعا الناس إلى التحرر. كلّ ذلك صحيح ولكنّه ليس كلّ القضيّة بل هو جزء بسيط منها. فالأحرار كثيرون ، وكثير من الناس عاشوا وماتوا أحراراً ، في حين انّنا لا نقدّسهم ولا نقدّرهم كما نقدّس ونقدّر أبا عبد الله الحسين عليه السلام.
والبعض الآخر يرى انّه عليه السلام ناضل وجاهد من أجل إقامة حكم الله في الأرض ، وثار من أجل إقامة العدل ، وإحياء الدين ، وبثّ روح القيم القرآنيّة في الأمّة. وهذا صحيح أيضاً ، ولكنّه ـ هو الآخر ـ لا يمثل كلّ القضيّة ، فكثيرون هم اولئك الذين ثاروا من أجل إقامة حكم الله تعالى ، وقتلوا في هذا الطريق ، والبعض منهم استطاع ان يحقّق هدفه فأقام حكم الله في قطعة معينة من الأرض.
والبعض الآخر يرى انّ سرّ بقاء ملحمة كربلاء في انّها كانت ملحمة مأساويّة لم ولن تقع في التاريخ ملحمة أشدّ فظاعة وايلاماً وحزناً منها ، حتّى مضى هذا المثل في التاريخ : « لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ». فيوم الحسين عليه السلام أعظم من كلّ يوم ، فقد اقرح الجفون ، واسبل الدموع ، ولكن ليس هذا هو سرّ عظمة أبي عبد الله عليه السلام ، فالمآسي في التاريخ كثيرة ، والذين قتلوا ، ودمّروا ، وقتلت عوائلهم كثيرون من مثل الحسين شهيد فخ ، وزيد بن علي الذين تعرّضوا للابادة هم وعوائلهم بشكل فظيع ، ومع ذلك فانّنا لا نجد كلّ الناس يهتمون بهذه الاحداث بل لعلّ أكثرهم لا يعرفون عنها شيئاً.
الخلوص والصفاء
وبناءً على ذلك فان عظمة الحسين عليه السلام لا تكمن فقط في انّ شخصيّتهُ كانت شخصيّةً ثائرة حرّة ، أو لأنّها تعرضت للابادة بشكل فظيع. إذن ؛ فما هو سرّ هذه العظمة ؟
للإجابة على هذا السؤال نقول : لابد ان نعلم بأنّ الله سبحانه هـو خالق الكون ومليك السماوات والأرض ، وبيده الأمر ، وانّه يرفع من يشاء ويضع من يشاء ، وان من تمسّك بحبله رفعه ، ومن ترك حبله وضعه.
ومن المعلوم انّ الحسين عليه السلام تمسك بحبل الله فرفعه ، واخلص العمل له فأخلص الله له ودّ المؤمنين ، وجعل له في قلب كلّ مسلم حرارة. وقديماً عندما خلق الله تقدّست أسماؤه آدم واسكنه الجنّة ، رأى آدم ما رأى حول العرش من الأنوار ، ثمّ علّمه جبرائيل تلك الأسماء والكلمات ، ونطق بها ، واقسم على الله عزّ وجلّ بتلك الكلمات والأنوار الخمسة ، … « فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه ، وقال : يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي ؟ قال جبرئيل : ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب ، فقال : يا أخي وما هي ؟ قال : يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصرٌ ولا معين … فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى » (3).
وهكذا فانّ قيمة الإمام عليه السلام تكمن في انّه كان مخلصاً صفياً ، فهو عليه السلام لو كان يمتلك ألف ابن مثل عليّ الاكبر وكان عليه ان يضحّي بهم في لحظة واحدة لما تردّد في فعل ذلك لانّه جرّد نفسه عن اهوائه ، رغم انّه عليه السلام كان يحب عليّ الاكبر حبّاً لا حدّ له ، حبّاً لا يمكن ان يضمره أيّ ابٍ لابنه ، لأنّ علياً الأكبر كان أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله خَلقاً وخُلقاً ، ومع ذلك فان حبّ الحسين عليه السلام لله تعالى كان أشدّ كما يقول سبحانه: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِله ) [ البقرة / 165 ].
ونحن إذا رأينا اليوم انّ الناس يقدّرون أبا عبد الله ، وإذا رأيناهم يحملون إلينا في كلّ شهر محرّم موسماً جديداً وميموناً من ذكراه عليه السلام فلأن ثورته كانت ثورة ربانيّة ، ولانّه كان أباً للأحرار ، وثائراً من أجل الدين ، وكان يريد إقامة حكم الله في الأرض ، ومع كلّ ذلك فان هذه المزايا تعّد أموراً ثانوية. فالإمام الحسين عليه السلام عندما وقف في عرفة وقرأ ذلك الدعاء الخالد الذي هو بحقّ كنز من كنوز الرحمة ، وموسوعة توحيديّة كبرى ، فانّه قد جسّد فقرات هذا الدعاء في كربلاء. فهو عندما قال وهو متوجّه إلى الله جل جلاله : « إلهي ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك » (4) ؟ فانّه كان يرى انّ كلّ شيء في الوجود ، وكلّ القيم متمثلة في حبّ الله ومعرفته ، وقد جسّد عليه السلام كلّ ذلك في كربلاء كلّما كان يفقد عزيزاً ، أو ابناً ، أو أخاً من أعزّ الاخوان عليه.
