استدلاله على وحدانية الصانع
آراء الأشعري
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 70 ـ 73
________________________________________(70)
(3)استدلاله على وحدانية الصانع
استدلّ الشيخ الأشعري على وحدانية الصانع ببرهان التمانع، وقال: إنّ الصانعَيْن المفترضين لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتّسق على أحكام، ولابدّ أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما، لأنّ أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً، وأراد الآخر أن يميته، لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً، أو لا يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً، لأنّه يستحيل أن يكون الجسم حياً وميتاً في حال واحدة.
وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً.
وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما، والعاجز لا يكون إلهاً وقديماً، فدلّ ما قلناه على أنّ صانع الأشياء واحد، وقد قال الله تعالى: (لَوْكانَ فِيهِما آلِهةٌ إِلاّالله لَفَسدَتا) (1).(2)
يلاحظ على ما أفاده:
أوّلا: أنّ ما ذكره هو برهان التمانع الوارد في الكتب الكلامية، ولكنّه لم يستقص جميع شقوقه، إذ لقائل أن يقول: إنّ الإلهين بما أنّهما عالمان ـ بما لا
________________________________________
1. الأنبياء:22. 2. اللمع: 20ـ 21.
________________________________________
(71)
نهاية لعلمهما ـ واقفان على المصالح والمفاسد، وما يصحّ فعله ممّا لا يصحّ، فيتّفقان على ما فيه المصلحة والحكمة.ومن المعلوم أنّه ليس إلاّ أمراً واحداً، فحينئذ تتحد إرادتهما على إيجاد ما اتّفقا عليه، فإنّ الاختلاف في الإرادة إمّا ناشئ من حبّ الذات، فيقدّم ما فيه المنفعة الشخصية على غيره، أو ناشئ من الجهل بالمصالح والمفاسد، وكلا العاملين منفيان عن ساحة الإلهين المفروضين.
ولأجل استيعاب جميع الشقوق تجب الإجابة عن هذا الشق أيضاً.
وموجز الإجابة (والتفصيل يطلب من الأسفار الكلامية) أنّ تعدد الصانع في الخارج يدلّ على وجود تباين واختلاف بينهما في أمر من الأُمور، فهما إمّا متباينان في جميع الذات، (كما هو الحال في الأجناس العالية، فإنّ الجوهر يباين العرض بتمام الذات) أو في بعضها كتباين نوع من نوع آخر(مثل الإنسان بالنسبة إلى الفرس) أو في الشخصيات والتعينات.
وعلى كلّ تقدير يجب أن يكون هناك نوع من التباين والاختلاف ولو من جهة واحدة، وفي مرحلة من مراحل الوجود; وإلاّ فلو تساويا من جميع الجهات، لارتفع التعدد وصار المفروضان إلهاً واحداً وهو خلف.
وعلى فرض وجود اختلاف بين الإلهين، يجب أن يختلف شعورهما وإدراكهما ولو في مورد أو موردين، إذ لا معنى لأن يتحد تشخيصهما وإدراكهما وعلمهما مع الاختلاف في الذات أو التعيّنات.
وعندئذ، لا يمكن أن نقول إنّهما يتفقان في جميع الموارد على شيء واحد وهو مقتضى الحكمة والمصلحة، لأنّ المفروض أنّ كلّواحد يرى فعله موافقاً للحكمة والمصلحة، ولا دليل على انحصار المصلحة والحكمة في جهة واحدة، بل من الممكن أن يكون كلا الفعلين مقرونين بالصلاح ولكلّ منهما فلاح.
هذا هو التقرير الصحيح للبرهان.
وثانياً: أنّ قوله سبحانه: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله) ليس ناظراً إلى
________________________________________
(72)
وحدة الصانع والخالق، بل الآية تركّز على وحدة التدبير في العالم، وأنّ مدبّر العالم إله واحد لا غير. والبرهان القرآني على وحدة التدبير جاء ضمن آيتين تتكفّل كلّ واحدة منهما ببيان بعض شقوق البرهان. وإليك الآيتان مع توضيح البرهان:1. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ الله رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ).(1)
2. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ) (2) توضيح البرهان بجميع شقوقه
إنّ تصوير تعدّد المدبّر للعالم يفترض على صور:
1. أن يتفرد كلّ واحد من الآلهة المفترضة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّواحد ما يريده في الكون دون منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير لأنّ المدبّر متعدد ومختلف في الذات، ونتيجة تعدّد التدبير طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وإليه يشير قوله سبحانه:(لَو كانَ فِيهِما آلهة إِلاّ الله لَفَسدتا...) .
2. أن يدبر كلّ واحد قسماً من الكون الذي خلقه، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به; وهذا الفرض يستلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، والحال أنّا نرى في الكون نوعاً واحداً من النظام شاملاً لكلّ جوانب الكون من الذرة إلى المجرة، وإلى هذا القسم من البرهان يشير قوله سبحانه في الآية الأُخرى(إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ) .
3. أن يتفوّق أحد الآلهة المفترضة على البقية فيوحّد جهودهم وأعمالهم،
________________________________________
1. الأنبياء:22. 2. الأنبياء:91.
________________________________________
(73)
ويصبغها بصبغة الانسجام والاتحاد، وعندئذيكون ذلك الإله المتفوّق، هو الإله الحقيقي دون البقية، وإلى هذا الشق يشير قوله سبحانه: (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض) .وباختصار، أنّ ما ذكره الأشعري من البرهان على وحدانية الصانع، غير مستوعب لجميع الشقوق، وإنّ الآية التي استشهد بها ليست راجعة إلى وحدانية الصانع، بل راجعة إلى وحدانية المدبّر.
والفرق بين التوحيد في الخالقية والتوحيد في المدبّرية غير خفي على العارف بالمسائل الكلامية
التعلیقات