حبر الأمة في عهد أبي بكر
السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان
منذ 5 سنواتحبر الأمّة في عهد أبي بكر
لا شكّ أنّ ابن عبّاس وهو الّذي عاش أحداث الفترة بين العهدين ـ عهد الرسالة وقد غربت شمسه بالأمس عن اُفق المسلمين فأخلفهم حلك الظلام في عهد أبي بكر الّذي كثر فيه الخصام ـ قد وعى جميع الملابسات الّتي أحاطت بمسألة الخلافة. بدءاً من حديث الرزية ومقولة : « حسبنا كتاب الله » فكانت الصدمة الّتي لم ينسها طيلة حياته ، وكان يعبّر عنها بالرزيّة كلّ الرزيّة ، ويبكي حتّى يبل دمعه الحصباء وقد مرّ بنا تفصيل ذلك. وها هو اليوم في عهد أبي بكر يسمع البيان الخليفي بمنع الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وطرح مقولة مشابهة لما مرّ وهي قولوا : « بيننا وبينكم كتاب الله » ولئن تمّ هذا فيعني الحصار التامّ على السنّة النبويّة في أطار ما يراه الحاكم. فلابدّ من مواجهة لتلك المعضلة ، وهذا ما قام به حبر الأمّة بكلّ جرأة فلنقرأ البيان الخليفي أوّلاً ثمّ نقرأ ما قام به هذا الحبر. وبالتالي استبعاد الحديث الّذي عند أهل البيت.
روى الذهبي في تذكرة الحفاظ فقال : « ومن مراسيل ابن أبي ملكية أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال : إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه ... أهـ » (1).
ثمّ قال الذهبي : فهذا المرسل يدلّك انّ مراد الصدّيق التثبت في الأخبار والتحرّي ، لا سدّ باب الرواية.
ونقول له ولغيره من علماء التبرير : النصّ المنقول لا يحتمل التأويل « فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله » هذا ما قاله أبو بكر للمسلمين بعد وفاة نبيّهم !
فلنقرأ ما قام به ابن عبّاس لردّ عادية الحصار :
فقد أخرج ابن سعد في طبقاته وفي ترجمة ابن عبّاس (2) خبراً بسند قال عنه السلمي : « إسناده صحيح » والخبر عن ابن عبّاس قال : « لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه ـ وآله ـ وسلّم قلت لرجل من الأنصار هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلّم إنّهم اليوم كثير ، فقال : واعجباً لك يا بن عبّاس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ـ وآله ـ وسلّم من فيهم ؟
قال فتركت الرجل ذاك ، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ـ وآله ـ وسلّم عن الحديث ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل (3) فأتوسّد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ من التراب ، فيخرج فيراني فيقول يا بن عمّ رسول الله ما جاء بك إلّا أرسلت إليّ فآتيك.
فأقول : لا أنا أحقّ أن آتيك ، فأسأله عن الحديث.
فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتّى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني ، فيقول : هذا الفتى كان أعقل منّي » (4).
وهذا الخبر قبل التعليق عليه ننبّه القارئ إلى أنّه رواه كلّ من أحمد بن حنبل (5) ، والفسوي (6) ، والحاكم (7) وصحّحه على شرط الشيخين ، وأقره الذهبي في التلخيص ، ورواه الهيثمي (8) وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، والطبراني (9) ، والدارمي (10) ، والذهبي (11). وغيرهم وغيرهم. فهذا الخبر عنه مرويّ لا شكّ فيه.
والآن إلى قراءة متأنية في جملاته لنعرف مغزى ذلك منه :
1 ـ تصريحه بأن بداية نشاطه في طلب الحديث كانت بعدما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا يعني انّه نشط متزامناً مع منع البيان الخليفي من التحديث ، فهل يعني ذلك منه عمليّة تحدٍ وخوف ضياع الحديث لو كمّت الأفواه خوفاً. فنشط لجمع ما يمكنه جمعه ؟ ولم لا يكون ذلك كذلك.
