شبهات وردود
التوسل بدعاء النبي ص
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 272 ـ 277
________________________________________(272)
شبهات للكاتب الوهابي إنّ للكاتب الوهابي، الرفاعي صخباً وهياجاً حول الحديث، فقد أشكل عليه بوجوه ستة لا يهمنا ذكرها والإجابة عن جميعها، لأنه غفل عن كيفية الاستدلال بهذه النقول، وسنشير إليها. نعم، يهمنا أن نذكر بعض اعتراضاته:
1- يقول: إنّ التوسل بدعاء النبي بعد موته رهن أن يسمع الرسول أو يتكلم، أو يصدر عنه أي عمل بعد موته، مع أنه قد انقطع عمله نهائياً كما قال هو ـ عليه السَّلام ـ : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» ولا شك أنّ رسول اللّه يشمله هذا الحديث .
عزب عن المسكين مفاد الحديث، فإنه بصدد بيان انقطاع ابن آدم عن العمل الّذي يترتب عليه الثواب، بقرينة استثناء الأُمور الثلاثة، وقال أميرالمؤمنين في هذا المجال: «وإنّ اليوم عمل ولا حسابن، وغداً حساب ولا عمل»(2) .
وقال أيضاً: «الا وإنّ اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، أفلا تائب عن خطيئة قبل منيته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟»(3) .
فكيف يمكن القول بانقطاع عمل الميت نهائياً مع أنّ الشهداء في سبيل
________________________________________
2. نهج البلاغة; الخطبة 42 .
3. نهج البلاغة; الخطبة 28 .
________________________________________
(273)
اللّه يقومون بأعمال ينوّه بها الذكر الحكيم ويقول: (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِم أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللّهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنينَ)(1).أو ليس الفرح بما أوتوا من فضله سبحانه، والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، والاستشعار بعدم الخوف والحزن، والاستبشار بنعم اللّه سبحانه، أفعالا للراحلين إلى دار الآخرة؟ مضافاً إلى ما ورد من أنهم يرزقون عند ربهم(2) .
2- يقول: إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلاّ اللّه، فهي حياة مستقلة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم، لا ذاتاً ولا صفاتاً واللّه سبحانه يقول: (وَمِنْ وَرائِهمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ)(3) .
عجيب واللّه أمر هذا الرجل، إنه يأتي بالشُّبه والأوهام بصورة البرهان، ويجتهد في مقابل النص، وقد تعرفت على الآيات الّتي تحدثت عن محاورة الأنبياء أرواح أممهم الهالكة، وقد تعرفت على أنه سبحانه أمر النبي بالسؤال عن الأنبياء. فما هذا الاجتهاد في مقابل النص؟
لقد تناسى الرجل حديث تكلم النبي مع أصحاب القليب المقتولين من كفرة قريش، وقد ذكره أصحاب الحديث والتاريخ، وإليك نص صحيح البخاري في ذلك: وقف النبي على قليب بدر وخاطب الذين قُتلوا وأُلقيت أجسادهم في القليب:
لقد كنتم جيران سوء لرسول اللّه، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، وقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً.
________________________________________
1. سورة آل عمران: الآية 170 ـ 171 .
2. سورة آل عمران: 169 .
3. التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 267، سورة المؤمنون: الآية 100 .
________________________________________
(274)
فقال له رجل: يا رسول اللّه ما خطاب لِهام سديت؟فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : واللّه ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلاّ أن أعرض بوجهي ـ هكذا ـ عنهم(1) .
وروى ابن هشام عن أنس بن مالك، قال: لما سمع أصحاب رسول اللّه كلام رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ من جوف الليل وهو يقول: يا أهل القليب، وياعتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أُمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام ـ فعدّد من كان منهم في القليب ـ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فقال المسلمون: يا رسول اللّه. أتنادي قوماً قد جيفوا؟(2) قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني(3) .
لما وقعت الفتنة بالبصرة، خرج كعب بن سور، وكان قاضي البصرة لحرب خليفة رسول اللّه وإمام زمانه، ولما كان النصر حليفاً له ـ عليه السَّلام ـ مرّ على جسد كعب بن سور، فقال لمن حوله: أجلسوا كعب بن سور، فأجلسوه بين شخصين يمسكانه، فقال ـ عليه السَّلام ـ : يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوه، وسار قليلا حتّى مرّ بطلحة بن عبيد اللّه، فقال: أجلسوا طلحة، فكلّمه بمثل ما كلّم كعب بن سور، فقال له رجل: يا أميرالمؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال ـ عليه السَّلام ـ : يا رجل واللّه لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللّه(4) .
3- يقول إنّ القرآن يخبر بأنّ النبي لا يستطيع إسماع الموتى ويقول: (إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى)(5)، وقال (وَمَا أَنْتَ بَمُسمِع مَنْ فِي
________________________________________
1. صحيح البخاري: ج 5، باب قتل أبي جهل، ص 76 ـ 77 .
2. قد جيفوا: أي قد صاروا جيفة .
3. السيرة النبوية لابن هشام، ج 2 ص 294، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
4. الجمل، للشيخ المفيد، ص 210 ط النجف، حق اليقين للسيد شبر، ج 2، ص 73 .
5. سورة النمل: الآية 80 .
