إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله الجويني
علماءالأشاعرة
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 318 ـ 325
________________________________________(318)
(3)إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله الجويني(419ـ 478هـ)
هو عبدالملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب الجويني.
أثنى عليه كلّ من ذكره، يقول ابن خلّكان: أعلم المتأخّرين من
________________________________________
(319)
أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروساً يقع كلّ واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها، وقد أقام بمكة أربع سنين، وبالمدينة يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب،ولقب بإمام الحرمين.(1)وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 456الحوافز التي ألجأت أبا المعالي إلى مغادرة موطنه والخروج إلى الحجاز، وما هي إلاّ محنة الأشاعرة في عصر الوزير العميد الكندري وزير طغرل بك السلجوقي قال: كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي بلغ من تعصبه أنّه خاطب السلطان، في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن ذلك، فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمّة خراسان، منهم الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته، يدرّس ويفتي، فلهذا لقب إمام الحرمين، فلما جاءت الدولة النظامية(نظام الملك) أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم.(2)
أساتذته
تخرّج على والده الشيخ عبد الله بن يوسف وكان عالماً فقيهاً شافعياً غزير الإنتاج توفي سنة 438 وله من الآثار «الفروق» و «السلسلة» و«التبصرة» و «التذكرة» و غيرها، توفي والابن في سن التاسعة عشرة، فأتم دراسته بالاختلاف إلى مدرسة البيهقي، فتخرج على الشيخ أبي القاسم الإسفرائيني وغيره من الأساتذة الذين أخذ عنهم علمه.(3)
آثاره
ترك من الآثار العلمية ما يربو على عشرين كتاباً بين مطبوع منتشر،
________________________________________
1. وفيات الأعيان: 3/167ـ 168برقم 378. 2. الكامل في التاريخ:10/31ـ 33. وقد مرّ بيان الحادثة في الأمر الأوّل من الخاتمة. 3. تاريخ المذاهب الإسلامية:1/281ـ 282.
________________________________________
(320)
ومخطوط موجود في خزائن الكتب في مصر وباريس وبرلين، وإليك أسماء المطبوعة منها:1. «الإرشاد في أُصول الدين» و قد طبع في باريس وبرلين والقاهرة.
2. «الرسالة النظامية في الأحكام الإسلامية» وقد طبعت في القاهرة باسم «العقيدة النظامية» سنة 1367 وقد ترجمت إلى الألمانية عام 1958م.
3. «الشامل في أُصول الدين» و قد طبع الكتاب الأوّل (العلل) من الجزء الأوّل منه في القاهرة 1961م.
4. «غياث الأُمم في الإمامة» ويعدّه الباحثون أحسن منهجاً من كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، نشرته دار الدعوة بالاسكندرية.
5. «مغيث الخلق في اختيار الأحق» و للشيخ محمد زاهد الكوثري رسالة أسماها «إحقاق الحقّ بإبطال الباطل» في «مغيث الخلق» نشرت في القاهرة 1941م.
6. «الورقات في أُصول الفقه والأدلّة».(1)
ويظهر ممّا نشر في كتبه الكلامية أنّه يستمد في آرائه عن المشايخ الثلاثة:
1. أبو الحسن الأشعري المتوفّى عام 324 ويعبر عنه بـ«شيخنا».
2. أبو بكر الباقلاني المتوفّى سنة 403ويعبّر عنه بـ« القاضي».
3. أبو إسحاق الاسفرائيني المتوفّى عام 413 ويعبر عنه بـالأُستاذ».
آراؤه ونظرياته
يبدو أنّ أبا المعالي كان حراً في إبداء النظر ورفض الأفكار وقبولها، وإليك بعض آرائه:
1. أنكر مسألة خلق الأفعال، وأنّ الإنسان مسلوب الاختيار، وقد
________________________________________
1. الأعلام للزركلي:4/160; سير أعلام النبلاء: 18/475ـ 476.
________________________________________
(321)
عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه و بين «أبي القاسم بن برهان» في مسألة أفعال العباد؟قال القاسم: هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك، فتلا (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) (1) ومدّ بها صوته وكرر «هم لها عاملون» و قوله: (لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (2) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال: والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت.(3)
ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.
ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع، وأُصول المذهب، وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً.(4)
2. ما نقل عنه في كتاب البرهان قال: «إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات»وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.
3. قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.
________________________________________
1. المؤمنون:63. 2. التوبة: 42. 3. سير أعلام النبلاء:18/469و «أكلّه» : أعياه. 4. نفس المصدر:18/471.
