مؤسس المذهب الاباضي
الاباظية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 309 ـ 337
________________________________________
مؤسس المذهب الاباضي ودعاته
في العصور الاُولى
________________________________________
1 ـ عبدالله بن اباض، مؤسّس المذهب:
هو عبدالله بن اباض المقاعسي، المري، التميمي ـ من بني مرّة ـ ابن عبيد ابن مقاعس من دعاة الاباضية بل هو مؤسّس المذهب.
قد اشتهرت هذه الفرقة بالاباضية من أوّل يوم، وهذا يدل على أنّه كان لعبدالله بن اباض دور في نشوء هذه الفرقة وازدهارها، وإن كانت الفرقة يطلقون على أنفسهم أسماء اُخرى يشترك فيها سائر المسلمين كأهل الإسلام وأهل الحق أو جماعة المسلمين، وغير ذلك، غير أنّ هذه الأسماء لم تكن وافية بالتعرّف عليهم بل كان المعرّف لهم عنوانين: 1 ـ القعدة 2 ـ الاباضية.
كل ذلك يشرف الإنسان على الاطمئنان بأنّ لابن اباض تأثيراً هامّاً في
________________________________________
ظهور خط الاعتدال بعد مقتل الإمام:
قد عرفت أنّ عليّاً ـ عليه السَّلام ـ قد قضى على الخوارج الذين كانوا يثيرون الشغب، ويستعرضون الناس بالسيف، فلمّا مضى علي ـ عليه السَّلام ـ وضع معاوية بن أبي سفيان السيف في الخوارج واستأصل شأفتهم لما كانوا يرتكبون من الأعمال الإجرامية التي عبّر عنها علي ـ عليه السَّلام ـ في خطبة له: «كلاّ والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء. كلّما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين»(1) .
وقال ـ عليه السَّلام ـ مخطاباً لهم:
«أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، وسيفاً قاطعاً، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة»(2) .
ففي هذه الظروف القاسية وجد بينهم رجل يملك شيئاً من العقل ورأى أنّ تلك الأعمال الإجراميّة تسقطهم عن العيون ولا تُبْلِغُهم إلى الهدف، وهو «أبو بلال مرداس بن حدير» ونقطة البداية في دعوة أبي بلال كانت هي انكار مسلك العنف وما يذهبون إليه من قتل المخالفين واستعراض الناس، فأمر أتباعه أن لايُجرِّدوا سلاحاً، ولايقاتلوا مسلماً إلاّ إذا تعرّضوا لعدوان، أو واجهوا قتالا، فكان عليهم حمل السلاح دفاعاً عن النفس، وينقل البلاذري عنه قوله: «إنّ تجريد السيف واخافة السبيل لأمر عظيم، ولكنّا نشذّ عنهم ولانجرّد سيفاً
________________________________________
1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58 .
________________________________________
ويؤيّد الكاتب انّ خط الاعتدال، ظهر بعد مقتل الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ بقوله:
«إنّ هذا المسلك (التطرّف) منهم، دعا بعض من كانوا يوازرونهم، إلى مخالفتهم، والافتراق عنهم، بل وتوجيه شديد النقد عليهم،...هذا البعض ـ الذي تشدّد بعد أن كانوا لهم مؤيّدين ـ بدا لهم رأي غير الذي ارتأوه جميعاً ورأوا أنّ عليّاً وإن أخطأ في قبول التحكيم، وإن لم ينزل عند طلبهم عليه التوبة ممّا فعل، وكذلك سائر أهل القبلة الذين مازالوا على الشهادتين، إنّما هم مسلمون لايجوز قتالهم، ولاسبي نسائهم، وليست أموالهم غنيمة، وانّ قتالهم لايكون إلاّ في حالة بغي وعدوان منهم، فهنا يجب القتال بمقدار مايلزم لدفع العدوان وردّ البغي (2) .
ويقول: إنّ المحكّمة بعد واقعة النهروان افتقدوا وحدة الصف، وشاعت فيهم الفرقة، وساد الاضطراب، ممّا دفع بعضهم إلى الغلو في التطرّف، وتنكُّبِ الطريق السوي، ووجد بينهم من استنكره ولم يجد بداً من الافتراق عن هؤلاء الذين عرفوا بالخوارج، إيماناً منهم بأنّ طريق الاستعراض بالسيف، ليس هو طريق الإسلام، وقد كان على رأس هؤلاء - الذين عرفوا بالقعدة ـ أبو بلال مرداس ومن خلفه من الدعاة الذين عرفوا فيما بعد بالاباضية(3).
وقد تأثّرت عدّة من الخوارج بهذه الفكرة واستفحلت دعوة أبي بلال، وظهرت معالمها، غير أنّ بني اُميّة لم يكونوا يرضون بوجود قدرة ماثلة أمامهم،
________________________________________
1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 138 وما نقله عن البلاذري مذكور في الأنساب 5/94 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 105 و 131 ـ 132 .
3. نفس المصدر .
________________________________________
ففي البصرة اتّبع عمّال الأمويين سياسة البطش والتعذيب والنفي والقتل ضدّ معارضيهم بصفة عامّة، ولم يستثنوا من هذه السياسة جماعة القعدة، ورغم انّ هذه الجماعة لم تأخذ بأسلوب الخوارج في التطرّف والعدوان، وترويع الآمنين، ورفع السيف في وجه الدولة، إلاّ أنّ عمّال بني اُميّة في بلاد العراق، شدّدوا عليها خوفاً من دعوتها التي كانت تستسري بين الناس، وتحاشياً للشرّ قبل وقوعه، وقمعاً للنفاق قبل أن ينجم.
وازاء هذا الإضطهاد لجأت القعدة إلى السرَّية والكتمان، وظلّوا على هذا الأمر(إلاّ في فترة ثورة ابن الزبير) حتى جاء عصر الحجاج بن يوسف الذي قام بدوره في اضطهاة من ينكشف لديه أمره(3) .
وبعد ما ثار عبدالله بن الزبير على عمّال يزيد، ودانت له الحجاز والعراق، فعند ذلك اجتمعت الخوارج وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وعبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض، فزعموا أنّه ربّما يوجد عنده أُمنيتهم، ولكن بعدما وقفوا على عقائده في حق عثمان وأصحاب الجمل تفرّقوا عنه، وغادروا مكّة المكرّمة فمنهم من ذهب إلى البصرة ومنهم من ذهب إلى حضرموت.
وفي هذه اللحظة الحسّاسة بدأ الخلاف بين ابن الأزرق وعبدالله بن اباض
________________________________________
1. قتل أوائل خلافة «يزيد» في منطقة «آسك» قريبة من الأهواز عام 60 .
2. وهو الذي سلّ السيف على الأشعث بعد عقد التحكيم كما عرفت تفصيله.
3. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 32 ـ 33 .
________________________________________
كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان في تلك الفترة رجلا كاملا لايقلّ عمره عن عمر الدعاة الذين يقودون اُمّة ويتأمّرون عليهم، ولعلّه كان في تلك الأيام من أبناء الأربعين لو لم يكن أكثر، فعلى ذلك نخرج بهذه النتيجة انّه كان من مواليد سنة 24 من الهجرة فيكون أصغر بسنتين من جابر بن زيد على رواية أو ستّ سنوات على رواية اُخرى .
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه يخاطب عبدالملك بن مروان في رسالة إليه بقوله: «فلا تسأل عن معاوية ولاعن عمله ولا عن صنعته غير انّا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس، ولا نعلم أحداً اترك للقسمة التي قسم الله، ولالحكم حكمه الله، ولا أسفك لدم حرام منه»(1) .
كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان رجلا كاملا وداعياً قويّاً إلى خط الاعتدال وكان هو الناطق باسم هذه الجماعة، فنسب المذهب إليه لأجل ذلك ،فكونه هو المؤسّس للمذهب أو الداعي القوي إلى خط الاعتدال الذي أسّسه أبو بلال هو الأقوى بالنظر إلى النصوص التاريخية، والناظر إلى رسالته التي كتبها إلى عبدالملك بن مروان يجده مناظراً قويّاً ينقض دليل خصمه بحجّة أقوى من حجّته، ونذكر منه نموذجاً:
احتجّ عبدالملك على صلاح معاوية بقوله: «إنّ الله قام معه وعجّل نصره وبلّج حجّته وأظهره على عدوّه بالطلب لدم عثمان....» فأجابه في ذلك
________________________________________
1. الحارثي: العقود الفضية: 122 كما في «الإمام جابر بن زيد» وسيوافيك نصّ الرسالة برمّتها عن مصدر آخر.
________________________________________
ولو كان هو الكاتب لتلك الرسالة(2) ولم تكن مملاة عليه لدّل على احاطته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كل ذلك يؤيّد انّه هو المؤسّس الثاني للمذهب بعد انطماس خط أبي بلال. وبما أنّ في تلك الرسالة احتجاجات على الطغمة الأمويّة، وفي الوقت نفسه، تعكس الأحوال السائدة في تلك الأيّام، نأتي بنصّها في آخر هذا الفصل و هي من المواثيق التاريخية.
هذا ما وقفنا عليه بعد الغور في التاريخ .
رأى آخر في المؤسّس :
هناك رأي آخر هو أنّ المؤسّس هو جابر بن زيد التابعي، تلميذ ابن عبّاس وغيره كما سيوافيك، وأنّ عبدالله بن اباض كان ناطقاً عن الجماعة التي كان يرأسها ويقودها ذلك التابعي سرّاً وخفاء .
يقول علي يحيى معمّر:
«وبعد وفاة جابر بن زيد ظهر عبدالله بن اباض بأجلى مظاهر الغيرة الدينية ولقّن أصحابه مبدأ الإقدام في تقرير الحق، وقمع أهل الجور والظلم،
________________________________________
1. لعلّه اشارة إلى قوله سبحانه في حقّ بني اسرائيل قال: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهِلْكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) )ـ الاعراف 129 ـ .
2. قد نقل البرّادي في كتاب الجواهر المنتقاة رسالة ابن اباض في 156 ـ 167 والكتاب مطبوع بمصر طبعة حجرية، كما نقلها مؤلف السير والجوابات لبعض أئمة الاباضيّة .
________________________________________
وقال أيضاً: «فقد كان يحضر مجلس جابر بن زيد عدد من الطلاب كقتادة، وأيّوب، وابن دينار، وحيّان الأعرج، وأبي المنذر تميم بن حويص، ومنهم من يأخذ عنه أكثر ممّا يأخذ من غيره، أو يكاد يختصّ بمجلسه، كأبي عبيدة بن مسلم، وضمام، وأبي نوح الدهان، والربيع بن حبيب، وعبدالله بن اباض، ومن هؤلاء الطلاب من كان يشتغل أثناء التحصيل وبعده بالشؤون العامة، ومنهم من اشتغل بالمسائل السياسية ومطارحاتها مع حكّام الدولة الأموية في ميدان الكلمة دون استعمال السيف كعبدالله بن اباض، ومنهم من جلس للتدريس وأخذ مكان الإمام كأبي عبيدة أبي نوح الدهان وقام بنفس الدور وتخصّص فيه (2).
