بين هارون الرشيد وموسى الكاظم عليه السلام
أبو علي البصري
منذ سنةبين هارون وموسى عليه السلام
القصيدة : للشيخ محمد علي اليعقوبي
يا ابن الاُلى بلغوا من كلّ مكرمة |
شأواً بعيد المراقي لم تنله يدُ | |
ما أنصفتكَ بنو الأعمام إذ قطعت |
أواصراً برسول الله تتّحدُ | |
أبكيك رهن السجون المظلمات وقد |
ضاق الفضا وتوالى حولك الرّصدُ | |
تمسي وتغدوا بنو العبّاس في فرحٍ |
وأنتَ في محبس السندي مضطهدُ | |
دسّوا إليكَ نجيع السمّ في عنبٍ |
فاخضرّ لونك مذ ذابت به الكبدُ | |
حتى قضيتَ غريباً فيه منفرداً |
للهِ ناءٍ غريب الدار منفردُ | |
أبكي لنعشك والأبصار ترمقه |
مُلقىً على الجسر لا يدنو له أحدُ | |
أبكيكَ ما بين حمّالين أربعة |
تشال جهراً وكلّ الناس قد شهدوا |
* * *
ليش بالسم يبن جعفر تنچتل |
أو للجسر بحديد سجنك تنحمل | |
والله عند امصيبتك فكري يحير |
هاي ما صارت أو لا ظنها تصير | |
مثلك انته أو للخصم تبگه أسير |
أو من سجن مظلم للآخر تنتقل | |
او سجن بن شاهك اِلك تالي السجون |
او هوَّه أشدهن والذي قبله ايهون | |
امحدّد ابطاموره واعليها العيون |
تمنع الحاول لعد شخصك يصل |
* * *
سيّدي امصابك فلا ساعة يروح |
عن خواطرنه او اِله بيهن اجروح | |
اشما نون اشما نحن اشما ننوح |
جمرة افراگك توج او تشتعل |
* * *
سيّدي ذَچر السجن لمّن يمر |
اگلوب المحبّين تتواگد جمر | |
او كل فرد لجلك يود يفدي العمر |
او دمع عينه اعليك من دم ايهمل |
* * *
وغريب بغداد ثوى في سجنه |
نائي الديار يحلّ دار الهون |
قال هارون ذات يوم للإمام وقد رآه في جانب الكعبة : هل أنت من بايعه الناس خفية ورضوا به إماماً ؟ فقال الإمام : « أنا إمام القلوب وأنتَ إمام الجسوم » (1).
لمن هذا القصر ؟
دَخَلَ الإمام الكاظم عليه السلام ذات مرّة أحد قصور هارون الضخمة في بغداد فراح هارون المغرور بسلطانه يتساءل ما هذه الدار ؟ فقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام بدون اكتراث بما حوله وبصراحة ، فقال عليه السلام : هذه دارُ الفاسقين ، قال : وقرأ : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ) (2).
فاستشاط هارون غضباً ... وهو يُخفي غضبه بصعوبة فقال : فدارُ مَن هي ؟ قال عليه السلام : « هي لشيعَتنا فترة ، ولغيرهم فتنة ».
قال هارون : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟
قال عليه السلام : « أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة » (3).
هارون رجل الشهوات والملذّات
لمّا أفْضَتْ الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي ، فراودها عن نفسها ، فقالت : لا أصلح لك أنّ أباك قد طاف بي ، فشغف هارون بها ولم يكن ليدعها ، فأرسل إلى أبي يوسف فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلّما ادّعت أمة شيئاً ينبغي أن تصدّق !! لا تصدّقها فإنها ليست بمأمونة (4).
( مع العلم أن الشريعة الإسلامية تقبل في هذه الحالات إقرار المرأة على نفسها بذلك ويكون هو الأساس الذي يرتّب الأثر عليه !! ولكن الشهوات ! )
الإسراف في الموائد
وأسرف هارون إسرافاً كثيراً على موائد الطعام فكان ينفق في كل يوم عشرة آلاف درهم ، وربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لوناً من الطعام (5).
وقدّمت له مائدة كانت فيها قطع صغيرة من السمك وضعت في أوان من الذهب فاستدعى رئيس الطباخين فلما مثل بين يديه ، قال له : ألم أعهد إليك أن لا تكون قطع السمك صغيرة ، فقال له : يا أمير المؤمنين هذه السنة السمك وضعتها لتكون زينة للمائدة فسأله عن ثمنها فقال أنها كلّفت أربعة آلاف درهم.