________________________________________
(322)
قال في «الرسالة النظامية»: (نشرها محمد زاهد الكوثري عام 1367هـ) اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة، وامتنع على أهل الحقّ فحواها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في القرآن، وما يصحّ من السنن، وذهب أئمّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراءالظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً، أنّ اتّباع سلف الأُمّة حجّة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعاً بأنّه الوجه المتبع، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزّه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (1) و(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(2) و (تَجْري )بِأَعْيُنِنا) (3) وما صحّ من أخبار الرسول، كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه.(4)قصص الخرافة
إنّ من يصفه ابن عساكر (5) وغيره بأنّه إمام الأئمّة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، وعجماً وعرباً، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده الخ، إلى غير ذلك من كلمات
________________________________________
1. ص:75. 2. الرحمن:27. 3. القمر:14. 4. سير أعلام النبلاء:18/473ـ 474. 5. التبيين: 278.
________________________________________
(323)
التبجيل وعظائم التكريم لا يصدر عنه ما يذكره الذهبي في ترجمته:1. قرأت بخط أبي جعفر أيضاً:سمعت أبا المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كلّ ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق «عليكم بدين العجائز» فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص، لاإله إلاّ الله، فالويل لابن الجويني.(1)
2. قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب ـ و كان يختلف إلى درس الأُستاذ أبي المعالي في الكلام ـ فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت يبلغ بي ما بلغ، ما اشتغلت به.(2)
ولو صحّ ذلك، لما كان ينفعه مجرّد الندم، بل لكان عليه ـ وراء إبراز الندامة ـ أن يأمر بإحراق مسفوراته، إلاّما كان منها مطابقاً للسنّة، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر، ولعلّ هذه النقول كلّها من موضوعات بعض الحنابلة الذين يروق لهم ترويج مذهبهم بعزوالشخصيات البارزة إلى الانسلاك في سلكهم يوم هلاكهم وموتهم، يوم لا ينفعهم الندم والانسلاك.
وكما لا يصحّ ذلك، لا يصحّ ما نقل أيضاً:
1. قال محمد بن طاهر: حضر المحدث أبو جعفر الهمداني مجلس وعظ أبي المعالي، فقال: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، فقال أبو جعفر: أخبرنا يا أُستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها، ما قال عارف قط يا الله إلاّ وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف
________________________________________
1. سير أعلام النبلاء:18/471. 2. نفس المصدر:18/474.
________________________________________
(324)
ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا، أو قال: فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال: يا حبيبي ما ثم إلاّالحَيْرة، ولطم على رأسه ونزل، وبقي وقت عجيب. وقال فيمابعد: حيرني الهمداني.(1)2. قال أبو جعفر الحافظ; سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله: (الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى) (2) فقال: كان الله ولا عرش. وجعل يتخبّط، فقلت: هل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما معنى هذه الإشارة؟ قلت: ما قال عارف قط يا رباه إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة، ومزق ما كان عليه، وصارت قيامة في المسجد، ونزل يقول يا حبيبي الحيرة والحيرة والدهشة الدهشة.(3)
يعز على الأشاعرة أن يجهل إمام الحرمين ـ الذي يصفه ابن عساكر بأنّه «لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده»(4) ـ بجواب هذا السؤال، حتى يتخذه السائل سنداً لحلوله سبحانه في العرش وكينونته فيه.
وقد سئل الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ عنه و قيل له: ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟
قال أبو عبد اللّهعليه السَّلام : «ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش، لأنّه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حين قال: ارفعوا أيديكم إلى الله عزّوجلّ».(5)
________________________________________
1. نفس المصدر:18/474ـ 475. 2. طه:5. 3. سير أعلام النبلاء:18/476ـ 477. 4. التبيين: 278. 5. التوحيد للصدوق: 248.
________________________________________
(325)
وفي الختام إنّ أبا المعالي أجاب دعوة ربّه في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 478 ودفن في داره، ثمّ نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب والده، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولاً، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكان الطلبة يطوفون بالبلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع.(1)وممّا قيل في وفاته:
قلـوب العـالمين عـلى المقــالي * وأيــام الــورى شبـه الليــالي
أيثمر غصن أهل الفضل يـوماً * وقــد مـات الإمام أبـو المعالي(2)
________________________________________أيثمر غصن أهل الفضل يـوماً * وقــد مـات الإمام أبـو المعالي(2)
1. سير أعلام النبلاء:18/476. 2. تبيين كذب المفتري: 285.
التعلیقات