إنّ ما ذكره بصورة أمر قاطع غير ثابت في التاريخ، كيف وأغلب الظن انّ عبدالله بن اباض مات قبل جابر وانّه كان يقود أمر القعدة في حياة جابر، وإن كانت الأقوال في زمان حياته مختلفة، فمن قائل إنّه مات عام 80 إلى آخر إنّه مات قرابة 86 ، إلى ثالث بأنّه مات سنه 100 بالمغرب ودفن في جبل نفوسه، كما أنّه اختلفت الأقوال في حق جابر وأكثر الأقوال إنّه مات عام 94، ذكر بعض المؤرّخين انّه مات عام 104، فكيف يمكن أن يكون عبدالله هو القائم بالأمر بعد وفاة جابر؟
ويظهر تقدّم قيادة عبدالله بن اباض على جابر، من الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: قال: إنّ القعدة أو جماعة المسلمين هم الذين انظمّوا إلى جابر بن
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 151 .
2. الاباضية بين الفرق الاسلاميّة 2/135 ـ 136 .
________________________________________
ويقول في موضع آخر: ولمّا أحسّ الحجاج بنشاط جابر بن زيد الذي تولّى أمر جماعة القعدة بعد عبدالله بن اباض، ألقى به في السجن ثم نفاه إلى عمان، ولمّا عاد منها، ألقى به في السجن مرّة ثانية، كما سجن قيادات القعدة الآخرين(2)
وهناك نظرية ثالثة وهي أنّ الرجلين كانا متعاصرين، غير أنّ المصلحة الزمنية كانت توجب اختفاء جابر وظهور عبدالله بن اباض في الساحة. يقول الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: «لقد آثرت الجماعة أن يظل أمر جابر مستوراً ولعلّ مرجع ذلك مارأوه من عظم الخسارة فيما لو اشتهر أمر جابر وأخذوه بالشدّة، فإنّ ذلك يفقد الجماعة عقلها المدبّر وزعيمها الحقيقي، ولقد بالغ جابر في التخفّي حتى قدّم سواه للتحدّث باسم الجماعة ومُناظرة خصومه، وكان عبدالله بن اباض أحد اُولئك الذين تحدَّثوا كثيراً باسمهم حتى لقد ظن انّه الزعيم الحقيقي للجماعة فنسبها الآخرون إليه، وعرفوها بأنّها جماعة الاباضية مع أنّ عبدالله بن اباض لم يكن إلاّ واحداً من أفرادها قدّمه زعيمها ـ جابر بن زيد ـ للتحدّث عنهم ومناظرة خصومهم»(3) .
________________________________________
1. الاباضية في مصر والمغرب: 200 .
2. الاباضية في مصر و المغرب: 33.
3. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني 153 .
________________________________________
ثمّ إنّ الكاتب لمّا رأى أنّ المذهب منتم إلى ابن اباض طيلة قرون، حاول أن يصحّح وجه النسبة إليه وإنّه كان فرداً واحداً من القعدة، وذلك بوجهين:
1 ـ إنّ هذه الجماعة لم تطلق على نفسها اسم الاباضية بل كانوا يسمّون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين.
2 ـ إنّ تسمية الاباضية إنّما أطلقها على هذه الجماعة مخالفوهم في فترات تالية، وربّما كان الأمويّون كما يرى البعض هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم نسبة إلى عبدالله بن اباض لأنّ الأخير كان من علمائهم وشجعانهم والمناظر باسمهم، كما أنّ الأمويّين لايريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى لايجذبوا إليه الأنظار، ولايبدو في حياة جابر المشرقة، فتميل إليهم النفوس، فنسبوهم إلى عبدالله بن اباض وهو أقلّ منزلة من جابر في العلم و إن كان لايقلّ عنه في التقوى والورع والصلاح (1).
ولا يخفى ضعف الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ الهدف من التسمية هو التعرّف على المسمّى، ومن المعلوم أنّ اللفظين المذكورين لفظان عامّان لايكونان مشيرين إليه.
وأمّا الثاني: فمجرّد حدس لادليل عليه ، ولم يكن جابر بن زيد من المشاهير والأعلام بين العلماء والمحدّثين حتى تكون التسمية باسمه موجباً للانجذاب، بشهادة انّه ليس لجابر روايات وافرة في الصحاح والمسانيد.
________________________________________
1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد 161 ـ 162 نقلا عن تاريخ المغرب الكبير، لمحمّد علي دبوز 2/298 .
________________________________________
أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت كون جابر بن زيد من الاباضية، وسيوافيك انّه كان يصلّي خلف الحجاج ويأخذ جوائزه.
2 ـ جابر بن زيد العماني الأزدي:
وهو الشخصية الثانية التي تتبنّاها الاباضية زعيماً ومؤسّساً لمذهبهم وقد أَطروه في كتبهم، وقد تعرّفت على الاختلاف في ميلاده ووفاته، فهو من رجال النصف الثاني من القرن الأوّل، وقد طلع نجمه في هذه الفترة، وهو عماني عاش في العراق وأمضى أكثر عمره في البصرة احدى عواصم العراق العلمية، وإليك كلمات أهل الرجال في حقّه.
1 - قال أبو حاتم الرازي: جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي روى عن ابن عباس والحكم بن عمرو وابن عمر، روى عنه عمرو بن دينار وقتادة وعمرو بن هرم. سمعت أبي يقول ذلك.
وعن عطاء انّ ابن عباس قال : لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله عزّوجلّ، وقال عكرمة: كان ابن عباس يقول: هو أحد العلماء، و عن تميم بن حدير عن الرباب قال: سألت ابن عباس عن شيء، فقال: تسألونني وفيكم ابن زيد؟
________________________________________
1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي، الإمام جابر بن زيد: 162 ـ 163 .
________________________________________
2 ـ وقال أبو زكريا النووي بمثل ما قاله الرازي وأضاف: قال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي والبخاري: توفّي سنة ثلاث و تسعين، وقال محمّد بن سعد: سنة ثلاث ومائة، وقال الهيثم: سنة أربع ومائة (2) .
3 ـ وقال ابن حجر العسقلاني بمثل ما قالا، وأضاف: وقال العجلي: تابعي ثقة، وفي تاريخ البخاري عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: جابر! إنّك من فقهاء أهل البصرة، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيهاً، ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله ، وفي كتاب الزهد لأحمد: لمّا مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق.
وقال اياس بن معاوية: أدركت الناس ومالهم مفت غير جابر بن زيد.
وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد.
وفي الضعفاء للساجي: عن يحيى بن معين: كان جابر اباضياً، وعن عكرمة: صفرياً، وأغرب الأصيلي فقال: هو رجل من أهل البصرة لايعرف، انفرد عن ابن عباس بحديث: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» ولايعرف هذا الحديث بالمدينة(3).
________________________________________
1. أبو حاتم الرازي: الجرح والتعديل 2/494، رقم 2032 .
2. أبو زكريا النووي (ت 676)، تهذيب الأسماء واللغات 1/142، رقم 98 .
3. تهذيب التهذيب 2/34 ،رقم 61 .
________________________________________
ولم يذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ولا ابن حجر في لسانه، وقال الأوّل في سير أعلام النبلاء: روى جابر عن ابن عباس، قال: آخى النبي بين الزبير وابن مسعود. وفي موضع آخر منه روى قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد يحدّث عن ابن عباس قال: تقطع الصلاة الحائض(3) .
هذا ما وقفت عليه في كتب الرجال من أحوال الرجل، وقد قامت الاباضية في العصور الأخيرة بترجمته ترجمة وافية، وقد اطروه وإليك نبذاً من كلماتهم في حقّه:
كلمات الاباضية في حقّ جابر:
هذه نصوص علماء الرجال من أهل السنّة ولاعتب علينا أن نشير إلى كلمات اتباع الرجل وإن طال بنا المقام.
1 ـ لم يكن جابر بن زيد ممّن عرف عنهم الميل إلى التمرّد أو الثورة، فلم يُعرف عنه أنّه كان ضمن الذين خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب، أو اعتزلوه أو تمرّدوا عليه، إذ أنّه ولد في عمان في الفترة ما بين عامي 18 و 22 هـ ، ثمّ رحل إلى البصرة يطلب العلم، وهو شاب في زمن لا نعرفه، ولايمكن تحديده، وغلب انّه رحل إليها بعد سنّ العشرين حيث كان شابّاً يستطيع تحمّل مشقّة
________________________________________
1. ينسب إلى درب الجوف وهي محلّة بالبصرة.
2. ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب 1/122، رقم 5 .
3. الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/490 و 10/252 .
________________________________________
وعلى ذلك فإنّ جابر بن زيد امّا أنّه لم يكن موجوداً في البصرة عند وقوع هذه الأحداث، أو انّه كان موجوداً، ولكنّه لم يشارك فيها على أي نحو من الأنحاء، لأنّ كتب التاريخ السنّية والشيعية والاباضية لم يرد فيها ذكر لأي شيء يتعلّق به، أو حتى مجرّد ذكر اسمه في تلك الفترة، ولم يسمع أحد شيئاً عن جابر بن زيد إلاّ بعد انتهاء هذه الأحداث لحوالي أربعين عاماً عندما أتى الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق والياً عليه من قبل عبدالملك بن مروان في عام 75 (1).
2 ـ إنّ مؤسّس مذهب الاباضي لم يكن ممّن شهدوا حرب الجمل او صفّين أو النهروان، ولم يكن ضمن هؤلاء الذين رفعوا السيف في وجه الدولة أو حاربوها من الخوارج وغيرهم، بل كان يأتلف معها، فقد كان يأخذ عطاءه من الحجاج بن يوسف الثقفي، كما كان يأخذ جائرته ويحضر مجلسه ويصلّي خلفه.
ولذلك كان من مبادئ الاباضية بعد جابر، جواز الصلاة خلف أهل القبلة كلّهم، وخلف الجبابرة في أي بلد غلب عليه الجبابرة، ويجيزون الغزو معهم أيضاً، كما كانوا يأخذون بأحكامهم، ولايرون في ذلك بأساً طالما أنّ أحكامهم كانت موافقة للحقّ والعدل، وكانوا يستحسنون أفعالهم إذا جاءت على هذه الصفة.
من ذلك: ما حدث عندما عرض على عبدالملك بن مروان أمر رجل
________________________________________
1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في المصر والمغرب: 15 .
________________________________________
3 - إنّ جابراً كان يصلّي الجمعة في المسجد الجامع في البصرة خلف عبيدالله بن زياد، وكان يقول لهم: إنّها صلاة جامعة وسنّة متّبعة.
وذكروا: انّه كان يتناول من الحجاج عطاء مقداره ستمائة أو سبعمائة درهم ويصلّي خلفه، وعرض عليه الحجاج أن يولّيه القضاء ولكن جابراً رفض هذا العرض(2) .
4 ـ إنّ العلم مثله مثل طائر باض في المدينة المنّورة، وفرّخ بالبصرة، وطار إلى عمان (3).
يريد انّه فرّخ بالبصرة بيد جابر، ولمّا مات جابر انتقل العلم إلى عمان و ذلك قبيل نهاية القرن الثاني للهجرة حيث قامت الإمامة الاباضية في عمان عام 177، وصارت هذه البلاد حجر الزاوية ومركز الثقل السياسي بالنسبة إلى المذهب و الدعوة.
5 ـ إنّ جابر بن زيد الأزدي من أهل البصرة، يروي عن عبدالله بن عباس، وقد لقي جابر بن زيد عائشة اُمّ المؤمنين وسألها عن بعض مسائل، فلمّا خرج عنها قالت: لقد سألني عن مسائل لم يسألني عنها مخلوق قط، وإنّما توفّي
________________________________________
1. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 57 ـ 58 .
2. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 16 ـ 19 ـ 32 .
3. يكرّرون هذا التعبير في غير واحد من كتبهم وهو من المغالاة في القول .
