ابن تيمية والنذر لأهل القبور
النذر لأهل القبور
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 292 ـ 299
________________________________________(292)
(9)
ابن تيمية والنذر لأهل القبور
قال ابن تيمية: وإذا كان الطلب من الموتى ـ ولو كانوا أنبياء ـ ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان .ويقول: ومن اعتقد أنّ في النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهو ضالّ جاهل، ثم يقرر: إنّ ذلك نذر في معصية، وإنّ من يعتقد أنها باب الحوائج إلى اللّه، وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ العمر، فهو كافر مشرك يجب قتله(1).
أقول: إنّه قد ذيل كلامه بشيء لا يعتقد به أحد من المسلمين، حتّى يجعل ذلك ذريعة لقبول صدر كلامه. فأىّ مسلم يعتقد أن النبي يكشف الضرر ويفتح الرزق ويحفظ العمر؟ بل معتقَدُ جماهير المسلمين هو أنّ كل الأُمور بيده سبحانه، وأنّ الناس هم الفقراء واللّه هو الغني الحميد، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ)(2) .
ولو اعتقد أحد من المسلمين أن الأنبياء والصالحين ربما يقومون بأُمور خارجة عن السنن العادية فهو نفس الاعتقاد بأنهم أصحاب المعاجز والكرامات، وقد تواترت النصوص على ذلك وأنهم يبرئون الأكمه والأبرص
________________________________________
1. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص 103 .
2. سورة فاطر: الآية 15 .
________________________________________
(293)
ويحيون الموتى بإذن اللّه(1) .ومن يصف أحداً من الصالحين بباب الحوائج فإنما يصفه بهذا المعنى، يعني أنه سبحانه يستجيب دعاءه إذا دعاه، أو أنّه سبحانه أعطاه مقدرة كبيرة مثل ما أعطى لمن كان عنده علم من الكتاب(2) .
فإذا صحّ ما في القرآن من أنّ أُناساً من الأنبياء وغيرهم كانوا أصحاب مقدرة كبيرة يقومون بخوارق العادات وعجائب الأعمال بإذن اللّه، لصحّ التصديق في غيرهم ممن لم يجىء عنهم ذكر في القرآن، فما معنى الإيمان ببعض والكفر ببعض؟
وأمّا النذر للأموات، فتحقيقه يتوقف على بيان مقدمة:
النذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقق هدفه وقضيت حاجته، فيقول: للّه علىَّ أن أفعل كذا، إذا كان كذا. مثلا يقول: للّه علىَّ أن اختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسية .
هذا هو النذر الشرعي، ويجب أن يكون للّه، فإذا قال الناذر: نذرت لفلان، ففي قوله مجاز لغاية الاختصار، والمعنى نذرت للّه على أن أفعل شيئاً يكون ثوابه لفلان، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام:
1- أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر .
2- أن يكون لشخص ميت .
3- أن يكون لشخص حي .
وهذه الأقسام الثلاثة كلها جائزة، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قضيت حاجته، وقد مدح اللّه سبحانه أهل البيت، لأجل الوفاء بالنذر. قال
________________________________________
1. سورة آل عمران: الآية 49 وسورة المائدة: الآية 110 .
2. قال سبحانه: (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الجنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ... قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدّ إلَيكَ طَرفُكَ)سورة النمل: الآية 39 ـ 40 .
________________________________________
(294)
تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً)(1)، هذا هو النذر .وقد تعارف بين المسلمين أنّ النذر للّه وإهداء ثوابه لأحد أولياء اللّه وعباده الصالحين، وكانت عليه السيرة بين المسلمين، إلى أن جاء الدهر بابن تيمية فحرّم ذلك كما عرفت من عبارته، وقد نقل عنه أيضاً العبارة التالية، وقال: «من نذر شيئاً للنبي أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير اللّه، فيكون بذلك كافراً»(2) .
عجيب جداً حكم ابن تيمية وتكفيره المسلمين بحجة أنّ عمل الناذر يشبه عمل المشركين، أيصحّ في ميزان النصفة الحكم بتكفير المسلمين الذين أرسوا قواعد التوحيد، وحملوه جيلا بعد جيل إلى عصر ابن تيمية، بمجرد أنّ عمل الذابح والناذر يشبه عمل المشركين .