2 ـ محاورته الرجل الأنصاري ليشاركه في طلب الحديث وسماعه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولابدّ أن يكون ذلك الرجل من أسنانه من صغار الصحابة (12) فدعاه لما يحييه فأبى عليه ساخراً ، فلماذا دعاه ؟ ألمجرّد الطلب فحسب ؟ أم أنّه أراده شريكاً في السماع ليكون معه شاهداً على ذلك في المستقبل المجهول وغير المنظور لو دعت الحاجة إلى الإستشهاد به ؟
3 ـ إصراره على المضي في عزمه الّذي لم يثبطه تواني الرجل الأنصاري ولا سخريّته ، فأقبل وحده يستقرىء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّن يبلغه عنه الحديث فيأتي بابه ، ويتوسد رداءه حتّى يخرج إليه ، فهل كانت تلك العمليّة مجرّد طلب حديث عند ذلك الصحابي ، ومجرّد أدب من ابن عبّاس فلم يزعجه ويخرجه بل يتوسد رداءه وتسفي عليه الريح بالتراب ؟ إنّها لسذاجة في التفسير ، واستغفال في التفكير ، فهو وإن نمّ فعله عن أدب جم وتواضع للعلم ، ولكنّه لا يخلو من وسيلة إعلاميّة نقدية للبيان الخليفي المانع من التحديث ، فمن يراه على باب الصحابي بتلك الصفة يثير تساءله ماذا يصنع هنا ؟ ويكون الجواب : لا شكّ إنّه جاء يطلب الحديث عند صاحب الدار ، كيف هذا والخليفة قد جمع الناس ومنعهم من التحديث ! إذن فابن عبّاس وهو في سنّه الفتيّة ، وألمعيته الغنيّة قام بدور مناهض للسلطة من دون أن يثير حوله الشكوك المريبة : وهذا منه عمل يستحقّ الإمعان فيه.
وليس من المرجوّ للباحث في تاريخ تلك الحقبة أن يجد الشيء الكثير ممّا يخصّ عبد الله بن عبّاس حبر الأمّة خصوصاً وهو بعد في سنّ الشباب الفتية وثمة من أهل بيته من هم أكبر سنّاً وأكثر فضلاً وشأناً مثل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومثل أبيه العبّاس بن عبد المطلب الشخصيّة الثانية بعد الإمام المنظور إليه في أسرته. وهم جميعاً من المعارضة الّتي نقمت تولية أبي بكر ولم تبايعه إلّا بعد موت السيّدة فاطمة عليها السلام.
وإذا عرّفنا التاريخ أن ثمة نفثات لبعض بني هاشم أعلنوا فيها سخطهم كما مرّ عن الإمام عليّ عليه السلام وعن العبّاس فليس يعني ذلك أن نجد الكثير لابن عبّاس وهو في سنّه ممّا يظهر شخصيّته ، ويثبت لنا استقلاله وذاتيّته في ذلك ويكفي أنا عرفنا كما سبق أنّه كان من أبناء العبّاس الذين لم يبايعوا إلّا بعد أن بايع أبوهم العبّاس ، وأبوهم العبّاس لم يبايع إلّا بعد أن بايع الإمام عليه السلام ، والإمام لم يبايع إلّا بعد موت الصدّيقة فاطمة عليها السلام ، وبعد أن انصرفت وجوه الناس عنه (13).
إذن ليس من عجب إذا لم نجد لابن عبّاس كثيراً ممّا يخصّه حول تلك الحوادث سوى ما هو معلوم وثابت لسائر أبناء الهاشميّين من إتّباعهم لآبائهم في آرائهم حول الخليفة والخلافة والتي كانت تحظى بتوجيه أو مباركة من الإمام عليه السلام ، وما نجده لغيره من أولئك الأبناء في بعض المواقف ما يظهر ذاتيتهم الشخصيّة المستقلّة ، كما يروى عن موقف لأخيه الفضل بن العبّاس حين خرج إلى المسجد بعد بيعة السقيفة وقال : « يا معشر قريش انّه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم ». فهو لم يكن ليتكلّم لو لم يأذن له الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وكذلك جميع بني هاشم لم يكونوا يتكلّمون إلّا بأمره ، ويسكتون عند نهيه.
وإليك ما يؤكّد ذلك :
فقد روى الزبير بن بكار عن ابن إسحاق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم ابن مرة ، قال : وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال الفضل بن العبّاس : يا معشر قريش وخصوصاً يا بني تيم انّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ونحن أهلها دونكم ، ولو طلبنا هذا الأمر الّذي نحن أهله لكانت كراهيّة الناس أعظم من كراهتهم لغيرنا ، حسداً منهم لنا وحقداً علينا ، وانا لنعلم انّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه.
وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب شعراً :
ما كنت احسب أنّ الأمر منصرف |
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن |
|
أليس أول من صلّى لقبلتكم |
وأعلم الناس بالقرآن والسنن |
|
وأقرب الناس عهداً بالنبيّ ومَن |
جبريل عون له في الغسل والكفن |
|
من فيه ما فيهم لا يمترون به |
وليس في القوم ما فيه من الحَسَن |
|
ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمه |
ها ان ذا غبن من أعظم الغَبَن |
قال الزبير : فبعث إليه عليّ فنهاه وأمره ان لا يعود وقال : سلامة الدين أحبّ إلينا (14).