________________________________________
6 ـ اشتهر انّه لايماكس في ثلاث: في كراء إلى مكّة، وفي عبد يشترى ليعتق، وفي شاة التضحية، وكان يقول: لانماكس في شيء نتقرّب إليه.
روي أنّه رأى أحد الحجبة يصلّي فوق الكعبة، فنادى: يا من يصلّي فوق الكعبة لاقبلة لك(2) .
7 - إنّ جابراً أحد المؤلّفين في الإسلام وقد كان لديوانه رنّة، وكان موضع تنافس بين دور الكتب الإسلامية، واستطاعت مكتبة بغداد أن تحصل عليه و أن تبخل به عن غيرها من المكتبات.
يقول علي يحيى معمر:
كان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوّة، ولأخذ مؤلّفه عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، وكانت له قيمة اُخرى أثرية وهي أنّه أوّل كتاب ضخم اُلّف في الإسلام.
وإنّه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما اُحرقت تلك المكتبة العظيمة. وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنّه من المؤلم المُرّ أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا، فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم بسبب الجهل والحقد وطلب الرفعة عند الناس، وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي والديني لاُمّة مسلمة لايستقيم حاضرها إلاّ على القواعد المتينة التي ابتنى عليها ماضيها، ولن يصلح حاضر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها(3) .
________________________________________
1. ابن سلام الاباضي: بدء الاسلام وشرائع الدين: 108 .
2. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 148.
3. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 150 .
________________________________________
ولمّا كان هذا السؤال بظاهره بمعزل عن الوقار علّق عليه صاحب «تحفة الأعيان» بقوله: المراد انّه سألها عن مقدّمات الجماع التي يجوز السؤال عنها حرصاً منه ـ رضى الله عنه ـ على نقل السنّة وجمعها كي يكون المسلم مقتدياً برسول الله في كل أعماله دقيقها وجليلها.
يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ السؤال لما نفع هذا التعليق وأمثاله ممّا حشدها مؤلّف الكتاب وهو يعرب عن سذاجة الرجل و عدم عرفانه بموضع السؤال والمسؤول، والعجب انّ جواب اُمّ المؤمنين لم يذكر في هذه الكتب ولم تصل السنّة إلى أيديهم، ولعلّ تكذيب أصل القضية أولى من توجيهها.
وهناك ملاحظة حول حياة جابر وهو أنّ صلاته خلف الحجاج تبرّرها التقية، وأمّا أخذ الجوائز الذي هو بمعنى دعم ولايته واضفاء المشروعية عليها، فهل تبرّره التقيّة؟ أو كان من واجبه التخلّي عنها كما تخلّى عن قبول القضاء؟
إنّ ما جاء في هذه الكلمات من كون الرجل اباضياً مدعماً لمبدئه قاصر عن افادة الاطمئنان و الاذعان، فإنّ التقيّة أمر مشترك بين الاباضية وغيرهم، فالذي يوجب تقدير الرجل بل تقدير تلك الطائفة، انّهم يملكون الشجاعة الأدبية في الاجهار بجواز التقية والسلوك عليها في حياتهم، بينما يفقدها غيرهم من فرق أهل السنّة، فهم يعملون بالتقية في حياتهم السياسية والاجتماعية ولكن لايجاهرون بجوازها لو لم يكونوا مجاهرين بحرمتها!
________________________________________
قد قام «يحيى محمّد بكوش» بجمع أقوال وآراء جابر من بطون الكتب، وهو يقول في مقدّمة الكتاب: «فقد وجدت في بطون الكتب أقوالا عديدة للإمام جابر بن زيد سواء ذلك في كتب الاباضية أو في غيرها، من كتب المذاهب الاُخرى، ثمّ رجعت إلى كتب الحديث فالتقيت برواياته منبثّة من هنا وهناك فانقدحت في ذهني فكرة أجمع ما يتيسّر لي جمعه وضمّه في مجموعة اُخرجها للناس...وفي أثناء بحثي ظهر للاُستاذ الصوافي كتاب يتناول هذا الجانب فاطّلعت عليه واستفدت منه كما اطّلعت أثناء ذلك على كتاب للاُستاذ «عوض خليفات» الذي درس نشأة الحركة الاباضية في المشرق فاستفدت منه أيضاً...وقد قسّمت الكتاب إلى أبواب بلغت أحد عشر باباً، وكل باب يشتمل على مسائل متفرّفة قد لايجمع بينها سوى أنّها تنسب إلى ذلك الباب، وإليك فهرس الأبواب:
1 ـ في حياة الإمام جابر بن زيد، فيه 13 مسألة.
2 ـ في مسائل القرآن وعلومه، فيه 41 مسألة .
3 ـ في الطهارات، فيه 19 مسألة .
4 ـ في الصلاة، فيه 44 مسألة.
5 ـ في الزكاة، فيه 12 مسألة.
6 ـ في مسائل الصوم، فيه 18 مسألة .
7 ـ في مسائل الحج، فيه 30 مسألة.
8 ـ في مسائل النكاح والطلاق، فيه 61 مسألة .
9 ـ في المعاملات، فيه 21 مسألة.
10 ـ في الأقضية والأحكام، فيه 15 مسألة.
________________________________________
ثمّ إنّ الكتاب خرج في 728 صفحة، وربّما يتخيّل القارىء في بادىء النظر أنّ أكثر ما جاء فيها يرجع إلى آراء جابر وأقواله وأفكاره، ولكنّه بعد ما سبر الكتاب سرعان ما يرجع ويقف انّ مجموع ما روي عنه في تلك الأبواب ـ لو جمع في محل واحد ـ لايتجاوز عن عشر صفحات، ولكن المؤلّف اتّخذ طريقة المقارنة الفقهية وطلب لآراء المذاهب دليلها، فجاء الكتاب كتاباً ضخماً في الفقه، هو لايمت إلى جابر بصلة إلاّ قليلا.
هذا وقد بسط المؤلّف الكلام في ترجمة جابر في الباب الأوّل، ومن أراد التبسّط فليرجع إليه.
3 ـ أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت حوالي 158 هـ) :
هذا هو الشخصية الثالثة لفرقة الاباضية وله ترجمة في كتب الرجال والتاريخ كما له ترجمة مفصّلة في كتب الاباضية، ونذكر ما وقفنا عليه في القسم الأوّل ثمّ نردفه بكلمات الاباضية.
قال الحافظ الرازي: «مسلم بن أبي كريمة روى عن علي ـ رضي الله عنه ـ ، روى عنه...(كذا)، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول (2) .
ولو كان المقصود من العنوان هو المترجم فيروي عن علي ـ عليه السَّلام ـ بواسطة أو واسطتين كما لا يخفى.
وعنونه ابن حبّان في الثقات، واكتفى بنقل اسمه فقط وقال: مسلم بن
________________________________________
1. يحيى محمّد بكوش: فقه الإمام جابر بن زيد: 7 ـ 8 وفهرس الكتاب .
2. الرازي: الجرح والتعديل 8/193 برقم 845 .
________________________________________
وقال ابن الجوزي: مسلم بن أبي كريمة، قال الرازي: مجهول(2) .
ولم أجد له ترجمة في الكتب الرجالية، وأمّا كلمات الاباضية في حقّه، فإليك بيانها:
يقول علي يحيى معمّر: أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158 هـ ، وقد أدرك من أدركه جابر بن زيد، فروايته عن جابر رواية تابعي عن تابعي. وقد روى أبو عبيدة أيضاً عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة اُمّ المؤمنين (3) ـ رضى الله عنها ـ وروايته هذه عنهم موجودة في هذا المسند الصحيح (4) وهي رواية تابعي عن تابعي .
شيوخه:
أخذ أبو عبيدة العلم عمّن لقيه من الصحابة وعن الجابرين: جابر بن عبدالله وجابر بن زيد، وعن ضمار السعيدي وجعفر السماك وغيرهم.
تلاميذه :
وحمل العلم عن أبي عبيدة خلق كثير، منهم الربيع بن حبيب الفراهيدي صاحب المسند، وفيهم: حملة العلم إلى المغرب و هم: أبو الخطاب
________________________________________
1. محمد بن حبّان بن أحمد التميمي البستي: الثقات 5/354 و 401 .
2. عبدالرحمان بن الجوزي: كتاب الضعفاء و المتروكين 3/118 دار الكتب العلمية، بيروت 1406، ولاحظ بدء الاسلام: 26، 99، 110، 114، ولسان الميزان 6/32 .
3. سماعه عن اُمّ المؤمنين عائشة و أبي هريرة بعيد جداً إلاّ أن يكون الرجل من المعمّرين .
4. اشارة الى مسند الربيع بن حبيب، والصحيح أن يقال: الجامع الصحيح، كما سيوافيك .
________________________________________
وقد روي عنه أنّه قال: من لم يكن له اُستاذ من الصحابة فليس هو على شيء من الدين، وقد منَّ الله علينا بعبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن سلاّم(2) .
4 ـ أبو عمرو ربيع بن حبيب الفراهيدي:
إنّ الربيع من أئمّة الاباضية وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة (3) ونكتفي في المقام بما ذكره الاُستاذ التنوخي في مقدّمته على شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب:
«ومن يمن الطالع عن الحديث أن يكون الربيعان: الربيع بن صبيح والربيع بن حبيب في طليعة ركب الجامعين للحديث، والمصنفّين فيه، ومن
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/166 ـ 167 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني، وقد ترجم له ترجمة مفصّلة وذكر مواقفه في تنظيم الدعوة ومجالها، والانتهاز من مواسم الحج لنشر المذهب واعمال السياسة السرّية والأخذ بالتقيّة، فمن أراد فليرجع إليه (169 ـ 175) .
3. له ترجمة في بدء الاسلام 110، والاعلام 3/13 .
________________________________________
الثلاثيات:
قد ذكر أئمّة الحديث أنّ رتب الصحيح تتفاوت تفاوت الأوصاف المقتضية للصحيح، وانّ المرتبة العلياما اطلق عليه بعض رجال الحديث أنّه أصح الأسانيد الثلاثية كسند الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وسند مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو قول البخاري لأنّ هذه الأسانيد قصيرة السند و قريبة الاتصال بالينبوع المحمّدي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ .
ويشبه هذه الثلاثة الذهبية سلسلة مسند الربيع بن حبيب وثلاثياته... أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، ورجال هذه السلسلة الربيعية من أوثق الرجال وأحفظهم و أصدقهم، لم يشب أحاديثها شائبة انكار ولا ارسال ولاانقطاع ولااعضال.
ولمزايا هذه الثلاثيات اهتمّ كثير من أئمّة الحديث بتأليف الثلاثيات .
1 ـ ثلاثيات الإمام أحمد المطبوعة أخيراً بدمشق سنة 1380 هـ ، وشرحها في جزأين الإمام محمّد السفاريني، وعدد ثلاثياته خمسة وستون ومائة حديث.
2 ـ ثلاثيات البخاري وهي في صحيحه ثنان و عشرون حديثاً.
________________________________________
4 ـ ثلاثيات الربيع بن حبيب الأزدي، وأحاديثها في مسنده، ورجال سلسلتها الثلاثية هم أبو عبيدة التميمي، وجابر بن زيد الأزدي، والبحر عبدالله بن عباس ـ شيخ جابر ـ ، وغيره من الصحابة .
وقد طبع هذا المسند القديم مع شرحه للإمام عبدالله السالمي في أربعة مجلدات طبع اثنان منها في مصر والثالث بدمشق، ولقد سبرته ولمست أنّ الرجل كان يملك شيئاً من الانصاف، فلابأس بالاشارة إلى بعض خصوصياته.