فلو كان هذا ملاكاً للتكفير فابن تيمية والوهابيون وحماة هذه البدع من أعظم المشركين! فإنّ كثيراً من مناسك الحج و فرائضه (الّتي يقوم بها المسلمون من غير فرق بين الوهابي وغيره) تشبه في ظاهرها أعمال عبدة الأصنام، فقد كانوا يطوفون حول أصنامهم ويقبّلونها، ونحن أيضاً نطوف حول الكعبة المشرفة ونقبّل الحجر الأسود، ونذبح الذبائح ونقرّب القرابين في منى يوم عيد الأضحى، كما كانوا يذبحون لأصنامهم، أفيصح تكفير الجميع لأجل هذه المماثلة؟
أو المقياس هو النية القلبية، وأنّ المعيار هو النية والضمائر دون المشابهة والظواهر، وقد قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنما الأعمال بالنيات(3) .
________________________________________
1. سورة الإنسان: الآية 7 .
2. نقله عنه شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في كتاب «الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم» كما في فرقان القرآن للعزامي القضاعي، ص 132 .
3. صحيح البخاري: ج 1، كتاب الإيمان ص 16 .
________________________________________
(295)
ولا يصحّ التسرّع في الحكم بمجرد المماثلة، لأنّ كل من ينذر لأحد من الأولياء فإنما يقصد النذر للّه، وإهداء الثواب للولي الصالح ليس إلاّ، ولا تجد في أديم الأرض من يسجّل اسمه في ديوان المسلمين إلاّ وينوي ذلك، نعم شذّ عنهم ابن تيمية ومن أحيى مسلكه حيث اتّهموا المسلمين بغير ذلك .يقول الشيخ الخالدي رداً على ابن تيمية:
«إنّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين، وإنما الأعمال بالنيات، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه، والتقرّب إليه بذلك، لم يجز ـ قولا واحداً ـ وإن كان قصده وجه اللّه تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه به، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له، وسواء عيّن وجهاً من وجوه الإنتفاع، أو أطلق القول فيه، وكان هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس، أو أقرباء الميت، أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور»(1) .
قال العزامي:
«...ومن استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات ـ من الأنبياء والأولياء ـ إلاّ الصدقة عنهم، وجعل ثواباها لهم، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات، واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة.
فمنها: ما صحّ عن سعد أنّه سأل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ قال: يا نبىّ اللّه إنّ اُمّي قد افتلتت، وأعلم أنها لو عاشت لتصدّقت أفإن تصدّقتُ عنها أينفعها ذلك؟
قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : نعم. فسأل النبي: أىّ الصدقة انفع يا رسول اللّه؟
قال: الماء .
________________________________________
1. صلح الأخوان: للخالدي، ص 102 وما بعده .
________________________________________
(296)
فحفر بئراً وقال: هذه لأُم سعد(1) .وقد أخطأ محمد بن عبدالوهاب فادّعى أن المسلم إذا قال: «هذه الصدقة للنبي أو للولي: فاللام بنفسها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرت للّه» يراد منها الغاية» .
بل العمل للّه، بينما لو قال: للنبي، يريد بها الجهة التي يصرف فيها الصدقة من مصالح النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في حياته ومماته.
وفي هذا الصدد يقول العزامي ـ بعد ذكر قصة سعد ـ :
«اللام في هذه لأُم سعد»، هي الام الداخلة على الجهة الّتي وجهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لا وثنيون، وهي كاللام في قوله تعالى: (إنّما الصّدقات للفرقاء) لا كاللام في قوله سبحانه: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحرَّراً)(2) أو في قول القائل: صلّيت للّه ونذرت للّه، فإذا ذبح للنبي أو الولي أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدق بذلك عنه، ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الأحياء للأموات، المشروعة، المثاب على إهدائها، والمسألة محرّرة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على الرجل ومن شايعه»(3) .
وهكذا ظهر لك ـ أيها القارىء ـ جواز النذر للأنبياء والأولياء من دون أن تكون فيه شائبة شرك، فيثاب به الناذر إن كان للّه وذبح المنذور باسم اللّه: فقول القائل «ذبحت للنبي» لا يريد أنه ذبحه للنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ بل يريد أن الثواب له، كقول القائل: ذبحت للضيف، بمعنى أن النفع له والفائدة له، فهو السبب في حصول الذبح .