وروى الزبير أيضاً حديث الفتنة الّتي ألقحها عمرو بن العاص بين المهاجرين والأنصار حين نال من الأنصار في المسجد وأفحش القول ، ثمّ رأى الفضل بن العبّاس فندم على ما قال للخؤولة الّتي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار ، ولأنّ الأنصار كانت تعظم عليّاً وتهتف بإسمه حينئذٍ ، فقال الفضل : يا عمرو انّه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك ، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة ، إلّا أن يأمرنا فنفعل (15).
وروى الزبير أيضاً قال : وقال عليّ للفضل يا فضل انصر الأنصار بلسانك ويدك ، فإنّهم منك وإنّك منهم ، ثم ذكر أشعاراً في مدحهم قالها الفضل ، أعجزت حسان بن ثابت أن يتحرى قوافيه فقال وقد طلبوا منه أن يمدح بني هاشم ردّاً للإحسان : كيف أصنع بجوابه إن لم أتحرّ قوافيه فضحني فرويداً حتّى أقفوا أثره في القوافي (16).
وعلى ضوء هذا النمط من الالتزام ، وعدم جواز الكلام ، إلّا بموافقة من الإمام. يمكننا تفسير ما نجده عن حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من حضور منظور ، ومقام له فيه مقال ، ورأي تستتبعه فعال.
وهذا كما يدلّ على أنّ لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما كانت مواقف مشهودة وان كانت محدودة فهو يدلّ على قوّة شخصيّة ذلك الغلام ، في ثبات جنانه وقوّة إيمانه ، ممّا ميّزه على الكثير ممّن هم أكبر منه سنّاً من سائر الصحابة ، ويكشف عن جرأة في إسماع كلمة الحقّ مع ما أوتي من فهم وعلم.
وهلمّ فأقرأ ما رواه كلّ من ابن دريد (17) ، والمقري الكبير (18) ، والفتوني العاملي (19) ، وابن شاذان (20) ، والديلمي (21) ، والبياضي (22) ، والمجلسي (23) ، وابن بابويه (24) ، والعاصمي (25).
واللفظ للأوّل برواية أنس بن مالك قال : « أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى دخل المسجد فقال : أين وصي رسول الله ؟ فأشار القوم إلى أبي بكر ، فوقف عليه فقال له أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّا نبي أو وصي نبي ؟
قال أبو بكر : سل عمّا بدا لك.
قال اليهودي : أخبرني عمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند الله ، وعمّا لا يعلمه الله.
فقال أبو بكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهودي ، وهمّ أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي.
فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : ما أنصفتم الرجل.
فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلّم به ؟
فقال ابن عبّاس : إن كان عندكم جوابه وإلّا فاذهبوا به إلى عليّ رضي الله عنه يجيبه ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعليّ بن أبي طالب : اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه.
قال : فقام أبو بكر ومن حضره حتّى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه. فقال أبو بكر : يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال عليّ : ما تقول يا يهودي ؟ قال : أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ ، فقال له : قل ، فردّ اليهودي المسائل.
فقال عليّ رضي الله عنه : أمّا ما لا يعلمه الله ، فذلك قولكم يا معشر اليهود : إنّ العزير ابن الله ، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس عند الله ، فليس عنده ظلم للعباد. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس لله فليس له شريك.
فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ عليه السلام : يا مفرّج الكرب».
وممّا يدلّ على نحو ما سبق أيضاً ما أخرجه الشيخ ابن بابويه الصدوق في كتابه الخصال (26) ، والديلمي في الإرشاد (27) واللفظ لهما معاً وباسناد الأوّل عن ابن عبّاس قال : « قدم يهوديّان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة فقالا : يا قوم إنّ نبيّنا حُدّثنا عنه انّه يظهر نبي بتهامة يسفّه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عمّا كان عليه آباؤنا ، فأيّكم هذا النبيّ ؟ فإن يكن الّذي بشّر به داود آمنّا به وأتبعناه ، وإن لم يكن وكان يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر ، ويقهرنا بلسانه ، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا ، فأيكم هذا النبيّ ؟
فقال المهاجرون والأنصار : إنّ نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قبض.
فقالا : الحمد لله ، فأيّكم وصيّه ؟ فما بعث عزّ وجلّ نبيّاً إلى قوم إلّا وله وصيّ يؤدّي عنه من بعده ، ويحكي عنه ما أمره ربّه.
فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر فقالوا : هو وصيّه.
فقالا لأبي بكر : إنّا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء ، ونسألك عمّا تسأل الأوصياء عنه.