انطباعات عن الجامع الصحيح:
هذا الجامع: مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري رتّبه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني وطبع في أربعة أجزاء تبلغ عدد صفحاته 302 صفحة، طبع بدمشق سنة 1388 هـ بتقديم عبدالله بن حميد السالمي وأشرف على طبعه محمود غيران.
أكثير المؤلّف في هذا المسند الروايات عن ضمام بن السائب البصري العثماني عن جابر.
ثمّ عن أبي عبيدة (مسلم بن أبي كريمة).
ثمّ عن أبي نوح (صالح بن نوح).
ثمّ عن سائر مشايخه .
وأكثر الروايات في الكتاب موقوفات تنتهي إلى الصحابة الاّ قليل منها مسند إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وممّا يشهد على كون الرجل موضوعياً أنّه نقل الروايات عن علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ وإليك رواياته عنه:
________________________________________
«في التعظيم لله عزّوجلّ ونفي التشبيه له سبحانه عن الأشباه»
قال الربيع: بلغني عن أبي مسعود، عن عثمان بن عبدالرحمن المدني، عن أبي إسحاق والشعبي قال: كان علي بن أبي طالب يقول في تمجيد الله عزّوجلّ: الحيُّ القائمُ الواحدُ الدائمُ فكَّاك المقادِمِ ورزّاقُ البهائم، القائمُ بغير منصبة، الدائم بغير غاية، الخالق بغير كلفة، فأعرَفُ العباد به الذي بالحدود لايصفُهُ ولا بما يوجد في الخلق يتوهّمه، لاتدركه الأبصار وهو يدك الأبصار .
«الباب (10) خطبة علي»:
قال الربيع: وأخبرنا أبان قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل، عن الحارث الهمداني قال: بلغ عليّاً أنّ قوماً من أهل عسكره شبّهوا الله وأفرطوا، قال: فخطب علي الناس فحمدالله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أيّها الناس اتّقوا هذا العارقة(1) فقالوا: يا أمير المؤمنين وما العارقة؟ قال: الذين يشبّهون الله بأنفسهم، فقالوا: وكيف يشبّهون الله بأنفسهم؟ قال: يضاهئون بذلك قول الذين كفروا من أهل الكتاب إذ قالوا: خلق الله آدم على صورته، سبحانه وتعالى عمّا يقولون، سبحانه وتعالى عمّا يشركون، بل هو الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والارادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لامنازع له في شيء، ولاكفؤ له يعادله، ولاضد له ينازعه، ولاسميّ له يشبهه، ولامثل له يشاكله، ولاتبدو له الاُمور، ولاتجري عليه الأحوال، ولا تنزل به الأحداث، وهو يجري الأحوال وينزّل الأحداث على المخلوقين، لايبلغ الواصفون كنه حقيقته ولايخطر على القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في
________________________________________
1. وفي نسخة الفارقة.
________________________________________
«الباب (11) قصة اليهودي مع علي بن أبي طالب»:
قال: وأخبرنا إسماعيل بن يحيى قال: حدثنا سفيان(1) عن الضحّاك قال: جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب فقال: ياعلي متى كان ربّنا؟ فقال علي إنّما يقال متى كان لشيء لم يكن فكان، وهو كائن بلاكينونة، كائن بلاكيفية، ولم يزل بلاكيف، ليس له قبل وهو قبل القبل، بلاغاية ولامنتهى غاية تنتهي إليها غايته انقطعت الغايات عنده وهو غاية الغايات.
«الباب (12) قصة القصاب مع علي بن أبي طالب»:
أخبرنا أبو قبيصة، عن عبدالغفار الواسطيّ، عن عطاء: انّ علي بن أبي طالب مرّ بقصّاب يقول: لاوالذي احتجب بسبع سموات لاأزيدُك شيئاً، قال: فضرب علي بيده على كتفه فقال: يا لحّام إنّ الله لايحتجب عن خلقه ولكن(2) حجب خلقه عنه، فقال: اُكفّر عن يميني؟ فقال: لا، لأنّك إنّما حلفت بغيرالله(3) .
________________________________________
1. خ سنان.
2. خ ولكّنه .
3. قوله: انّما حلفت بغير الله، هذا منه اعتبار بظاهر اللفظ انكاراً لما سمع وتغليظاً على القائل، وإلاّ فإنّ الحالف انّما قصد الحلف بالله عزّوجلّ وإن أخطأ في وصفه والله أعلم .
________________________________________
قال: وحدثني موسى بن جبير، عن عبدالمجيد والفضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عيينة، عن علي بن أبي طالب قوله تعالى: ( )لِلَّذِينَ اَحْسَنُوا الحُسْنى وَ زِيادَة)) .)
قال: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب(1) .
5 ـ أبو يحيى عبدالله بن يحيى الكندي (طالب الحق):
كان عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن(2) .
إنّ عبدالله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت، وكتب إلى ابى عبيدة مسلم بن أبي كريمة وإلى غيرهم من الاباضية بالبصرة، يشاورهم بالخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فافعل، وأشخص إليه ابو عبيدة، أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت، فحثّوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار العمارة وعلى حضرموت، إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، فأخذوه فحبسوه يوماً ثم أطلقوه، فأتى صنعاء وأقام عبدالله بن يحيى بحضرموت، وكثر جمعهم، وسمّوه «طالب الحق»، ثمّ استولى على صنعاء فأخذ الضحّاك بن الزمل وإبراهيم بن
________________________________________
1. مسند ربيع بن حبيب: ص 217 ـ 219 و ص 205 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 176، نقلا عن الحارثي: العقود الفضية: 187 .
________________________________________
فلمّا استولى عبدالله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإجابة من دعا إليهما. الإسلام ديننا، ومحمّد نبيّنا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا. رضينا بالحلال حلالا لانبغي به بدلا، ولانشتري به ثمناً قليلا، وحرّمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا، ولاحول ولا قوّة إلاّ بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شرب الخمر، فهو كافر، ومن شكّ في أنّه كافر، فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بيّنات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أنّ الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم، وندعوا إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد، واداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله. كلّ ذلك كان في سنة ثمان و عشرين ومائة (1).
ثمّ إنّه استولى على مكّة ثم المدينة وذلك في الوقت الذي بدأت ثورة بني العباس في خراسان، فكانت الدولة المركزية المروانية مشغولة باخماد الثورة، فانتهز طالب الحق الفرصة وبسط سيطرته على الحجاز كلّه، ولكن في سنة ثلاثين ومائة جهزّ مروان بن محمّد جيشاً مع عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي فلقى الخوارج بوادي القرى فقتل بلج بن عقبة، وفرّ أبو حمزة في بقيّتهم إلى مكة، فلحقهم عبدالملك فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج، وصار عبدالملك في جيش مروان من أهل الشام يريد
________________________________________
1. أبو الفرج الاصبهاني: الأغاني 23/224 ـ 256، وقد بسط الكلام في خبر عبدالله بن يحيى وخروجه ومقتله .
________________________________________
يقول المسعودي: فأكثرها اباضية إلى هذا الوقت وهو سنة 332 هـ ولا فرق بينهم وبين من بعمان من الخوارج في هذا المذهب(1) .
________________________________________
1. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/242 طبع دار الأندلس. الطبري: التاريخ 6/41 و 7/394 ـ 400. وابن الأثير: الكامل 5/351 دار صادر.
________________________________________
(309)
الفصل الحادي عشر
في العصور الاُولى
(310)
________________________________________(311)
قد تعرّفت على عقائد الاباضية وشيئاً من اُصولهم وفقههم وسيرتهم والمسالك الأربعة عندهم، فحان التعرّف على أئمّتهم و دعاتهم في القرون الاُولى، خصوصاً أنّ الاباضية هي الفرقة الوحيدة الباقية من الخوارج المنتشرة في مناطق مختلفة أعني عمان، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، المغرب وزنجبار.1 ـ عبدالله بن اباض، مؤسّس المذهب:
هو عبدالله بن اباض المقاعسي، المري، التميمي ـ من بني مرّة ـ ابن عبيد ابن مقاعس من دعاة الاباضية بل هو مؤسّس المذهب.
قد اشتهرت هذه الفرقة بالاباضية من أوّل يوم، وهذا يدل على أنّه كان لعبدالله بن اباض دور في نشوء هذه الفرقة وازدهارها، وإن كانت الفرقة يطلقون على أنفسهم أسماء اُخرى يشترك فيها سائر المسلمين كأهل الإسلام وأهل الحق أو جماعة المسلمين، وغير ذلك، غير أنّ هذه الأسماء لم تكن وافية بالتعرّف عليهم بل كان المعرّف لهم عنوانين: 1 ـ القعدة 2 ـ الاباضية.
كل ذلك يشرف الإنسان على الاطمئنان بأنّ لابن اباض تأثيراً هامّاً في
________________________________________
(312)
نشوء هذه الفرقة، وإليك البيان:ظهور خط الاعتدال بعد مقتل الإمام:
قد عرفت أنّ عليّاً ـ عليه السَّلام ـ قد قضى على الخوارج الذين كانوا يثيرون الشغب، ويستعرضون الناس بالسيف، فلمّا مضى علي ـ عليه السَّلام ـ وضع معاوية بن أبي سفيان السيف في الخوارج واستأصل شأفتهم لما كانوا يرتكبون من الأعمال الإجرامية التي عبّر عنها علي ـ عليه السَّلام ـ في خطبة له: «كلاّ والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء. كلّما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين»(1) .
وقال ـ عليه السَّلام ـ مخطاباً لهم:
«أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، وسيفاً قاطعاً، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة»(2) .
ففي هذه الظروف القاسية وجد بينهم رجل يملك شيئاً من العقل ورأى أنّ تلك الأعمال الإجراميّة تسقطهم عن العيون ولا تُبْلِغُهم إلى الهدف، وهو «أبو بلال مرداس بن حدير» ونقطة البداية في دعوة أبي بلال كانت هي انكار مسلك العنف وما يذهبون إليه من قتل المخالفين واستعراض الناس، فأمر أتباعه أن لايُجرِّدوا سلاحاً، ولايقاتلوا مسلماً إلاّ إذا تعرّضوا لعدوان، أو واجهوا قتالا، فكان عليهم حمل السلاح دفاعاً عن النفس، وينقل البلاذري عنه قوله: «إنّ تجريد السيف واخافة السبيل لأمر عظيم، ولكنّا نشذّ عنهم ولانجرّد سيفاً
________________________________________
1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58 .
________________________________________
(313)
ولا نقاتل إلاّ من قاتلنا»(1) .ويؤيّد الكاتب انّ خط الاعتدال، ظهر بعد مقتل الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ بقوله:
«إنّ هذا المسلك (التطرّف) منهم، دعا بعض من كانوا يوازرونهم، إلى مخالفتهم، والافتراق عنهم، بل وتوجيه شديد النقد عليهم،...هذا البعض ـ الذي تشدّد بعد أن كانوا لهم مؤيّدين ـ بدا لهم رأي غير الذي ارتأوه جميعاً ورأوا أنّ عليّاً وإن أخطأ في قبول التحكيم، وإن لم ينزل عند طلبهم عليه التوبة ممّا فعل، وكذلك سائر أهل القبلة الذين مازالوا على الشهادتين، إنّما هم مسلمون لايجوز قتالهم، ولاسبي نسائهم، وليست أموالهم غنيمة، وانّ قتالهم لايكون إلاّ في حالة بغي وعدوان منهم، فهنا يجب القتال بمقدار مايلزم لدفع العدوان وردّ البغي (2) .
