التبرك بآثار النبي الأكرم والصالحين
شبهات وردود
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 105 ـ 111
________________________________________(105)
التبرك بآثار النبي الأكرم والصالحينجرت سيرة الموحدين على التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، وجرت سيرة المسلمين على التبرّك بآثار النبي الأكرم، والتبرك بالآثار إمّا تطبيقاً لمبدأ الحب والمودة لرسول اللّه، وإمّا طلباً لأثر معنوي وضعه اللّه سبحانه في الشيء المتبرّك به، كما في التبرك بماء زمزم، وماء ميزاب الكعبة وكسوتها، وماء الفرات وسؤر المؤمن، إلى غير ذلك مما وردت الأحاديث في التبرك به. فسواء أكان تجسيداً للمحبة والمودة كتقبيل الأضرحة والمنبر والأبواب، أم كان لطلب الآثار الخاصة الّتي وردت النصوص فيها، فلا يمت ذلك إلى الشرك في العبادة بصلة، وقد عرفت أن العنصر المقوّم لتحقق مبدأ الشرك هو الاعتقاد بـ «الألوهية» والربوبية، أو كون المدعو مبدأً لأفعال إلهية، وأمّا إظهار المودة والمحبة لآثار المحبوب على حد قول الشاعر :
أمرّ على الديار ديار ليلى * أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا
أو طلب الشفاء من الأسباب الّتي ورد الحديث بأن فيها الشفاء، فليس عبادة; فإنّ الشافي هو اللّه سبحانه، وماء زمزم وماء ميزاب الكعبة أسباب له، فهذه الأسباب المعنوية كالأدوية الكيمياوية الّتي عمّت العالم، يأوي إليها كل مريض من موحد ومشرك، غير أنّ الموحّد يستعملها بما أنها السبب، والشافي هو اللّه سبحانه، وهو الّذي أعطى السببية لها، ولو أراد لسلبها عنها .وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا
________________________________________
(106)
فالمهم في المقام دراسة ما ورد في الشرع حول التبرك بآثار الأنبياء والأولياء، وتبيين موضع الصحابة من آثار الرسول الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وقبل أن نسرد بعض ما وقفنا عليه، نشير إلى كتابين كريمين في ذلك المجال:1- «تبرك الصحابة» للشيخ محمد طاهر مكي، من علماء الحرم الشريف، طبع مكة المكرمة .
2- «التبرك» تأليف الأستاذ الفذ الشيخ علي الأحمدي، وقد استقصى فيه جل ما ورد في التبرك، ولا اظن أن من قرأ هذين الكتابين يبقى له الشك في جوازه، إن كان ممن يستمع القول فيتّبع أحسنه، وإلاّ يزيده إلاّ خساراً.
التبرّك في القرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم يذكر أنّ يوسف أمر البشير أن يذهب بقميصه إلى ابيه، وقال: القوا بقميصي هذا على وجهه فيعود بصيراً، واللّه سبحانه يحكي عن يوسف هكذا: (اذهَبُوا بِقَميصي هَذَا فَألْقُوهُ عَلَى وَجهِ أبي يَأتِ بَصيراً وَ أُتوني بِأهْلِكُم أجْمَعين)(1) (فَلَمّا جَاءَ البَشيرُ ألْقاهُ عَلَى وَجهِهِ فارتَدّ بَصيراً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2) فالآيات صريحة في أن يعقوب تبرّك بقميص ابنه يوسف، ولا شك أن قميص يوسف كان من القطن، والقطن كالحديد الّذي يصنع منه الأضرحة والأبواب، والقطن والحديد لا يؤثران في رفع المرض وكشف الكربة، ولكنّه سبحانه تكريماً للنبي يمنّ على المريض بالشفاء بعد التبرك به، وكأنّ هناك صلة معنوية غير مرئية ولا ملموسة ولا مدركة في المختبرات بين التبرك بالقميص وآثار الأنبياء ونزول الشفاء من اللّه سبحانه، كما نرى تلك الرابطة بين استعمال الدواء وحصول البرء بعده، ومن المعلوم أنّه سبحانه هو مسبب الأسباب، وجاعل السببية للسبب.
________________________________________
1. سورة يوسف: الآية 93 .
