حول العنف والرفق في الإسلام
السيّد علي الحائري
منذ 13 سنةالسؤال :
من المقرر في خصائص الشريعة الإسلاميّة أنّها شريعة سمحاء ميسّرة ، وأنّ اليسر ورفع الحرج أحد مقاصدها الكبرى ، لكن الواقع غير ذلك ، فتكاد تشيع ثقافة العنف ، يكون العنف سيّد الأحكام وسيّد المواقف كذلك ، سواء باللفظ أو بالكلمة أو بالسلوك ونحوه ، إننا نجهد حياتنا بالعنف سواء في حياتنا الاجتماعيّة أو العائليّة أو السياسيّة أو الدينيّة.
فكيف نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع الأخوة الإيمانيّة والصداقة والمحبّة والرفق ؟
الجواب :
نعم إنّ من خصائص الشريعة الإسلاميّة أنّها سمحة سهلة ، فيها اليسر وليس فيها العسر والحرج والضرر :
قال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185 ].
وقال تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ الحج : 78 ].
وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».
إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ هذه الشريعة لم تشرّع العنف في الموضع الذي ينبغي فيه تشريع العنف ، وذلك إنطلاقاً من اليسر والرفق نفسه ، فالرفق بالمجتمع يتطلّب أحياناً اتّخاذ موقف عنيف من الفرد فيما إذا كان هذا الفرد يهدّد من خلال عمله أمن المجتمع من الناحية الاقتصاديّة أو الأخلاقيّة أو السياسيّة أو غيرها.
فالقتل عمل يهدّد أمن المجتمع بلا إشكال ، والرفق بالمجتمع يتطلّب اتّخاذ العنف تجاه القاتل ، قال تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) [ البقرة : 179 ].
والزنا عمل يهدّد أمن المجتمع من الناحية الأخلاقيّة ، فينبغي للشريعة التي تريد اليسر بالمجتمع والرفق وعدم الضرر أن تشرّع التشريع المناسب ، وأن تتّخذ موقفاً عنيفاً تجاه الزاني والزانية ، قال الله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ النور : 2 ].
واتّهام المرأة المحصنة بالزنا عمل يهدّد كذلك الأمن الأخلاقي والعائلي بلا إشكال ، فلا يصحّ للشريعة السمحة التي تريد بالمجتمع اليسر ، وعدم الاحراج والاضرار أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مثل هذا العمل ، وأن تترك السبيل لكلّ شخص في أن يقول ما يحبّ دون أيّ محاسبة ، وأن يقذف هذا وذاك بالزنا ثمّ لا يُثبت ذلك في المحكمة أمام الحاكم العادل ، بل لا بدّ من اتّخاذ العنف بشأنه ، لأنّ هذا العنف بالفرد هو الرفق بالمجتمع بعينه وهو اليسر وعدم الاحراج ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ النور : 4 ].
والسرقة عمل يهدّد الأمن الاقتصادي كذلك ، إذن فهو يطلّب العنف بالسارق تحقيقاً لما تتوخّاه الشريعة من اليسر والرفق الاجتماعي ، قال تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ المائدة : 38 ].
وهكذا يتضحّ لنا أنّ اليسر والرفق وإن كان أحد المقاصد الكبرى في الشريعة ، لكنّ هذا ليس معناه اليسر والرفق بالفرد دائماً حتّى ولو كان على حساب اليسر والرفق بالآخرين.
وعلى هذا الأساس تقوم التشريعات الإسلاميّة في باب الحدود والتعزيرات عموماً.
إذن فيصحّ القول بأنّ العنف ممّا يجب تشريعه أحياناً ، وذلك تحقيقاً لليسر ، لكنّ يبقى لنا أن نؤكّد مرّة أُخرى على أنّ العنف ليس هو سيّد الموقف في التشريع الإسلامي ، وليس هو الأصل في التشريعات والأحكام الإسلاميّة بل هو علاج لحاجة طارئة فهو تشريع استثنائي ، وإن كان ممّا لا بدّ منه ولا غنى للشرعة عنه أبداً.
أمّا أنّنا كيف نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع الأُخوة الإيمانيّة والمحبّة والرفق ؟
فالجواب هو أنّ هذا ممّا لا يتحقّق بالنحو الكامل إلّا في الظرف الذي يطبّق فيه الإسلام بالكامل ، فإنّ الأحكام الإسلاميّة وإن لم تكن ارتباطيّة بالمعنى الأصولي ، بمعنى أن إمتثال كلّ حكم ليس مشروطاً بإمتثال حكم آخر ، لكنّها ارتباطيّة بالمعنى الآخر ، وهو أنّها لا تعطي ثمارها إلّا فيما إذا طبّقت بأجمعها ، فهي رسالة وشريعة ووصفة إلهيّة واحدة لا تتجزأ من هذه الناحية ، فلا تتوقّع من المجتمع الذي لا يطبّق الكثير من تشريعات الإسلام وأحكامه أن يتحوّل إلى المجتمع الذي يتوخّى الإسلام صنعه ، أيّ مجتمع الأُخوة والمحبّة والرفق أنّ هذا التوقّع من قبيل أن نتوقّع في الماء جذوة نار.
والسلام عليكم.
التعلیقات