ويقول: إنّ المحكّمة بعد واقعة النهروان افتقدوا وحدة الصف، وشاعت فيهم الفرقة، وساد الاضطراب، ممّا دفع بعضهم إلى الغلو في التطرّف، وتنكُّبِ الطريق السوي، ووجد بينهم من استنكره ولم يجد بداً من الافتراق عن هؤلاء الذين عرفوا بالخوارج، إيماناً منهم بأنّ طريق الاستعراض بالسيف، ليس هو طريق الإسلام، وقد كان على رأس هؤلاء - الذين عرفوا بالقعدة ـ أبو بلال مرداس ومن خلفه من الدعاة الذين عرفوا فيما بعد بالاباضية(3).
وقد تأثّرت عدّة من الخوارج بهذه الفكرة واستفحلت دعوة أبي بلال، وظهرت معالمها، غير أنّ بني اُميّة لم يكونوا يرضون بوجود قدرة ماثلة أمامهم،
________________________________________
1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 138 وما نقله عن البلاذري مذكور في الأنساب 5/94 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 105 و 131 ـ 132 .
3. نفس المصدر .
________________________________________
(314)
فلأجل ذلك استعمل ابن زياد (والي البصرة) بعد موت أبيه زياد بن أبيه، الشدّة والقسوة على جميع المحكِّمة متطرّفيهم ومعتدليهم، فقتل أبابلال مرداس بن حدير في منطقة نائية عن البصرة(1)كما قتل أخاه عروة بن ادية(2) في البصرة فقطّع أيديه ثمّ صلبه.ففي البصرة اتّبع عمّال الأمويين سياسة البطش والتعذيب والنفي والقتل ضدّ معارضيهم بصفة عامّة، ولم يستثنوا من هذه السياسة جماعة القعدة، ورغم انّ هذه الجماعة لم تأخذ بأسلوب الخوارج في التطرّف والعدوان، وترويع الآمنين، ورفع السيف في وجه الدولة، إلاّ أنّ عمّال بني اُميّة في بلاد العراق، شدّدوا عليها خوفاً من دعوتها التي كانت تستسري بين الناس، وتحاشياً للشرّ قبل وقوعه، وقمعاً للنفاق قبل أن ينجم.
وازاء هذا الإضطهاد لجأت القعدة إلى السرَّية والكتمان، وظلّوا على هذا الأمر(إلاّ في فترة ثورة ابن الزبير) حتى جاء عصر الحجاج بن يوسف الذي قام بدوره في اضطهاة من ينكشف لديه أمره(3) .
وبعد ما ثار عبدالله بن الزبير على عمّال يزيد، ودانت له الحجاز والعراق، فعند ذلك اجتمعت الخوارج وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وعبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض، فزعموا أنّه ربّما يوجد عنده أُمنيتهم، ولكن بعدما وقفوا على عقائده في حق عثمان وأصحاب الجمل تفرّقوا عنه، وغادروا مكّة المكرّمة فمنهم من ذهب إلى البصرة ومنهم من ذهب إلى حضرموت.
وفي هذه اللحظة الحسّاسة بدأ الخلاف بين ابن الأزرق وعبدالله بن اباض
________________________________________
1. قتل أوائل خلافة «يزيد» في منطقة «آسك» قريبة من الأهواز عام 60 .
2. وهو الذي سلّ السيف على الأشعث بعد عقد التحكيم كما عرفت تفصيله.
3. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 32 ـ 33 .
________________________________________
(315)
فاختار الاُوّل الخروج وسلّ السيف، وقتل المخالفين وسبي النساء وأنكر الثاني هذا التطرّف، كل ذلك حوالي عام 64 إلى 65 من الهجرة، فقتل الأوّل بسبب تطرّفه في ناحية الأهواز وبقي الثاني يعيش في ظل الاعتدال والتقيّة.كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان في تلك الفترة رجلا كاملا لايقلّ عمره عن عمر الدعاة الذين يقودون اُمّة ويتأمّرون عليهم، ولعلّه كان في تلك الأيام من أبناء الأربعين لو لم يكن أكثر، فعلى ذلك نخرج بهذه النتيجة انّه كان من مواليد سنة 24 من الهجرة فيكون أصغر بسنتين من جابر بن زيد على رواية أو ستّ سنوات على رواية اُخرى .
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه يخاطب عبدالملك بن مروان في رسالة إليه بقوله: «فلا تسأل عن معاوية ولاعن عمله ولا عن صنعته غير انّا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس، ولا نعلم أحداً اترك للقسمة التي قسم الله، ولالحكم حكمه الله، ولا أسفك لدم حرام منه»(1) .
كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان رجلا كاملا وداعياً قويّاً إلى خط الاعتدال وكان هو الناطق باسم هذه الجماعة، فنسب المذهب إليه لأجل ذلك ،فكونه هو المؤسّس للمذهب أو الداعي القوي إلى خط الاعتدال الذي أسّسه أبو بلال هو الأقوى بالنظر إلى النصوص التاريخية، والناظر إلى رسالته التي كتبها إلى عبدالملك بن مروان يجده مناظراً قويّاً ينقض دليل خصمه بحجّة أقوى من حجّته، ونذكر منه نموذجاً:
احتجّ عبدالملك على صلاح معاوية بقوله: «إنّ الله قام معه وعجّل نصره وبلّج حجّته وأظهره على عدوّه بالطلب لدم عثمان....» فأجابه في ذلك
________________________________________
1. الحارثي: العقود الفضية: 122 كما في «الإمام جابر بن زيد» وسيوافيك نصّ الرسالة برمّتها عن مصدر آخر.
________________________________________
(316)
عبدالله بن اباض بقوله: «فإن كنت تعتبر الدين من قبل الدولة والغلبة في الدنيا فإنّنا لانعتبره من قبل ذلك، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون (1) وظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين ويُعلي الكافرين...فلا تعتبر الدين من قبل الدولة...».ولو كان هو الكاتب لتلك الرسالة(2) ولم تكن مملاة عليه لدّل على احاطته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كل ذلك يؤيّد انّه هو المؤسّس الثاني للمذهب بعد انطماس خط أبي بلال. وبما أنّ في تلك الرسالة احتجاجات على الطغمة الأمويّة، وفي الوقت نفسه، تعكس الأحوال السائدة في تلك الأيّام، نأتي بنصّها في آخر هذا الفصل و هي من المواثيق التاريخية.
هذا ما وقفنا عليه بعد الغور في التاريخ .
رأى آخر في المؤسّس :
هناك رأي آخر هو أنّ المؤسّس هو جابر بن زيد التابعي، تلميذ ابن عبّاس وغيره كما سيوافيك، وأنّ عبدالله بن اباض كان ناطقاً عن الجماعة التي كان يرأسها ويقودها ذلك التابعي سرّاً وخفاء .
يقول علي يحيى معمّر:
«وبعد وفاة جابر بن زيد ظهر عبدالله بن اباض بأجلى مظاهر الغيرة الدينية ولقّن أصحابه مبدأ الإقدام في تقرير الحق، وقمع أهل الجور والظلم،
________________________________________
1. لعلّه اشارة إلى قوله سبحانه في حقّ بني اسرائيل قال: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهِلْكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) )ـ الاعراف 129 ـ .
2. قد نقل البرّادي في كتاب الجواهر المنتقاة رسالة ابن اباض في 156 ـ 167 والكتاب مطبوع بمصر طبعة حجرية، كما نقلها مؤلف السير والجوابات لبعض أئمة الاباضيّة .
________________________________________
(317)
المنحرفين عن جادة الصواب، حتى ظهرت هذه الفرقة الناجية المحقة الصادقة في أدوارها الوجودية في حالتي الكتمان والظهور»(1) .وقال أيضاً: «فقد كان يحضر مجلس جابر بن زيد عدد من الطلاب كقتادة، وأيّوب، وابن دينار، وحيّان الأعرج، وأبي المنذر تميم بن حويص، ومنهم من يأخذ عنه أكثر ممّا يأخذ من غيره، أو يكاد يختصّ بمجلسه، كأبي عبيدة بن مسلم، وضمام، وأبي نوح الدهان، والربيع بن حبيب، وعبدالله بن اباض، ومن هؤلاء الطلاب من كان يشتغل أثناء التحصيل وبعده بالشؤون العامة، ومنهم من اشتغل بالمسائل السياسية ومطارحاتها مع حكّام الدولة الأموية في ميدان الكلمة دون استعمال السيف كعبدالله بن اباض، ومنهم من جلس للتدريس وأخذ مكان الإمام كأبي عبيدة أبي نوح الدهان وقام بنفس الدور وتخصّص فيه (2).
إنّ ما ذكره بصورة أمر قاطع غير ثابت في التاريخ، كيف وأغلب الظن انّ عبدالله بن اباض مات قبل جابر وانّه كان يقود أمر القعدة في حياة جابر، وإن كانت الأقوال في زمان حياته مختلفة، فمن قائل إنّه مات عام 80 إلى آخر إنّه مات قرابة 86 ، إلى ثالث بأنّه مات سنه 100 بالمغرب ودفن في جبل نفوسه، كما أنّه اختلفت الأقوال في حق جابر وأكثر الأقوال إنّه مات عام 94، ذكر بعض المؤرّخين انّه مات عام 104، فكيف يمكن أن يكون عبدالله هو القائم بالأمر بعد وفاة جابر؟
ويظهر تقدّم قيادة عبدالله بن اباض على جابر، من الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: قال: إنّ القعدة أو جماعة المسلمين هم الذين انظمّوا إلى جابر بن
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 151 .
2. الاباضية بين الفرق الاسلاميّة 2/135 ـ 136 .
________________________________________
(318)
زيد، وانضووا تحت قيادته بعد أن انتهى دور عبدالله بن اباض، فبعد أن رأوا مدى القوَّة التي ينعم بها هذا الفقيد الأزدي بسبب مساندة الأزد له، لدرجة انّ الحجّاج المشهور بالبطش والعنف لم يجرأ على قتله عندما عرف صلته بالاباضية واكتفى بنفيه إلى بلدة عمان ولم يلبث أن عاد منها إلى البصرة مرّة اُخرى، ولم يتعرّض له الحجاج في كثير أو قليل(1) .ويقول في موضع آخر: ولمّا أحسّ الحجاج بنشاط جابر بن زيد الذي تولّى أمر جماعة القعدة بعد عبدالله بن اباض، ألقى به في السجن ثم نفاه إلى عمان، ولمّا عاد منها، ألقى به في السجن مرّة ثانية، كما سجن قيادات القعدة الآخرين(2)
وهناك نظرية ثالثة وهي أنّ الرجلين كانا متعاصرين، غير أنّ المصلحة الزمنية كانت توجب اختفاء جابر وظهور عبدالله بن اباض في الساحة. يقول الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: «لقد آثرت الجماعة أن يظل أمر جابر مستوراً ولعلّ مرجع ذلك مارأوه من عظم الخسارة فيما لو اشتهر أمر جابر وأخذوه بالشدّة، فإنّ ذلك يفقد الجماعة عقلها المدبّر وزعيمها الحقيقي، ولقد بالغ جابر في التخفّي حتى قدّم سواه للتحدّث باسم الجماعة ومُناظرة خصومه، وكان عبدالله بن اباض أحد اُولئك الذين تحدَّثوا كثيراً باسمهم حتى لقد ظن انّه الزعيم الحقيقي للجماعة فنسبها الآخرون إليه، وعرفوها بأنّها جماعة الاباضية مع أنّ عبدالله بن اباض لم يكن إلاّ واحداً من أفرادها قدّمه زعيمها ـ جابر بن زيد ـ للتحدّث عنهم ومناظرة خصومهم»(3) .