فقال لهما أبو بكر : ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله.
فقال أحدهما : ما أنا وأنت عند الله عزّ وجلّ ؟
وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟
وما قبر سار بصاحبه ؟
ومن أين تطلع الشمس وفي أين تغرب ؟
وأين طلعت الشمس ثمّ لم تطلع فيه بعد ذلك ؟
وأين تكون الجنّة ؟
وأين تكون النار ؟
وربّك يَحمل أو يُحمل ؟
وأين يكون وجه ربّك ؟
وما اثنان شاهدان ؟
وما اثنان غائبان ؟
وما اثنان متباغضان ؟
وما الواحد ؟ وما الاثنان ؟ وما الثلاثة ؟ وما الأربعة ؟ وما الخمسة ؟ وما الستّة ؟ وما السبعة ؟ وما الثمانية ؟ وما التسعة ؟ وما العشرة ؟ وما الأحد عشر ؟ وما الاثنا عشر ؟ وما العشرون ؟ وما الثلاثون ؟ وما الأربعون ؟ وما الخمسون ؟ وما الستّون ؟ وما الستّون ؟ وما السبعون ؟ وما الثمانون ؟ وما التسعون ؟ وما المائة ؟
قال ابن عبّاس : فبقى أبو بكر لا يرد جواباً ، فتخوّفنا أن يرتد القوم عن الإسلام ، فأتيت منزل عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، فقلت له : يا عليّ أن رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبي بكر مسائل فبقي أبو بكر لا يردّ جواباً. فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً ، ثمّ قال : هو اليوم الّذي وعدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأقبل يمشي أمامي وما أخطأت مشيتُه من مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئأ حتّى قعد في الموضع الّذي كان يقعد فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمّ التفت إلى اليهوديّين فقال : يا يهوديّان أدنوا منّي وألقيا عليَّ ما ألقيتماه على الشيخ.
فقالا : ومن أنت ؟ فقال لهما : أنا عليّ ابن أبي طالب بن عبد المطلب أخو النبيّ وزوج ابنته فاطمة وأبو الحسن والحسين ، ووصيّه في حالاته كلّها ، وصاحب كلّ منقبة وعزّ ، وموضع سرّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقال له أحد اليهوديّين : ما أنا وأنت عند الله ؟
قال : أنا مؤمن منذ عرفتُ نفسي ، وأنت كافر منذ عرفتَ نفسك ، فما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك.
فقال اليهودي : فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟
قال : ذاك يونس عليه السلام في بطن الحوت.
قال : فما قبر سار بصاحبه ؟
قال : يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر.
قال له : فالشمس من أين تطلع ؟
قال : من بين قرني الشيطان.
قال : فأين تغرب ؟
قال : في عين حمئة ، وقال لي حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم « لا تصل في إقبالها ولا في إدبارها حتّى تصير مقدار رمح أو رمحين ».
قال : فأين طلعت الشمس لم تطلع في ذلك الموضع ؟
قال : في البحر حين فلقه الله تعالى لبني اسرائيل لقوم موسى عليه السلام.
قال : فربّك يَحمل ؟ أو يُحمل ؟
قال : إنّ ربّي عزّ وجل يحمل كلّ شيء بقدرته ولا يحمله شيء.
قال : فكيف قوله عزّ وجلّ ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) (28) ؟
قال : يا يهودي ألم تعلم أنّ لله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، فكلّ شيء على الثرى ، والثرى على القدرة ، والقدرة تحمل كلّ شيء.
قال : فأين تكون الجنّة ؟ وأين تكون النار ؟
قال : أمّا الجنّة ففي السماء وأمّا النار ففي الأرض.
قال : فأين يكون وجه ربّك ؟
فقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لي : يا بن عبّاس إئتني بنار وحطب ، فأتيته بنار وحطب فأضرمهما ثمّ قال : يا يهودي أين يكون وجه هذه النار ؟
قال : لا أقف لها على وجه.
قال : فان ربّي عزّ وجلّ عن هذا المثل ، وله المشرق والمغرب ، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله.
فقال له : ما اثنان شاهدان ؟
قال : السماوات والأرض لا يغيبان ساعة.
قال : فما اثنان غائبان ؟
قال : الموت والحياة لا يوقف عليهما.
قال : فما اثنان متباغضان ؟
قال : الليل والنهار.
قال : فما الواحد ؟
قال : الله عزّ وجلّ.
قال : فما الاثنان ؟
قال : آدم وحواء.
قال : فما الثلاثة ؟
قال : كذبت النصارى على الله عزّ وجلّ فقالوا : ( ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) (29) عيسى ابن مريم ابن الله ، والله لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.