ويوضح ذلك ما روي عن ثابت بن الضحاك قال:
________________________________________
1. لاحظ: فرقان القران ص 133 .
2. سورة آل عمران: الآية 35 .
3. فرقان الفرقان: ص 133 .
________________________________________
(297)
«نذر رجل عهد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أن ينحر إبلا بـ «بوانة» فأتى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فأخبره، فقال النبي:هل كان فيها من يعبد من أوثان الجاهلية؟
قالوا: لا .
قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟
قالوا: لا .
قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ للسائل: أوف بنذرك، فإنّه لا وفاء في معصية اللّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم»(1) .
وروي أيضاً:
«إنّ امرأة أتت النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فقالت: يا رسول اللّه... إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، كان يذبح فيه أهل الجاهلية .
فقال النبي: الصنم؟
قالت: لا .
قال: الوثن؟
قالت: لا.
قال: في بنذرك»(2) .
وعن ميمونة بنت كردم أنّ أباها قال لرسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : يا رسول اللّه إني نذرت إن ولد لي ذكر، أن أنحر على رأس بوانة «في عقبة من الثنايا» عدة من الغنم..
قال «الراوي عنها»: لا أعلم إلاّ أنها قالت: خمسين .
________________________________________
1. سنن أبي داود: ج 2 ص 80 .
2. سنن أبي داود: ج 2 ص 81 .
________________________________________
(298)
فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : هل من الأوثان شيء.قالت: لا .
قال: فأوف بما نذرت به لله...»(1) .
أرأيت أيّها القارىء ـ كيف يكرر النبي ـ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ السؤال عن جود الأصنام في المكان الّذي تذبح فيه الذبائح؟
إنّ هذا دليل على أنّ النذر الحرام هو النذر للأصنام، حيث كان ذلك عادة أهل الجاهلية، كما قال تعالى:
(وَمَا ذُبحَ عَلَى النُّصُبِ... ذَلِكُمْ فِسْقٌ)(2) .
ومن اطّلع على أحوال الزائرين للعتبات المقدسة ومراقد أولياء اللّه الصالحين يعلم جيداً أنهم ينذرون لله تعالى ولرضاه، ويذبحون الذبائح باسمه عزّوجلّ، بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها، وانتفاع الفقراء بلحومها، وبذلك تعرف سقوط كلمة محمد بن عبدالوهاب في اتّهام المسلمين بأنهم ينحرون للنبي، وِزانَ النحر لله سبحانه، حيث يلقِّن أتباعه الحجة ويقول: «فقل: فإذا عملت بقول اللّه تعالى: «فصل لربك» وأطعت اللّه ونحرت له هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإن نحرت لمخلوق: نبي أو أجنبي أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير اللّه؟ فلابد أن يقرّ ويقول: نعم» (3) .
والمسلمين تخيّل أنّ اللام في «هذا للنبي» نفس اللام في «نذرت لله» وقد عرفت أن إحداهما للغاية، والأُخرى للإنتفاع .
وختاماً لهذا الفصل نذكر كلمة للخالدي ـ بعد أن ذكر ما رواه أبو داود في سننه ـ قال:
________________________________________
1. سنن أبي داود: ج 2 ص 81 .
2. سورة المائدة: الآية 3 .
3. صلح الإخوان للخالدي، ص 109 .
________________________________________
(299)
«وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في اماكن الأنبياء والصالحين. زاعمين بأنّ الأنبياء والصالحين أوثان ـ والعياذ باللّه ـ وأعياد من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالاتهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء اللّه وأوليائه، حتّى سمّوهم أوثاناً، وهذا غاية التحقير لهم، خصوصاً الأنبياء، فإنّ من انتقصهم ولو بالكناية ـ يكفر ولا تقبل توبته ـ في بعض الأقوال ـ وهؤلاء المخذولون بجهلهم، يسمّون التوسل بهم عبادة، ويسمونهم أوثاناً، فلا عبرة بجالهة هؤلاء وضلالاتهم، واللّه أعلم»(1) .(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكينَاً وَيَتيمَاً وَأَسيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)(2) .
________________________________________
1. كشف الشبهات، ص 8 .
2. سورة الإنسان: الآية 7 - 9 .
التعلیقات