________________________________________
1. الاباضية في مصر والمغرب: 200 .
2. الاباضية في مصر و المغرب: 33.
3. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني 153 .
________________________________________
(319)
يلاحظ عليه: أنّه مجرد استحسان وتحليل حدسي لم يقترن بدليل، وقد عرفت اقتران الرجلين في الولادة والوفاة وظهور عبدالله بن اباض في الدعوة أيّام يزيد بن معاوية، ولم يكن يومذاك اسم من جابر ولاخبر.ثمّ إنّ الكاتب لمّا رأى أنّ المذهب منتم إلى ابن اباض طيلة قرون، حاول أن يصحّح وجه النسبة إليه وإنّه كان فرداً واحداً من القعدة، وذلك بوجهين:
1 ـ إنّ هذه الجماعة لم تطلق على نفسها اسم الاباضية بل كانوا يسمّون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين.
2 ـ إنّ تسمية الاباضية إنّما أطلقها على هذه الجماعة مخالفوهم في فترات تالية، وربّما كان الأمويّون كما يرى البعض هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم نسبة إلى عبدالله بن اباض لأنّ الأخير كان من علمائهم وشجعانهم والمناظر باسمهم، كما أنّ الأمويّين لايريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى لايجذبوا إليه الأنظار، ولايبدو في حياة جابر المشرقة، فتميل إليهم النفوس، فنسبوهم إلى عبدالله بن اباض وهو أقلّ منزلة من جابر في العلم و إن كان لايقلّ عنه في التقوى والورع والصلاح (1).
ولا يخفى ضعف الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ الهدف من التسمية هو التعرّف على المسمّى، ومن المعلوم أنّ اللفظين المذكورين لفظان عامّان لايكونان مشيرين إليه.
وأمّا الثاني: فمجرّد حدس لادليل عليه ، ولم يكن جابر بن زيد من المشاهير والأعلام بين العلماء والمحدّثين حتى تكون التسمية باسمه موجباً للانجذاب، بشهادة انّه ليس لجابر روايات وافرة في الصحاح والمسانيد.
________________________________________
1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد 161 ـ 162 نقلا عن تاريخ المغرب الكبير، لمحمّد علي دبوز 2/298 .
________________________________________
(320)
ولعلّ القول الحق ما يذكره الصوافي في آخر كلامه ويقول: إنّ جماعة الاباضية كانت حريصة على التخفّي والتسترّ ولم تبد كجماعة خارجة، وكان أوّل ظهور لها عندما راح عبدالله بن اباض يتحدّث باسمها ويبعث برسائل إلى الأمير الأموي عبدالله بن مروان، فكان من الطبيعي أن تنسب هذه الجماعة إلى من أبدى للخليفة نفسه على أنّه صاحب الرأي والكلمة (1) .أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت كون جابر بن زيد من الاباضية، وسيوافيك انّه كان يصلّي خلف الحجاج ويأخذ جوائزه.
2 ـ جابر بن زيد العماني الأزدي:
وهو الشخصية الثانية التي تتبنّاها الاباضية زعيماً ومؤسّساً لمذهبهم وقد أَطروه في كتبهم، وقد تعرّفت على الاختلاف في ميلاده ووفاته، فهو من رجال النصف الثاني من القرن الأوّل، وقد طلع نجمه في هذه الفترة، وهو عماني عاش في العراق وأمضى أكثر عمره في البصرة احدى عواصم العراق العلمية، وإليك كلمات أهل الرجال في حقّه.
1 - قال أبو حاتم الرازي: جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي روى عن ابن عباس والحكم بن عمرو وابن عمر، روى عنه عمرو بن دينار وقتادة وعمرو بن هرم. سمعت أبي يقول ذلك.
وعن عطاء انّ ابن عباس قال : لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله عزّوجلّ، وقال عكرمة: كان ابن عباس يقول: هو أحد العلماء، و عن تميم بن حدير عن الرباب قال: سألت ابن عباس عن شيء، فقال: تسألونني وفيكم ابن زيد؟
________________________________________
1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي، الإمام جابر بن زيد: 162 ـ 163 .
________________________________________
(321)
وعن أبي هلال، عن داود، عن عذرة قال: دخلت على جابر بن زيد، فقلت: إنّ هؤلاء القوم ينتحلونك ـ يعني الاباضية ـ ، قال: أبرأ إلى الله عزّوجلّ من ذلك، وعن يحيى بن معين يقول: أبو الشعثاء جابر بن زيد روى عنه قتادة، بصري، ثقة. وقال أبو زرعة: إنّه بصري أزدي، ثقة(1).2 ـ وقال أبو زكريا النووي بمثل ما قاله الرازي وأضاف: قال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي والبخاري: توفّي سنة ثلاث و تسعين، وقال محمّد بن سعد: سنة ثلاث ومائة، وقال الهيثم: سنة أربع ومائة (2) .
3 ـ وقال ابن حجر العسقلاني بمثل ما قالا، وأضاف: وقال العجلي: تابعي ثقة، وفي تاريخ البخاري عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: جابر! إنّك من فقهاء أهل البصرة، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيهاً، ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله ، وفي كتاب الزهد لأحمد: لمّا مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق.
وقال اياس بن معاوية: أدركت الناس ومالهم مفت غير جابر بن زيد.
وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد.
وفي الضعفاء للساجي: عن يحيى بن معين: كان جابر اباضياً، وعن عكرمة: صفرياً، وأغرب الأصيلي فقال: هو رجل من أهل البصرة لايعرف، انفرد عن ابن عباس بحديث: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» ولايعرف هذا الحديث بالمدينة(3).
________________________________________
1. أبو حاتم الرازي: الجرح والتعديل 2/494، رقم 2032 .
2. أبو زكريا النووي (ت 676)، تهذيب الأسماء واللغات 1/142، رقم 98 .
3. تهذيب التهذيب 2/34 ،رقم 61 .
________________________________________
(322)
4 ـ وقال أيضاً: جابر بن زيد، أبو الشعثاء الأزدي الجوفي (1) ـ بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء ـ البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة 93، ويقال: ومائة (2) .ولم يذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ولا ابن حجر في لسانه، وقال الأوّل في سير أعلام النبلاء: روى جابر عن ابن عباس، قال: آخى النبي بين الزبير وابن مسعود. وفي موضع آخر منه روى قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد يحدّث عن ابن عباس قال: تقطع الصلاة الحائض(3) .
هذا ما وقفت عليه في كتب الرجال من أحوال الرجل، وقد قامت الاباضية في العصور الأخيرة بترجمته ترجمة وافية، وقد اطروه وإليك نبذاً من كلماتهم في حقّه:
كلمات الاباضية في حقّ جابر:
هذه نصوص علماء الرجال من أهل السنّة ولاعتب علينا أن نشير إلى كلمات اتباع الرجل وإن طال بنا المقام.
1 ـ لم يكن جابر بن زيد ممّن عرف عنهم الميل إلى التمرّد أو الثورة، فلم يُعرف عنه أنّه كان ضمن الذين خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب، أو اعتزلوه أو تمرّدوا عليه، إذ أنّه ولد في عمان في الفترة ما بين عامي 18 و 22 هـ ، ثمّ رحل إلى البصرة يطلب العلم، وهو شاب في زمن لا نعرفه، ولايمكن تحديده، وغلب انّه رحل إليها بعد سنّ العشرين حيث كان شابّاً يستطيع تحمّل مشقّة
________________________________________
1. ينسب إلى درب الجوف وهي محلّة بالبصرة.
2. ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب 1/122، رقم 5 .
3. الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/490 و 10/252 .
________________________________________
(323)
السفر و الترحال. والمعروف أنّ التحكيم الذي أدّى إلى انفصال جزء من جيش علي عنه، وقيامهم بمعارضته والخروج عليه، كان في رمضان من عام 37، وحدثت معركة النهروان التي أكّدت هذا الانفصال وكرّسته في عام 38 هـ .وعلى ذلك فإنّ جابر بن زيد امّا أنّه لم يكن موجوداً في البصرة عند وقوع هذه الأحداث، أو انّه كان موجوداً، ولكنّه لم يشارك فيها على أي نحو من الأنحاء، لأنّ كتب التاريخ السنّية والشيعية والاباضية لم يرد فيها ذكر لأي شيء يتعلّق به، أو حتى مجرّد ذكر اسمه في تلك الفترة، ولم يسمع أحد شيئاً عن جابر بن زيد إلاّ بعد انتهاء هذه الأحداث لحوالي أربعين عاماً عندما أتى الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق والياً عليه من قبل عبدالملك بن مروان في عام 75 (1).
2 ـ إنّ مؤسّس مذهب الاباضي لم يكن ممّن شهدوا حرب الجمل او صفّين أو النهروان، ولم يكن ضمن هؤلاء الذين رفعوا السيف في وجه الدولة أو حاربوها من الخوارج وغيرهم، بل كان يأتلف معها، فقد كان يأخذ عطاءه من الحجاج بن يوسف الثقفي، كما كان يأخذ جائرته ويحضر مجلسه ويصلّي خلفه.
ولذلك كان من مبادئ الاباضية بعد جابر، جواز الصلاة خلف أهل القبلة كلّهم، وخلف الجبابرة في أي بلد غلب عليه الجبابرة، ويجيزون الغزو معهم أيضاً، كما كانوا يأخذون بأحكامهم، ولايرون في ذلك بأساً طالما أنّ أحكامهم كانت موافقة للحقّ والعدل، وكانوا يستحسنون أفعالهم إذا جاءت على هذه الصفة.
من ذلك: ما حدث عندما عرض على عبدالملك بن مروان أمر رجل
________________________________________
1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في المصر والمغرب: 15 .
________________________________________
(324)
تزوّج من امرأة أبيه ظنّاً منه انّها تجوز له، فأمر عبدالملك بقتله على جهله فيما لايجوز الجهل به، وقال: لاجهل في الإسلام ولاتجاهل، فاستحسن جابر بن زيد هذا العمل من عبدالملك وقال عنه: إنّه أحسن وأجاد. وما ذاك إلاّ لما تميّز به هذا الفقيه الكبير، تميّز مذهبه من صفة التسامح والاعتدال، ولما قام عليه هذا المذهب من اُسس واُصول (1).3 - إنّ جابراً كان يصلّي الجمعة في المسجد الجامع في البصرة خلف عبيدالله بن زياد، وكان يقول لهم: إنّها صلاة جامعة وسنّة متّبعة.
وذكروا: انّه كان يتناول من الحجاج عطاء مقداره ستمائة أو سبعمائة درهم ويصلّي خلفه، وعرض عليه الحجاج أن يولّيه القضاء ولكن جابراً رفض هذا العرض(2) .
4 ـ إنّ العلم مثله مثل طائر باض في المدينة المنّورة، وفرّخ بالبصرة، وطار إلى عمان (3).
يريد انّه فرّخ بالبصرة بيد جابر، ولمّا مات جابر انتقل العلم إلى عمان و ذلك قبيل نهاية القرن الثاني للهجرة حيث قامت الإمامة الاباضية في عمان عام 177، وصارت هذه البلاد حجر الزاوية ومركز الثقل السياسي بالنسبة إلى المذهب و الدعوة.