قال : فما الأربعة ؟
قال : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.
قال : فما الخمسة ؟
قال : خمس صلوات مفترضات.
قال : فما الستّة ؟
قال : خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش.
قال : فما السبعة ؟
قال : سبعة أبواب النار متطابقات.
قال : فما الثمانية ؟
قال : ثمانية أبواب الجنّة.
قال : فما التسعة ؟
قال : تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
قال : فما العشرة ؟
قال : عشرة أيّام العشر.
قال : فما الأحد عشر ؟
قال : قول يوسف لأبيه ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (30).
قال : فما الاثنا عشر ؟
قال : شهور السنة.
قال : فما العشرون ؟
قال : بيع يوسف بعشرين درهماً.
قال : فما الثلاثون ؟
قال : ثلاثون يوماً شهر رمضان ، وصيامه فرض واجب على كلّ مؤمن إلّا من كان مريضاً أو على سفر.
قال : فما الأربعون ؟
قال : كان ميقات موسى عليه السلام ثلاثون ليلة فأتمّها الله عزّ وجلّ بعشرٍ ، فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة.
قال : فما الخمسون ؟
قال : دعا نوح قومه لبث ألف سنة إلّا خمسين عاماً.
قال : فما الستّون ؟
قال : قول الله عزّ وجلّ في كفارة الظهارَ « فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكيناً إذا لم يقدر على صيام شهرين متتابعين ».
قال : فما السبعون ؟
قال : اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه عزّ وجلّ.
قال : فما الثمانين ؟
قال : قرية بالجزيرة يقال لها ثمانون ، منها قعد نوح عليه السلام في السفينة واستوت على الجودي ، وأغرق الله القوم.
قال : فما التسعون ؟
قال : الفلك المشحون اتّخذ نوح عليه السلام تسعين بيتاً للبهائم.
قال : فما المائة ؟
قال : كان أجل داود عليه السلام ستّين سنة فوهب له آدم عليه السلام أربعين عاماً سنة من عمره ، فلمّا حضرت آدم عليه السلام الوفاة جحد ، فجحد ذريّته.
فقال له : يا شاب صف لي محمّداً كأني أنظر إليه ، حتّى أومن به الساعة.
فبكى أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ قال : يا يهودي هيّجت أحزاني ، كان حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدّين ، أقنى الأنف ، دقيق المسربة ، كث اللحية ، برّاق الثنايا ، كأن عنقه ابريق فضّة ، كان له شعيرات من لبتّه إلى سرّته ملفوفة كأنها قضيب كافور ، لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم بنوره وكان إذا مشى كأنّه يتقلع من صخر أو ينحدر من صبب ، كان مدور الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيفه ذوالفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق. وكان عليه السلام أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوّة ، مكتوب على الخاتم سطران : أمّا أوّل سطر فلا إله إلّا الله ، وأمّا الثاني فمحمد رسول الله. هذه صفته يا يهودي.
فقال اليهوديّان : نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وأنّك وصي محمّد حقّاً فأسلما وحسن إسلامهما ولزما أمير المؤمنين عليه السلام فكانا معه حتّى كان من أمر الجمل ما كان فخرجا معه إلى البصرة ، فقتل أحدهما في وقعة الجمل وبقي الآخر حتّى خرج معه إلى صفين فقتل بصفين ... أهـ ».
فظهر لنا بوضوح أنّ حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس كان في فترة حكم أبي بكر ممّن يحضر المسجد مع علية الصحابة ، ويرى ما يحدث ، ويسمع ما يقال ، وربّما شارك عند الحاجة على صغر سنّه في قولٍ كما في الشاهد الأوّل ، أو عمل كما في الشاهد الثاني. ومن خلال ذلك نعرف معنى قوله لابن الزبير بعد ما يقرب من نصف قرن : « والله ما نطقت عند وال قطّ من الولاة أخسّ عندي ولا أصغر حظّاً منك ، قد والله نطقت غلاماً عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعند أبي بكر وهو يتعجّب لتوفيق الله إيّاي ... » (31).
إذن فمن يتكلّم عند أبي بكر فيعجّبه ويتعجّب منه كيف كان نطقه وهو غلام ؟ وعلى ضوء هذا نستطيع أن نحدّد أولى نشاطاته السياسيّة بتلك الفترة. وهذا يدلّ على ما تمتع به من حصافة الرأي وتمام الوعي وتكامل الشخصيّة. ولا يفوتنا أن نشير إلى ما يدلّ على نحو استقلال مكانته بشكل وبآخر. وذلك نحو ما ورد في وصيّة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام عند وفاتها. فقد أوصت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعدّة وصايا ومنها ما يتعلّق بمن يشهد جنازتها ومن لا يشهد. وكان من بين الذين سمّتهم بأن يحضروا هو الحبر عبد الله بن عبّاس كما روى ذلك الطبري الإمامي (32) ، وورد نحو ذلك في ناسخ التواريخ (33).