2. سورة يوسف: الآية 96 .
________________________________________
(107)
إنّ هيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حول الضريح النبوي الشريف والمسجد الحرام يرفعون عقيرتهم بأنّ هذا (الضريح) حديد، والحديد لا يفيد، فليستمعوا إلى قول اللّه سبحانه: (اذهبوا بقميصي هذا)، فعلى ضوء كلامهم قميص يوسف من القطن، والقطن كالحديد، ولكنّه سبحانه منح الشفاء لعين نبيه غِبّ تبركه بقميص ولده لصموده في سبيل اللّه .وأمّا الأحاديث والآثار الواردة حول التبرك فحدّث عنها ولا حرج، فإنها تتجاوز المائة، ومن أراد فليرجع إلى الكتابين الجليلين اللذين نوهنا بهما، وقبل أن نورد بعض الآثار، نذكر بعض الكلمات في هذا المجال من كبار العلماء :
قال ابن حجر: «كل مولود في حياة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يُحكم بأنّه رآه، وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبي للتحنيك والتبرك، حتّى قيل: لمّا افتتحت مكة، جعل أهل مكة يأتون إلى النبي بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة»(1) .
يقول مؤلف تبرك الصحابة: «لا شك أنّ آثار رسول اللّه ـ صفوة خلق اللّه وأفضل النبيين ـ أثبت وجوداً وأشهر ذكراً، فهي أولى بذلك التبرك وأحرى، وقد شهده الجم الغفير من الصحابة، وأجمعوا على التبرك بها والاهتمام بجمعها، وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون، فتبركوا بشعراته وفضل وضوئه وبعرقه وثيابه، وبمس جسده الشريف، وغير ذلك مما عرف من آثاره الشريفة الّتي صحت بها الأخبار عن الأخيار» (2) .
ولنقدم بعض ما ذكره الشيخان (البخاري ومسلم) لكون صحيحيهما من أتقن الكتب عند أهل السنة وأصحها:
1- هذا الشيخ البخاري يروي أنّ الصحابة كانوا يتبركون بفضل وضوئه، قال:
________________________________________
1. الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 5 .
2. تبرك الصحابة ص 5 .
________________________________________
(108)
«لما خرج علينا رسول اللّه بالهاجرة، فأتى بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه ويتمسحون به»(1).2- إنّ الصحابة كانوا يتبركون بشعره، فروى أنس أنّ رسول اللّه لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ شعره(2) .
3- إنّ الصحابة كانوا يتبركون بالإناء الّذي شرب منه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، قال أبو بردة: قال لي عبداللّه بن سلام: ألا اسقيك في قدح شرب النبي فيه؟(3) .
ويفهم من الرواية أنّ عبداللّه بن سلام كان يحتفظ بذلك القدح للتبرك، لشرب رسول اللّه منه.
4- كان الصحابة يتبركون بيديه الشريفتين، فعن أبي حجيفة: خرج رسول اللّه بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ـ إلى أن قال ـ : وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك(4) .
لا أظن أنّ الوهابي يجترىء على ردّ أحاديث البخاري، لأنّه أصحّ الكتب وأتقنها، خصوصاً أنّ هذه الروايات جاءت فيها متواترة، وهم القائلون:
وما من صحيح كالبخاري جامعاً * ولا مسند يلفى كمسند أحمد
هذا بعض ما رواه البخاري، وهلم معي ندرس ما ذكره مسلم في صحيحه:ذكر مسلم أنّ الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم إلى النبي للتبرك والتحنيك، قال: إنّ رسول اللّه كان يؤتى إليه بالصبيان، فيبارك عليهم ويحنكهم(5) .
________________________________________
1. صحيح البخاري ج 1 ص 59، فتح الباري ج 1 ص 256 .
2. صحيح البخاري ج 1 ص 54 .
3. صحيح البخاري ج 1 ص 147، فتح الباري ج 10 ص 85 .
4. صحيح البخاري ج 4 ص 188 .
5. صحيح مسلم ص 1691 .