5 ـ إنّ جابر بن زيد الأزدي من أهل البصرة، يروي عن عبدالله بن عباس، وقد لقي جابر بن زيد عائشة اُمّ المؤمنين وسألها عن بعض مسائل، فلمّا خرج عنها قالت: لقد سألني عن مسائل لم يسألني عنها مخلوق قط، وإنّما توفّي
________________________________________
1. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 57 ـ 58 .
2. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 16 ـ 19 ـ 32 .
3. يكرّرون هذا التعبير في غير واحد من كتبهم وهو من المغالاة في القول .
________________________________________
(325)
جابر ـ رضى الله عنه ـ سنة ثلاث سنين ومائة (1).6 ـ اشتهر انّه لايماكس في ثلاث: في كراء إلى مكّة، وفي عبد يشترى ليعتق، وفي شاة التضحية، وكان يقول: لانماكس في شيء نتقرّب إليه.
روي أنّه رأى أحد الحجبة يصلّي فوق الكعبة، فنادى: يا من يصلّي فوق الكعبة لاقبلة لك(2) .
7 - إنّ جابراً أحد المؤلّفين في الإسلام وقد كان لديوانه رنّة، وكان موضع تنافس بين دور الكتب الإسلامية، واستطاعت مكتبة بغداد أن تحصل عليه و أن تبخل به عن غيرها من المكتبات.
يقول علي يحيى معمر:
كان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوّة، ولأخذ مؤلّفه عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، وكانت له قيمة اُخرى أثرية وهي أنّه أوّل كتاب ضخم اُلّف في الإسلام.
وإنّه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما اُحرقت تلك المكتبة العظيمة. وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنّه من المؤلم المُرّ أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا، فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم بسبب الجهل والحقد وطلب الرفعة عند الناس، وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي والديني لاُمّة مسلمة لايستقيم حاضرها إلاّ على القواعد المتينة التي ابتنى عليها ماضيها، ولن يصلح حاضر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها(3) .
________________________________________
1. ابن سلام الاباضي: بدء الاسلام وشرائع الدين: 108 .
2. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 148.
3. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 150 .
________________________________________
(326)
8 ـ إنّ جابراً أخذ عن عبدالله بن مسعود وجابر بن عبدالله وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وقال: كان جابر بن زيد يلتقي باُمّ المؤمنين عائشة ويأخذ عنها العلم ويسألها عن سنّة الرسول، وقد سألها يوماً عن جماع النبي وكيف كان يفعل، وانّ جبينها يتصبّب عرقاً وتقول عائشة: سل يا بُنيّ، ثم قالت له ممّن أنت؟ قال: من أهل المشرق من بلد يقال لها عُمَان.ولمّا كان هذا السؤال بظاهره بمعزل عن الوقار علّق عليه صاحب «تحفة الأعيان» بقوله: المراد انّه سألها عن مقدّمات الجماع التي يجوز السؤال عنها حرصاً منه ـ رضى الله عنه ـ على نقل السنّة وجمعها كي يكون المسلم مقتدياً برسول الله في كل أعماله دقيقها وجليلها.
يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ السؤال لما نفع هذا التعليق وأمثاله ممّا حشدها مؤلّف الكتاب وهو يعرب عن سذاجة الرجل و عدم عرفانه بموضع السؤال والمسؤول، والعجب انّ جواب اُمّ المؤمنين لم يذكر في هذه الكتب ولم تصل السنّة إلى أيديهم، ولعلّ تكذيب أصل القضية أولى من توجيهها.
وهناك ملاحظة حول حياة جابر وهو أنّ صلاته خلف الحجاج تبرّرها التقية، وأمّا أخذ الجوائز الذي هو بمعنى دعم ولايته واضفاء المشروعية عليها، فهل تبرّره التقيّة؟ أو كان من واجبه التخلّي عنها كما تخلّى عن قبول القضاء؟
إنّ ما جاء في هذه الكلمات من كون الرجل اباضياً مدعماً لمبدئه قاصر عن افادة الاطمئنان و الاذعان، فإنّ التقيّة أمر مشترك بين الاباضية وغيرهم، فالذي يوجب تقدير الرجل بل تقدير تلك الطائفة، انّهم يملكون الشجاعة الأدبية في الاجهار بجواز التقية والسلوك عليها في حياتهم، بينما يفقدها غيرهم من فرق أهل السنّة، فهم يعملون بالتقية في حياتهم السياسية والاجتماعية ولكن لايجاهرون بجوازها لو لم يكونوا مجاهرين بحرمتها!
________________________________________
(327)
فقه جابر بن زيد: قد قام «يحيى محمّد بكوش» بجمع أقوال وآراء جابر من بطون الكتب، وهو يقول في مقدّمة الكتاب: «فقد وجدت في بطون الكتب أقوالا عديدة للإمام جابر بن زيد سواء ذلك في كتب الاباضية أو في غيرها، من كتب المذاهب الاُخرى، ثمّ رجعت إلى كتب الحديث فالتقيت برواياته منبثّة من هنا وهناك فانقدحت في ذهني فكرة أجمع ما يتيسّر لي جمعه وضمّه في مجموعة اُخرجها للناس...وفي أثناء بحثي ظهر للاُستاذ الصوافي كتاب يتناول هذا الجانب فاطّلعت عليه واستفدت منه كما اطّلعت أثناء ذلك على كتاب للاُستاذ «عوض خليفات» الذي درس نشأة الحركة الاباضية في المشرق فاستفدت منه أيضاً...وقد قسّمت الكتاب إلى أبواب بلغت أحد عشر باباً، وكل باب يشتمل على مسائل متفرّفة قد لايجمع بينها سوى أنّها تنسب إلى ذلك الباب، وإليك فهرس الأبواب:
1 ـ في حياة الإمام جابر بن زيد، فيه 13 مسألة.
2 ـ في مسائل القرآن وعلومه، فيه 41 مسألة .
3 ـ في الطهارات، فيه 19 مسألة .
4 ـ في الصلاة، فيه 44 مسألة.
5 ـ في الزكاة، فيه 12 مسألة.
6 ـ في مسائل الصوم، فيه 18 مسألة .
7 ـ في مسائل الحج، فيه 30 مسألة.
8 ـ في مسائل النكاح والطلاق، فيه 61 مسألة .
9 ـ في المعاملات، فيه 21 مسألة.
10 ـ في الأقضية والأحكام، فيه 15 مسألة.
________________________________________
(328)
11 - في الزكاة والأطعمة والكفّارات والنذور والوصايا والمواريث، فيه 31 مسألة (1) .ثمّ إنّ الكتاب خرج في 728 صفحة، وربّما يتخيّل القارىء في بادىء النظر أنّ أكثر ما جاء فيها يرجع إلى آراء جابر وأقواله وأفكاره، ولكنّه بعد ما سبر الكتاب سرعان ما يرجع ويقف انّ مجموع ما روي عنه في تلك الأبواب ـ لو جمع في محل واحد ـ لايتجاوز عن عشر صفحات، ولكن المؤلّف اتّخذ طريقة المقارنة الفقهية وطلب لآراء المذاهب دليلها، فجاء الكتاب كتاباً ضخماً في الفقه، هو لايمت إلى جابر بصلة إلاّ قليلا.
هذا وقد بسط المؤلّف الكلام في ترجمة جابر في الباب الأوّل، ومن أراد التبسّط فليرجع إليه.
3 ـ أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت حوالي 158 هـ) :
هذا هو الشخصية الثالثة لفرقة الاباضية وله ترجمة في كتب الرجال والتاريخ كما له ترجمة مفصّلة في كتب الاباضية، ونذكر ما وقفنا عليه في القسم الأوّل ثمّ نردفه بكلمات الاباضية.
قال الحافظ الرازي: «مسلم بن أبي كريمة روى عن علي ـ رضي الله عنه ـ ، روى عنه...(كذا)، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول (2) .
ولو كان المقصود من العنوان هو المترجم فيروي عن علي ـ عليه السَّلام ـ بواسطة أو واسطتين كما لا يخفى.
وعنونه ابن حبّان في الثقات، واكتفى بنقل اسمه فقط وقال: مسلم بن
________________________________________
1. يحيى محمّد بكوش: فقه الإمام جابر بن زيد: 7 ـ 8 وفهرس الكتاب .
2. الرازي: الجرح والتعديل 8/193 برقم 845 .
________________________________________
(329)
أبي كريمة (1) .وقال ابن الجوزي: مسلم بن أبي كريمة، قال الرازي: مجهول(2) .
ولم أجد له ترجمة في الكتب الرجالية، وأمّا كلمات الاباضية في حقّه، فإليك بيانها:
يقول علي يحيى معمّر: أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158 هـ ، وقد أدرك من أدركه جابر بن زيد، فروايته عن جابر رواية تابعي عن تابعي. وقد روى أبو عبيدة أيضاً عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة اُمّ المؤمنين (3) ـ رضى الله عنها ـ وروايته هذه عنهم موجودة في هذا المسند الصحيح (4) وهي رواية تابعي عن تابعي .
شيوخه:
أخذ أبو عبيدة العلم عمّن لقيه من الصحابة وعن الجابرين: جابر بن عبدالله وجابر بن زيد، وعن ضمار السعيدي وجعفر السماك وغيرهم.
تلاميذه :
وحمل العلم عن أبي عبيدة خلق كثير، منهم الربيع بن حبيب الفراهيدي صاحب المسند، وفيهم: حملة العلم إلى المغرب و هم: أبو الخطاب
________________________________________
1. محمد بن حبّان بن أحمد التميمي البستي: الثقات 5/354 و 401 .
2. عبدالرحمان بن الجوزي: كتاب الضعفاء و المتروكين 3/118 دار الكتب العلمية، بيروت 1406، ولاحظ بدء الاسلام: 26، 99، 110، 114، ولسان الميزان 6/32 .
3. سماعه عن اُمّ المؤمنين عائشة و أبي هريرة بعيد جداً إلاّ أن يكون الرجل من المعمّرين .
4. اشارة الى مسند الربيع بن حبيب، والصحيح أن يقال: الجامع الصحيح، كما سيوافيك .
________________________________________
(330)
المعافري، وعبدالرحمن بن رستم وعاصم السدراتي، وإسماعيل بن درار العذامسي، وأبو داود القبلي النفراوي، وكان الإمام أبو الخطاب المعافري قد جاء من اليمن فرافق الأربعة من أهل المغرب فخرج معهم إلى بلادهم، فنصّبوه عليهم بأمر شيخهم أبي عبيدة. وبأمره نُصّب الإمام عبدالله بن يحيى الكندي في أرض اليمن، وجمعت إمارته اليمن والحجاز، وأقام حملة العلم عنده خمس سنين فلمّا أرادوا الوداع سأله إسماعيل بن درار عن ثلاثمائة مسألة من مسائل الأحكام. فقال له أبو عبيدة: «أتريد أن تكون قاضياً مع ابن درار؟ قال: أرايت ان ابتليت بذلك» (1).وقد روي عنه أنّه قال: من لم يكن له اُستاذ من الصحابة فليس هو على شيء من الدين، وقد منَّ الله علينا بعبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن سلاّم(2) .
4 ـ أبو عمرو ربيع بن حبيب الفراهيدي:
إنّ الربيع من أئمّة الاباضية وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة (3) ونكتفي في المقام بما ذكره الاُستاذ التنوخي في مقدّمته على شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب:
«ومن يمن الطالع عن الحديث أن يكون الربيعان: الربيع بن صبيح والربيع بن حبيب في طليعة ركب الجامعين للحديث، والمصنفّين فيه، ومن
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/166 ـ 167 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني، وقد ترجم له ترجمة مفصّلة وذكر مواقفه في تنظيم الدعوة ومجالها، والانتهاز من مواسم الحج لنشر المذهب واعمال السياسة السرّية والأخذ بالتقيّة، فمن أراد فليرجع إليه (169 ـ 175) .