أمّا عن رأيه الشخصي في أبي بكر وولايته ، فهو وإن لم يفصح عنه في حينه ، إلّا أنّه أفصح عنه بعد ذلك حسب الظروف المؤاتية لذلك. وقد سبق أن قلنا انّه أيّام ولاية أبي بكر كان هو وسائر بني هاشم تبعاً للإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
ولولا استباق ذكر الأحداث الّتي عايشها حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما بعد عهد أبي بكر وأفصح فيها عن رأيه الشخصي في أبي بكر وولايته ، لذكرت الشواهد على ذلك ، ولكن لنا أن نشير إلى بعضها :
1 ـ من ذلك ما جرى بينه وبين عبد الله بن صفوان بن أميّة ، وكان ذلك في أيّام عمر ، فقد سأله ابن صفوان وقال له : كيف ترون ولاية هذا الأحلافي ؟ فقال ابن عبّاس : ولاية صاحبه المطيبي خيراً من ولايته.
وقد أشار كلّ منهما إلى حَدَث مهم من الأحداث قبل الإسلام ، كان فيه تحالف بين بعض بطون قريش ضدّ بعضها الآخر.
وذلك أنّ الرياسة كانت في بني عبد مناف ، والحجابة كانت في بني عبد الدار ، فأراد بنو عبد مناف أن يأخذوا ما لبني عبد الدار ، فحالف بنو عبد الدار بني سهم ليمنعوهم ، فعمدت أمّ حكيم بنت عبد المطلب إلى جفنة فملأتها خلوقاً. وهو الطيب. ووضعتها في الحِجر ، وقالت : من تطيّب بهذا فهو منّا ، فتطيّبت به بنو عبد مناف وأسد وزهرة وتيم ، فسمّوا المطيّبين ، فالمطيبي أبو بكر لأنّه من تيم.
ونحر بنو سهم جزوراً وقالوا : من أدخل يده في دمها فهو منّا ، فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وجمح وعديّ ومخزوم ، وتحالفوا ، فسمّوا الأحلاف ولعقة الدم فالأحلافي هو عمر لأنّه من عدي (34).
فهذا شاهد له دلالته في تفضيل ولاية أبي بكر على ولاية عمر ، بالرغم ممّا كان لابن عبّاس عند عمر من مكانة مرموقة أغضبت بعض شيوخ المهاجرين حتّى قالوا لعمر في ذلك وعاتبوه ، فقال لهم : ذاك فتى الكهول ، له لسان سؤول وقلب عقول. وسيأتي الحديث بتمامه في محلّه.
وما ذكرناه من شاهد على رأيه في تفضيل ولاية أبي بكر على ولاية عمر ، لا يعني بالضرورة أن يكون.
2 ـ رأيه الشخصي في أبي بكر نفسه كذلك. فقد ورد في حديث جرى بينه وبين عائشة بنت أبي بكر بعد أكثر من ربع قرن ، وكان حديثاً موجعاً للطرفين ، حيث نفثت عائشة بما كشف عن دخيلة نفسها أزاء بني هاشم وبغضها حتّى للبلد الّذي هم فيه. وكانت تلك نفثة موجعة لقلب ابن عبّاس فردّ عليها قائلاً : فوالله ماذا بلاءنا عندك ، ولا بصنيعتنا إليك.
إنّا جعلناك للمؤمنين أماً وأنت بنت أمّ رومان ، وجعلنا أباك صدّيقاً وهو ابن أبي قحافة ، فأوجعها ذلك فبكت حتّى سمع نشيجها (35).
3 ـ وله كلام وصف فيه أبا بكر بقوله : كان كالطائر الحذر ، له في كلّ وجه جسد ، وكان يعمل لكلّ يوم بما فيه (36).
وإنّ ما يروى عنه من كلام وصف فيه أبا بكر وعمر وعثمان والإمام وأباه العبّاس. فأحسن الوصف والثناء عليهم فهو على ذمّة الرواة (37).
وهذه الشواهد لا تعني أيضاً بالضرورة أنّه يرى صحّة خلافة الشيخين ، بل أنّه كان يجهر برأيه خصوصاً في أيّام عمر وأيّام معاوية وستأتي محاججاته وفيها الشيء الكثير ما يدلّ على ذلك.
