هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا ؟
الوعد والوعيد
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 393 ـ 402
________________________________________(397)
ب ـ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا ؟هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها و صار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد: «اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة، و وافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار، وجميع فسّاق أهل الصّلاة»(2).
ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر و المنافق والفاسق، و إليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى:
الآية الأولى: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء/14) (3).
ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.
________________________________________
2. أوائل المقالات: ص 14. 3. وأمّا قوله سبحانه: (ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها) (الجن 23). فهو راجع الى الكفار، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.
________________________________________
(398)
يلاحظ عليه: أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق، والمطلق قابل للتّقييد، وقد خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله و رحمته، ويخرج عن العذاب، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية، المشرك والمنافق.وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه، وطردها، وعدم قبولها. كيف، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.
يقول سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَنِ...)(النساء/11).
ويقول سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...)(النساء/12).
ويقول سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ...)(النساء/13).
ثمّ يقول سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ...)(النساء/14).
وقوله: (ويتعدّ حدوده) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع، لكنّه يحتمله، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.
يقول الطّبرسي ـ رحمه الله ـ : «إنّ قوله: (ويتعدّ حدوده) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي، أو يتفضّل الله عليه بالعفو، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول
________________________________________
(399)
التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو»(1).الآية الثّانية: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء/93).
قال القاضي: «وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه، وغضب عليه، ولعنه وأخلده في جهنّم»(2).
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.
وثانياً: إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.
لاحظ قوله سبحانه: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(النساء/91).
ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً و تعمّداً، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.
الآية الثّالثة: قوله سبحانه: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة/81).
________________________________________
1. مجمع البيان: ج 2، ص 20، طبعة صيدا. 2. شرح الاصول الخمسة: ص 659.
________________________________________
(400)
والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود، أضف إليه أنّ قوله سبحانه: (وأحاطت به خطيئته)لايهدف إلاّ إلى الكافر، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه و كتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فلو ثبت ما تقوله جمهرة المسلمين، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.الآية الرابعة:قوله سبحانه:(إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون )* وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين)) (الزخرف/74 ـ 76).
إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِين) *ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)) (الزخرف/69ـ 70).
ثمّ يقول : (إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون)» فـ «المجرمين» في مقابل «الّذين آمنوا» فلايعمّ المسلم.
هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة، وتقييد المطلق أمر سهل، مثل تخصيص العام، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات(1) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين، وإليك بيانها:
1 ـ قوله سبحانه: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ)(الرعد/6).
قال الشريف المرتضى: «في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله: (على ظلمهم)
________________________________________
1. كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.
________________________________________
(401)
إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره، وأصِلُه على هجره»(1).وقد قرّر القاضي دلالة الآية و أجاب عنه بأنّ الأخذ بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى، فلا بدّ من أن يؤوّل، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب(2).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال، جار في صورة التّوبة أيضاً، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.
والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب و غيره هو التّعبير بلفظ «الناس» مكان «المؤمنين». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه: «وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم» مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب و غيره.
وفي الختام، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها و شرائطها، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط و القيود.
2 ـ قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(النساء/48).
وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب، فمعنى قوله: «إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ» أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة، كما أنّ معنى قوله: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» أنّه يغفر ما دون
________________________________________
1. مجمع البيان: ج 3، ص 278. 2. شرح الاُصول الخمسة: ص 684.
________________________________________
(402)
الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين. ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة، لما حسن التّفصيل بينهما، مع وضوح الآية في التّفصيل(1).وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال: «إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية(2).
أقول: عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.
نعم، دفعاً للاغراء، وقطعاً لعذر الجاهل، قيّد سبحانه غفرانه بقوله: «لمن يشاء» حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.
ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: آيات الوعيد لا إجمال فيها، وهذه الآيات و نحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى (وإني لغفّارٌ لمن تابَ و آمَنَ و عَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى)(طه/82) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة(3).
ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.
إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين، وعدم تعذيبهم، أو إخراجهم من العذاب، بعد فترة خاصّة.
هذا، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران، حتّى يتّضح الحال فيها، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.
________________________________________
1. مجمع البيان: ج 2 ص 57 بتلخيص. 2. شرح الاُصول الخمسة: ص 678. 3. الأساس لعقائد الأكياس: ص 198.
التعلیقات
٢