فعلى سبيل المثال فانّ أبناء واخوان وأصحاب الامام الحسين عليه السلام الذين ضرّجوا بدمائهم في كربلاء كان كلّ واحد منهم يمثل نجماً في أفق التوحيد ، فقد كان بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام أصحاباً للنبي صلّى الله عليه وآله من مثل حبيب بن مظاهر الذي اوتي علم المنايا والبلايا ، ومن مثل مسلم بن عوسجة الذي كان فقيهاً وعالماً من العلماء العظام ، ولقد قتل هؤلاء الواحد تلو الآخر ومع ذلك فان وجه أبي عبد الله عليه السلام كان يزداد اشراقاً رغم انّ قلبه كان يتفطّر ألماً عليهم.
وبعد ان أكمل عليه السلام مهمّته قبض قبضة من تراب كربلاء ، ووضع جبهته الشريفة عليه وقال : « صبراً على قضائك يا ربّ لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك .. » (5).
وفي الحقيقة فان ما نعطيه ويعطيه العاملون لتجديد ذكرى أبي عبد الله لو وضع في كفة ، ووضعت كلمة الحسين هذه في تلك اللحظة ، وفي ذلك الموقف في كفة اخرى لرجحت كلمة الحسين على أعمالنا جميعاً. فلقد اعطى عليه السلام كلّ ما يملك في سبيل الله حتّى الطفل الرضيع ، وعائلته التي وضعها في بحر من الأعداء الشرسين المتوحشين ، ومع كلّ ذلك فقد قال : « صبراً على قضائك يا ربّ لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك .. ».
وهكذا فان الذي جعل ذكرى الحسين عليه السلام خالدة ، هو انّ ما كان لله يبقى ، والإمام الحسين عمل مخلصاً لوجه الله. ونحن إذا أردنا ان نرضي الخالق تبارك وتعالى ، والحسين ، وجدّه وامّه وأباه وأخاه ، والأئمّة من ولده فلابد أن نخلص أعمالنا لوجه الله ، وان نفعل كل ما يمكننا من أجل ان نخلّد ونجدّد ذكرى الثورة الحسينيّة حتّى من خلال التظاهر بالعزاء ، والبكاء عليه بصوت عال بحيث يسمعنا الآخرون.
مأساة تستدر الدموع
وفي هذا المجال روى لي أحد الخطباء قصّة طريفة يقول فيها : كنّا نقيم مجالس العزاء على الحسين عليه السلام في بلد أجنبي في صالة نستأجرها كلّ عام ، فسألني أحد الأشخاص المسيحيين قائلاً : انّكم تأتون إلى هذه الصالة ، وتستأجرونها سنويّاً لتبكوا ، في حين انّ الآخرين يستأجرونها لإقامة مجالس الأعراس والأفراح ، فلماذا تفعلون ذلك ؟. فقلت له : لأنّنا في عزاء ، فقال: عزاء من ؟ فقلت : عزاء سيّدنا وإمامنا وقائدنا. فقال لي : متى أصيب وكيف ؟ فقلت : قبل ألف وأربعمائة عام. فتعجّب من ذلك ، وأصابته الدهشة لأنّنا مازلنا نبكي على رجل مات قبل مئات السنين. فقلت له : إنّ مقتله لم يكن عادياً ، فلقد قتل مظلوماً وبشكل مأساوي بعد أن دعاه الناس ، ووعدوه بالنصرة ، فإذا بهم يخذلونه ، ويسلّمونه للأعداء ، ويحيطون به في صحراء قاحلة حيث لا ماء ولا طعام ، وحتى طفله الرضيع لم يسقوه شربة من الماء بل رموه بدلاً من ذلك بسهم قاتل !
يقول الخطيب : وبعد ان شرحت للرجل المسيحي سبب بكائنا على الإمام الحسين عليه السلام إذا به يجهش بالبكاء ، وتتقاطر دموعه ، ويظهر تعاطفه معنا ، ثمّ طلب منّا ان نسمح له بأن يشاركنا في العزاء على أبي عبد الله عليه السلام.
وهكذا فانّ سر خلود الثورة الحسينيّة يكمن في انّها كانت ثورة ربانيّة خالصة لوجه الله الكريم ، وانّها كانت من الأحداث التي قدّر الله لها ان تحدث منذ الأزل. فقد كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشيئة الالهيّة. وامّا بالنسبة للعوامل الاخرى التي تذكر في تفسير سرّ خلود ثورة الإمام الحسين عليه السلام فهي أسباب ثانويّة تتفرّع من السبب الرئيسي الذي ذكرناه.
الهوامش
1. بحار الأنوار ، ج 91 ، ص 184 ، ح 1.
2. المصدر.
3. بحار الأنوار ، ج 44 ، ص 245.
4. مفاتيح الجنان ، دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة ، ص 273.
5.مقتل المقرّم ، 357.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الحسين عليه السلام قدوة الصديقين ] / الصفحة : 111 ـ 116
التعلیقات