وبحسبي أن أشير إلى فقرة من كلام له طويل جرى بينه وبين معاوية جاء فيه :
4 ـ « أمّا تيم وعدي فقد سلبونا سلطان نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عدوا علينا فظلمونا ، وشفوا صدور أعداء النبوّة منّا » (38).
وستأتي احتجاجاته وفيها الشواهد الكثيرة الكثيرة.
إستخلاف أبي بكر لعمر :
ذكر الطبري (39) باسناده عن محمّد بن إبراهيم بن الحارث قال : « دعا أبو بكر عثمان خالياً فقال : اكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أمّا بعد.
ثمّ أغمي عليه ، فذهب عنه ، فكتب عثمان : أمّا بعد فانّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً منه. ثمّ أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه. فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفتَ أن يختلف الناس إن اُفلِتت نفسي في غشيتي ! قال : نعم ، قال جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله ، وأقرّها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع.
ويدخل عليه جماعة من الصحابة فيهم عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وآخرون. فيقول له ابن عوف أصبحت بارئاً ، فقال أبو بكر : أتراه ؟ قال : نعم ، قال أبو بكر : أما انّي على ذلك لشديد الوجع ، ولما لقيت منكم معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي ، ولّيت أموركم خيركم في نفسي ، فكلّكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ثمّ أنهى كلامه وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالاً ، يا هادي الطريق جرت إنّما هو الفجر أو البجر (39) قال ذلك معرّضاً بمن نقم عهده إلى عمر ، وكان منهم طلحة إذ قال له تستخلف علينا عمر فظّاً غليظاً ، فلو قد ولينا كان أفظ وأغلظ ، فما تقول لربّك إذ لقيته (40).
أمّا عمر فقد كان هو يجلس الناس بجريدته وفي لفظ وبيده عسيب نخل وهو يقول : أيّها الناس اسمعوا واطيعوا لقول خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إنّه يقول لكم إنّي لم آلكم نصحاً.
قال قيس ـ راوي الحديث ـ ومعه مولى لأبي بكر يقال له شديد معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر » (41).
وممّا يثير التساؤل حول موقف عمر عند موت أبي بكر وإجباره الناس على السمع والطاعة وضربهم بالجريدة. وبعسيب النخل على قبول ما جاء في وصيّة أبي بكر من استخلافه ، ولم يرمه بالهجر كما رمى به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند موته ، على أنّ أبا بكر غشي عليه ولم يأمر بكتابة اسم عمر ، وإنّما كتبه عثمان ، ولمّا أفاق أبو بكر وقرأ عليه عثمان أمضى ما كتبه ، وقد رعى عمر له ذلك الجميل فرده حين أحكم له أمره بالشورى.
ثمّ ما بال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تسمع وصيّته عند موته ؟ وتسمع وصيّة أبي بكر ؟
وما بال أبي بكر الّذي أغمي عليه فذهب عنه ، لا يوصف بالهجر وما يشينه ؟
تناقضات في المواقف ، ليس لها جواب عند المؤالف فضلاً عن المخالف.
ثمّ ما بال البيعة الّتي لا تتمّ إلّا بسوق الناس بالجريد يقال عنها تمّت بالإختيار ففي يوم السقيفة كان عمر ومن معه يسوقون الناس بعسيب النخل ، واليوم يسوقهم بجريدته وبعسيب النخل مع ذلك يقال للأجيال إنّها تمّت بالاختيار ، ومهما يكن فقد مات أبو بكر ، وتولّى الأمر بعده عمر بالصورة الّتي رواها المؤرّخون. واستفتح خلافته بخطبة قال فيها : إنّي قائل كلمات فأمنّوا عليهن ، فكان أوّل منطق نطق به حين استخلف قال : إنّما مثل العرب مثل جمل أنِف أتّبع قائده ، فلينظر قائده حيث يقود ، وأمّا أنا فوربّ الكعبة لأحملنّهم على الطريق (43) وهنا موطن الغرابة والعجب. ولقد قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والإعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خَرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض (44).
وخير ما نختم به كلامنا ما صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله : « من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين » (45) ، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم الآخر : « من استعمل عاملاً على المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (46).
الهوامش
1. تذكرة الحفاظ 1 / 2 ـ 3.
2. طبقات ابن سعد 1 / 137 تحـ محمّد حامد السُلمي الطبعة الخامسة.
3. في المعرفة والتاريخ للفسوي 1 / 541 : كان ابن عبّاس يقول لأخ له من الأنصار اذهب بنا إلى أصحابه ... وقائل يعني نائم القيلولة.
4. طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 121 ط ليدن.
5. فضائل الصحابة / رقم 1925.
6. المعرفة والتاريخ 1 / 542.
7. مستدرك الحاكم 3 / 538.