________________________________________
(275)
القُبُورِ))(1)، والرسول بعد أن توفّاه اللّه هو من الموتى ومن أهل القبور، فثبت انه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا(2) .ولكنّه غفل عن أنّ طرف المحاورة ليس الأجساد الخالية عن الأرواح، بل أرواح هذه الأبدان، فإنّ لها عيشة برزخية مقترنة مع بدن برزخي. وأمّا الوقوف على القبر ـ مع أنّ التكلّم مع أرواحهم لا مع أجسادهم ـ فإنما هو لأجل تحصيل حالة نفسانية يستطيع معها الإنسان التوجه إلى أرواحهم، والالتفات إليهم حتّى يكلمهم بما يقصد .
ومن عجيب الأمر أنه يقول: إنّ قوله سبحانه:(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم...) يختص بالمنافقين، فعلى ما ذكره يكون المنافق أعز عند اللّه من المؤمن، حيث يجوز للأول، طلب الاستغفار منه دون المؤمن، فهو أشمل لرحمة اللّه من الثاني «فاقض ما أنت قاض» مع أنّ مورد الآية لا يخصّص إطلاقها، بل الآية عامة لكل من ظلم نفسه سواء أكان منافقاً أم غيره.
هذا عمدة ما استدل به الكاتب على عدم صحة الاحتجاج بالرواية، وأمّا الإشكال على سنده، أو اشتمال متنه على الشذوذ فلا يضر أبداً، فلنفترض نحن أنّ السند ضعيف، وأنّ في المتن بعض الإشكال، لكن لو كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً يوجب الخروج عن الدين، أو أمراً محرّماً يجب أن يتوب عنه المسلم، فلماذا قامت جموع كثيرة من المحدثين بنقله والاحتجاج به، أوَ ليس عاراً على محدّث إسلامي أن ينقل في جامعه وكتابه أثراً يشتمل على الشرك والأمر المحرّم الواضح، ولا يعود عليه بشيء.
ولنفترض أنّ الراوي وضع هذا الحديث ولم يكن له حقيقة، ولكن الواضع إنما يضع الحديث لأجل إلفات الناس إليه، فلو كان ذلك الأمر موجباً للشرك أو ما يقارنه، فالدواعي تكون عن وضعه مصروفة. كل ذلك يعرب
________________________________________
1. سورة فاطر: الآية 22 .
2. التوصل إلى حقيقة التوسل، ص 268 .
________________________________________
(276)
عن أنّ هذا العمل كان أمراً مباحاً فجاء هذا الراوي ينقل هذا الأمر على عفو الخاطر .والاستدلال بهذه الرواية وما يأتي بعده بهذا الوجه، ولأجل ذلك لم نحاول أن نصحح السند .
4- روى السمهودي عن الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» عن محمد بن المنكدر: أودع رجل أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد، وقال لأبي: إنّ احتجت أنفقها إلى أن أعود. وأصاب الناس جهد من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال أبي: عد إلىَّ غداً، وبات بالمسجد يلوذ بقبر النبي مرة وبمنبره مرة، حتّى كاد أن يصبح يستغيث بقبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فبينما هو كذلك فإذا بشخص في الظلام يقول:
دونكها يا أبا محمد. فمدّ أبي يده، فإذا بصرّة فيها ثمانون ديناراً، فلمّا أصبح جاء الرجل فدفعها إليه(1) .
وقد نقل السمهودي في هذا الفصل قصصاً كثيرة عن شخصيات إسلامية، فمن أراد فليرجع إليه(2).
وقد تعرّفت أنّ كيفية الاستدلال بهذه القصص ليس على أساس صحة إسنادها أو خلو متونها عن الشذوذ، وإنما هو على أساس أنه لو كان هذا الأمر شركاً أو أمراً محرماً لما اهتم المحدثون والمؤرخون بنقلها، بل ولما قام الوضّاعون بوضعها، فإن الغرض من وضع الحديث هو بثّه بين المحدثين الواعين، ومن المعلوم أنه إذا كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً وبدعة على ما تدعيه الوهابية، لكانت الدواعي عن وضعها ونقلها مصروفة جداً، وهذا يعرب عن ان العمل كان مشروعاً وسائغاً بين المسلمين، فلأجل ذلك قام هؤلاء بنقل
________________________________________
1. وفاء الوفاء: ج 4 ص 1380 .
2. نفس المصدر: ج 4 ص 1380 ـ 1387 .
________________________________________
(277)
هذه الأحاديث، وقام المتوسلون ـ على فرض الصحة ـ بهذا العمل، أو قام الوضاعون على احتمال، بوضعها.إلى هنا تبيّنت أحكام التوسل بأقسامه الثلاثة :
* التوسل بذوات الصالحين وأنفسهم .
* التوسل بحقهم ومنزلتهم ومكانتهم .
* التوسل بدعائهم بعد رحلتهم ووفاتهم .
وأرى أن بسط الكلام في هذه المواضع أزيد من ذلك ضياع للوقت، ومن أراد الحق فيكفيه ما حررناه، فطوبى لمن يستمع القول ويتبع أحسنه، وتبّاً لقوم «نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون» .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيهِ الوَسيلةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1) .
________________________________________
1. سورة المائدة: الآية 35 .
التعلیقات