________________________________________
(109)
كما روي في حق شعره: «أنّ رسول اللّه أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم اتى منزله بمنى، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس(1) .هذا بعض ما رواه الشيخان، وأمّا ما رواه غيرهم فحدّث عنه ولا حرج، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً سماه: «باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك، مما لم يذكر قسمته، ومن شعره ونعله وآنيته، مما يتبرك به أصحابه وغيرهم بعد وفاته»(2) .
إنّ فاطمة ـ عليها السَّلام ـ الّتي لا شك أنها من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً حضرت قبر أبيها، وأخذت قبضة من تراب القبر تشمه وتبكي وتقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صُبّت علىّ مصائبٌ لو أنها * صُبّت على الأيام صرن لياليا
وفي لفظ: فجعلتها على عينيها ووجهها(3) .صُبّت علىّ مصائبٌ لو أنها * صُبّت على الأيام صرن لياليا
نعم، كانت بنو أُمية وأذنابهم يمنعون الناس عن التبرك بقبر رسول اللّه وآثاره، فمن منع التبرك فإنما هو على خطهم.
روى الحاكم في المستدرك: «أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: إنّي لم آت الحجر، وإنما جئت رسول اللّه، سمعت رسول اللّه يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذ وليه غير أهله(4) .
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 3 ص 947 .
2. صحيح البخاري ج 4 ص 82 .
3. وفاء الوفاء: ج 2 ص 444، صلح الإخوان، ص 57 وغيرهما من المصادر .
4. مستدرك الصحيحين للحاكم ج 5 ص 515، ومجمع الزوائد ج 4 ص 2، باب وضع الوجه على قبر سيدنا رسول اللّه .
________________________________________
(110)
قال العلامة الأميني :«إنّ هذا الحديث يعطينا خبراً بأنّ المنع عن التوسل بالقبور الطاهرة إنما هو من بدع الأمويين وضلالاتهم، منذ عهد الصحابة، ولم تسمع أُذن الدنيا قط صحابياً ينكر ذلك، غير وليد بيت أُمية، مروان الغاشم .
نعم... «الثور يحمي انفه بروقه»(1) .
نعم... لبني اُمية عامة، ولمروان خاصة ضغينة على رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ منذ يوم لم يُبقِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في الأسرة الأموية حرمة إلاّ هتكها، ولا ناموساً إلاّ مزقه، ولا ركناً إلاّ أباده، وذلك بوقيعته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فيهم، وهو لا «ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، علّمه شديد القوى» فقد صحّ عنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ قوله: «إذا بلغت بنو أُمية أربعين، اتّخذوا عباد اللّه خولا، ومال اللّه نحلا وكتاب اللّه دغلا»(2) .
نعم تبع مروان بن الحكم ـ الوزغ ابن الوزغ ـ ابن طريد رسول اللّه من بعده الحجاج بن يوسف، هذا هو المبرّد ينقل في كامله، قال: ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف والناس يطوفون بقبر رسول اللّه منبره. لقوله: «إنما يطوفون بأعواد ورمّة»(3) ومراد الحجاج من الأعواد: المنبر، ومن الرّمة: عظام رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فيستسخر من المسلمين ويهينهم بكلامه، وهذا يعرب عن أنّ المسلمين كانوا يطوفون حول قبر رسول اللّه .
قال ابن أبي الحديد: خطب الحجاج بكوفة، فذكر الذين يزورون قبر
________________________________________
1. الروق: القرن، وهو مثل يضرب لمن يدافع عن شخصيته وعرضه .
2. الغدير: ج 5 ص 149 .
3. التبرك ص 161 .
________________________________________
(111)
رسول اللّه بالمدينة، فقال: تبّاً لهم، إنهم يطوفون بأعودا ورمّة بالية. هلا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟(1) .هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التبرك، ومن أراد التفصيل والتبسط فليرجع إلى كتاب «التبرك» فقد بلغ الغاية في ذلك المجال .
* * * * *
هذا وقع عقد العلامة الأميني فصلا أسماه «التبرك بالقبر الشريف بالتزام وتمريغ وتقبيل» وذكر هناك نصوصاً كثيرآ تحكي عن جريان السيرة على التبرك بالقبر الشريف، فمن أراد فليرجع إلى الجزء الخامس: ص 146 ـ 164 .
________________________________________
1. شرح نهج البلاغة ج 15 ص 242 .
التعلیقات