8. مجمع الزوائد 9 / 277.
9. المعجم الكبير 10 / 244 ط الثانية بالموصل.
10. سنن الدارمي 1 / 141.
11. سير أعلام النبلاء 4 / 446.
12. جاء في المعرفة للفسوي 1 / 541 : كان ابن عبّاس يقول لأخ له من الأنصار : اذهب بنا إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ...
13. روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة ـ حديث مطالبة فاطمة الزهراء عليها السلام لأبي بكر بميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إلى أن قالت عائشة : فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته ولم تكلّمه حتّى توفّيت وعاشت بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ستة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلمّا توفّيت أستنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ... وروى ذلك ابن الديبع الشيباني في تيسير الوصول إلى جامع الأصول 2 / 55 عن الشيخين وفيه فقال رجل للزهري فلم يبايعه عليّ ستّة أشهر ؟ فقال : والله ولا أحد من بني هاشم.
14. أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 8 ـ 9.
15. نفس المصدر 2 / 14 ، والموفقيات / 595 ـ 598.
16. نفس المصدر.
17. المجتنى / 35 ط حيدر آباد.
18. نفح الطيب 7 / 212 ط مصر نقلاً عن محاضرات المقري الكبير.
19. ضياء العالمين للفتوني ـ نسخة مصوّرة ـ بمكتبتي.
20. الفضائل / 122 ط حجريّة.
21. إرشاد القلوب 2 / 118 ط النجف.
22. الصراط المستقيم 2 / 14 مط الحيدري بايران.
23. بحار الأنوار 8 / 191 ط الكمباني حجريّة.
24. التوحيد / 385 ط الحجريّة سنة 1321 بسنده عن الإمام الحسين عليه السلام.
25. زين الفتى للعاصمي بمكتبة المرحوم الشيخ الأميني قدّس سرّه.
26. الخصال / 560 باب الواحد إلى المائة ط الحيدريّة.
27. إرشاد القلوب 2 / 119 ط الحيدريّة ط الأولى.
28. الحاقة / 17.
29. المائدة / 73.
30. يوسف / 4.
31. أخبار الدولة العباسيّة / 116 ، وأنساب الأشراف 3 / 199 ـ 200 ط القاهرة وسيأتي الحوار في صفحة احتجاجاته.
32. دلائل الإمامة / 14 ط النجف 124.
33. ناسخ التواريخ 4 / 192 في أحوال الزهراء عليها السلام.
34. راجع بشأن ذلك كتب السيرة لابن هشام وابن كثير والحلبي وزيني دحلان ، ولاحظ الفائق للزمخشري 1 / 145 ط حيدر آباد ، وجمل أنساب الأشراف للبلاذري 1 / 63 تحـ سهيل زكار ورياض زركلي ط بيروت سنة 1417 هـ ، وبلوغ الأرب للألوسي 1 / 248 و 277 ، وأنساب الأشراف 1 / 56 تحـ الدكتور محمّد حميد الله ط ذخائر العرب.
35. ستأتي المحاورة مفصلة بعد ذكر حرب الجمل مع ذكر مصادرها.
36. محاضرات الراغب 2 / 178 ط مصر الأولى.
37. مروّج الذهب للمسعودي 3 / 60 تحـ محمّد محي الدين عبد الحميد وأخبار الدولة العباسية / 69 ـ 72 بتحقيق الدكتورين الدوري والمطلبي.
38. أنظر أخبار الدولة العباسيّة / 49 تحـ الدوري والمطلبي.
39. تاريخ الطبري 3 / 429 تحـ محمّد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعارف ط الثالثة.
40. في بعض الروايات « أو البحر » بالمهملة « الفائق للزمخشري 1 / 45 » ، والبجر : الأمر العظيم ، والمعنى ان انتظرت حتّى يضيء لك الفجر أبصرت الطريق ، وان خبطت الظلماء أفضت بك إلى المكروه.
41. كنز العمال 3 / 146 ، وراجع كتاب الخراج لأبي يوسف وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري 3 / 433 ط دار المعارف والعقد الفريد والزمخشري في الفائق وغيرها من المصادر تجد نحو ذلك نصّاً أو مضموناً.
42. تاريخ الطبري 3 / 429 ، ومناقب عمر لابن الجوزي / 55 ط بيروت.
43. نفس المصدر 3 / 333.
44. نهج البلاغة بشرح محمّد عبده 1 / 25 ـ 26 ط دار الاستقامة.
45. كنز العمال 3 / 192.
46. نفس المصدر 3 / 203.
مقتبس من كتاب : [ موسوعة عبدالله بن عباس ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 45 ـ 66
التعلیقات