3. له ترجمة في بدء الاسلام 110، والاعلام 3/13 .
________________________________________
(331)
الأسف أن لاندري شيئاً عن مصير مسند ابن صبيح وعسى أن يهتم بذلك الباحثون عن نفائس المخطوطات، ومن لطف الباري أن أبقى لنا مسند الربيع بن حبيب، ثمّ من نعمه عليّ أن وفّقني لإعادة نشره مع شرح علاّمة عمان عبدالله بن حميد السالمي ولم يطّلع على المسند وشرحه في علماء مصر والشام والعراق إلاّ قليل.الثلاثيات:
قد ذكر أئمّة الحديث أنّ رتب الصحيح تتفاوت تفاوت الأوصاف المقتضية للصحيح، وانّ المرتبة العلياما اطلق عليه بعض رجال الحديث أنّه أصح الأسانيد الثلاثية كسند الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وسند مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو قول البخاري لأنّ هذه الأسانيد قصيرة السند و قريبة الاتصال بالينبوع المحمّدي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ .
ويشبه هذه الثلاثة الذهبية سلسلة مسند الربيع بن حبيب وثلاثياته... أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، ورجال هذه السلسلة الربيعية من أوثق الرجال وأحفظهم و أصدقهم، لم يشب أحاديثها شائبة انكار ولا ارسال ولاانقطاع ولااعضال.
ولمزايا هذه الثلاثيات اهتمّ كثير من أئمّة الحديث بتأليف الثلاثيات .
1 ـ ثلاثيات الإمام أحمد المطبوعة أخيراً بدمشق سنة 1380 هـ ، وشرحها في جزأين الإمام محمّد السفاريني، وعدد ثلاثياته خمسة وستون ومائة حديث.
2 ـ ثلاثيات البخاري وهي في صحيحه ثنان و عشرون حديثاً.
________________________________________
(332)
3 ـ ثلاثيات الدارمي وهي خمسة عشر حديثاً وقعت في مسنده بسنده.4 ـ ثلاثيات الربيع بن حبيب الأزدي، وأحاديثها في مسنده، ورجال سلسلتها الثلاثية هم أبو عبيدة التميمي، وجابر بن زيد الأزدي، والبحر عبدالله بن عباس ـ شيخ جابر ـ ، وغيره من الصحابة .
وقد طبع هذا المسند القديم مع شرحه للإمام عبدالله السالمي في أربعة مجلدات طبع اثنان منها في مصر والثالث بدمشق، ولقد سبرته ولمست أنّ الرجل كان يملك شيئاً من الانصاف، فلابأس بالاشارة إلى بعض خصوصياته.
انطباعات عن الجامع الصحيح:
هذا الجامع: مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري رتّبه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني وطبع في أربعة أجزاء تبلغ عدد صفحاته 302 صفحة، طبع بدمشق سنة 1388 هـ بتقديم عبدالله بن حميد السالمي وأشرف على طبعه محمود غيران.
أكثير المؤلّف في هذا المسند الروايات عن ضمام بن السائب البصري العثماني عن جابر.
ثمّ عن أبي عبيدة (مسلم بن أبي كريمة).
ثمّ عن أبي نوح (صالح بن نوح).
ثمّ عن سائر مشايخه .
وأكثر الروايات في الكتاب موقوفات تنتهي إلى الصحابة الاّ قليل منها مسند إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وممّا يشهد على كون الرجل موضوعياً أنّه نقل الروايات عن علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ وإليك رواياته عنه:
________________________________________
(333)
«الباب (9) ما روى عن علي بن أبي طالب»:«في التعظيم لله عزّوجلّ ونفي التشبيه له سبحانه عن الأشباه»
قال الربيع: بلغني عن أبي مسعود، عن عثمان بن عبدالرحمن المدني، عن أبي إسحاق والشعبي قال: كان علي بن أبي طالب يقول في تمجيد الله عزّوجلّ: الحيُّ القائمُ الواحدُ الدائمُ فكَّاك المقادِمِ ورزّاقُ البهائم، القائمُ بغير منصبة، الدائم بغير غاية، الخالق بغير كلفة، فأعرَفُ العباد به الذي بالحدود لايصفُهُ ولا بما يوجد في الخلق يتوهّمه، لاتدركه الأبصار وهو يدك الأبصار .
«الباب (10) خطبة علي»:
قال الربيع: وأخبرنا أبان قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل، عن الحارث الهمداني قال: بلغ عليّاً أنّ قوماً من أهل عسكره شبّهوا الله وأفرطوا، قال: فخطب علي الناس فحمدالله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أيّها الناس اتّقوا هذا العارقة(1) فقالوا: يا أمير المؤمنين وما العارقة؟ قال: الذين يشبّهون الله بأنفسهم، فقالوا: وكيف يشبّهون الله بأنفسهم؟ قال: يضاهئون بذلك قول الذين كفروا من أهل الكتاب إذ قالوا: خلق الله آدم على صورته، سبحانه وتعالى عمّا يقولون، سبحانه وتعالى عمّا يشركون، بل هو الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والارادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لامنازع له في شيء، ولاكفؤ له يعادله، ولاضد له ينازعه، ولاسميّ له يشبهه، ولامثل له يشاكله، ولاتبدو له الاُمور، ولاتجري عليه الأحوال، ولا تنزل به الأحداث، وهو يجري الأحوال وينزّل الأحداث على المخلوقين، لايبلغ الواصفون كنه حقيقته ولايخطر على القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في
________________________________________
1. وفي نسخة الفارقة.
________________________________________
(334)
الخلق شبيه ولا له في الأشياء نظير، لاتدركه العلماء بألبابها ولاأهل التفكير بتدبيرها وتفكيرها إلا بالتحقيق إيماناً بالغيب لأنّه لايوصف بشيء من صفات المخلوقين و هو الواحد الذي لاكفؤله (وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وَ أَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبيِرُ).«الباب (11) قصة اليهودي مع علي بن أبي طالب»:
قال: وأخبرنا إسماعيل بن يحيى قال: حدثنا سفيان(1) عن الضحّاك قال: جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب فقال: ياعلي متى كان ربّنا؟ فقال علي إنّما يقال متى كان لشيء لم يكن فكان، وهو كائن بلاكينونة، كائن بلاكيفية، ولم يزل بلاكيف، ليس له قبل وهو قبل القبل، بلاغاية ولامنتهى غاية تنتهي إليها غايته انقطعت الغايات عنده وهو غاية الغايات.
«الباب (12) قصة القصاب مع علي بن أبي طالب»:
أخبرنا أبو قبيصة، عن عبدالغفار الواسطيّ، عن عطاء: انّ علي بن أبي طالب مرّ بقصّاب يقول: لاوالذي احتجب بسبع سموات لاأزيدُك شيئاً، قال: فضرب علي بيده على كتفه فقال: يا لحّام إنّ الله لايحتجب عن خلقه ولكن(2) حجب خلقه عنه، فقال: اُكفّر عن يميني؟ فقال: لا، لأنّك إنّما حلفت بغيرالله(3) .
________________________________________
1. خ سنان.
2. خ ولكّنه .
3. قوله: انّما حلفت بغير الله، هذا منه اعتبار بظاهر اللفظ انكاراً لما سمع وتغليظاً على القائل، وإلاّ فإنّ الحالف انّما قصد الحلف بالله عزّوجلّ وإن أخطأ في وصفه والله أعلم .
________________________________________
(335)
وقال علي بن أبي طالب لمّا وجّه رسله إلى معاوية بن أبي سفيان: صلّوا في رحالكم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة فإنّ الله لايتقبّل إلا من المتّقين.قال: وحدثني موسى بن جبير، عن عبدالمجيد والفضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عيينة، عن علي بن أبي طالب قوله تعالى: ( )لِلَّذِينَ اَحْسَنُوا الحُسْنى وَ زِيادَة)) .)
قال: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب(1) .
5 ـ أبو يحيى عبدالله بن يحيى الكندي (طالب الحق):
كان عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن(2) .
إنّ عبدالله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت، وكتب إلى ابى عبيدة مسلم بن أبي كريمة وإلى غيرهم من الاباضية بالبصرة، يشاورهم بالخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فافعل، وأشخص إليه ابو عبيدة، أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت، فحثّوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار العمارة وعلى حضرموت، إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، فأخذوه فحبسوه يوماً ثم أطلقوه، فأتى صنعاء وأقام عبدالله بن يحيى بحضرموت، وكثر جمعهم، وسمّوه «طالب الحق»، ثمّ استولى على صنعاء فأخذ الضحّاك بن الزمل وإبراهيم بن
________________________________________
1. مسند ربيع بن حبيب: ص 217 ـ 219 و ص 205 .
2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 176، نقلا عن الحارثي: العقود الفضية: 187 .
________________________________________
(336)
جبلة بن مخرمة فحبسهما، وجمع الخزائن والأموال فأحرزها ثمّ أرسل إلى الضحّاك وإبراهيم فأرسلهما، وقال لهما: حبستكما خوفاً عليكما من العامة وليس عليكما مكروه فأقيما إن شئتما أو أشخصا، فخرجا.فلمّا استولى عبدالله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإجابة من دعا إليهما. الإسلام ديننا، ومحمّد نبيّنا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا. رضينا بالحلال حلالا لانبغي به بدلا، ولانشتري به ثمناً قليلا، وحرّمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا، ولاحول ولا قوّة إلاّ بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شرب الخمر، فهو كافر، ومن شكّ في أنّه كافر، فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بيّنات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أنّ الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم، وندعوا إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد، واداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله. كلّ ذلك كان في سنة ثمان و عشرين ومائة (1).
ثمّ إنّه استولى على مكّة ثم المدينة وذلك في الوقت الذي بدأت ثورة بني العباس في خراسان، فكانت الدولة المركزية المروانية مشغولة باخماد الثورة، فانتهز طالب الحق الفرصة وبسط سيطرته على الحجاز كلّه، ولكن في سنة ثلاثين ومائة جهزّ مروان بن محمّد جيشاً مع عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي فلقى الخوارج بوادي القرى فقتل بلج بن عقبة، وفرّ أبو حمزة في بقيّتهم إلى مكة، فلحقهم عبدالملك فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج، وصار عبدالملك في جيش مروان من أهل الشام يريد
________________________________________
1. أبو الفرج الاصبهاني: الأغاني 23/224 ـ 256، وقد بسط الكلام في خبر عبدالله بن يحيى وخروجه ومقتله .
________________________________________
(337)
اليمن. وخرج عبدالله بن يحيى الكندي الخارجي من صنعاء فالتقوا بناحية الطائف وأرض جرس فكانت بينهم حرب عظيمة قتل فيها عبدالله بن يحيى وأكثر من كان معه من الاباضية، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.يقول المسعودي: فأكثرها اباضية إلى هذا الوقت وهو سنة 332 هـ ولا فرق بينهم وبين من بعمان من الخوارج في هذا المذهب(1) .
________________________________________
1. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/242 طبع دار الأندلس. الطبري: التاريخ 6/41 و 7/394 ـ 400. وابن الأثير: الكامل 5/351 دار صادر.
التعلیقات