الإسراف في الجواري
وكان هارون يهب الأموال الجزيلة لجواريه ، ويجزل لهن في العطاء ، فقد روى المؤرخون أنه أوفد الحرشي إلى ناحية الموصل فجيى له أموالاً طائلة من بقايا الخراج ، فوافاه به ، فأمر بصرفه أجمع إلى بعض جواريه ، فاستعظم الناس في ذلك ، وتحدثوا به ، وأصاب أبو العتاهية من ذلك شبه الجنون ، فقال له خالد بن أبي الأزهر : ما لك يا أبا العتاهية ؟ فقال : سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة !! (6)
ولعه بالجواهر
وشغف هارون بالجواهر والأحجار الثمينة شغفاً كبيراً فبذل الأموال الطائلة لشرائها فاشترى خاتماً بمائة ألف دينار (7).
وكان ينثر الجواهر على جواريه بغير حساب.
ولعه بالغناء
وكان هارون مولعاً بالغناء منذ حداثة سنّه ، فقد نشأ بين أحضان المغنيات والمطربات ، واشتمل قصره على مختلف الالات الموسيقية (8) وقيل ان في قصره ثلثمائة جارية من الحسان يغنين ويعزفن ( نفس المصدر السابق ) وكان ابراهيم الموصلي وابن جامع وزلزل الضارب في الطبقه الاولى.
وبَلَغَ من ولع هارون وشغفه بالغناء انه طلب من شقيقته عُليّة أن تُغنّيه ، فقالت له : وحياتك لأعملن فيك شعراً ولأصنعنّ فيك لحناً وقالت من وقتها :
تفديك أختك قد حبوت بنعمة |
لسنا نعد لها الزمان عديلا |
الخ شعرها
وصنعت فيه لحناً من وقتها في مقام خفيف الرمل ، فطرب الرشيد عليه (9) وكان عُليّة في طليعة المغنيات في ذلك القصر ، وقد عَيَّرَ بها الأسرة العباسية أبو فرار الحمداني بقوله :
منكم عُليّةُ أم منهم وكان لكم |
شيخ المغنين ابراهيم أم لهمُ |
شربه للخمر
واندفع هارون إلى شرب الخمر والإدمان عليها ، وكان يدعو خواص جواريه إذا أراد الشراب (10). وكان يهدي لبعض أصحابه كؤوس الخمر مملوءة ( الاغاني ).
وان هارون وغيره من ملوك العباسيين لم يعنون بتحريم الاسلام للخمرة ، فعمدوا إلى شربها في وضح النهار وفي غلس الليل ، ومن المؤسف أن يُعد هارون وأشباهه من أئمة المسلمين ومن كبار قادتهم ثم يلتمس المعاذير لما اقترفوه من عظيم الاثم والمنكر ، وقد بالغ الجومرد في دفاعه عن هارون فنفى عنه شرب الخمر وقال انه ما شرب إلا النبيذ وليس ذلك محرماً في الاسلام (11).
لعبه بالنرد
ولم يترك هارون اي لون من المحرمات في الاسلام إلا ارتكبه فمن ذلك لعبه بالنرد ( لعبة وضعها أحد ملوك الفرس وتعرف عند العامة بلعب الطاولة ). وهو من أنواع القمار الذي حرمه الاسلام.
ولقد ساد اللهو ، وعمّت الدعارة ، وانتشر المجون ولَدهورت الأخلاق ، واقبرت الفضائل ، في عهد هارون.
موقف الإمام الكاظم من هارون
وتميز موقف الامام موسى عليه السلام مع حكومة هارون بالشدة والصرامة فقد حرم التعاون معها في جميع المجالات ، وقد ظهر هذا الموقف جلياً في حديثه مع صفوان فقد قال له الإمام : « يا صفوان ، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً ، فالتاع صفوان وذابت نفسه لعلمه بأنه لم يخلد إلى أي معصية فانبرى للامام قائلاً : جُعلتُ فداك أي شيء ؟!!
فقال : كراؤك جمالك من هذا الطاغية ـ يعني هارون ـ ، فقال صفوان : والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، فقال له الامام : يا صفوان ، أيقع كراك عليهم ؟ قال : نعم جعلت فداك ، فقال : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك ؟ قال : نعم ، فقال عليه السلام : من أحبَّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان وارداً للنار ».
أقول : موقف الامام عليه السلام صريح ومطابق للقرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ). وحذّر عليه السلام شيعته من الدخول في سلك حكومة هارون والتلبس بأي وظيفة من وظائف دولته ، فقال عليه السلام لزياد بن ابي سلمة : « يا زياد ، لأن أسقط من شاهق فأتقطع قطعة قطعة أحب إليَّ من أن أتولى لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم » (12).
كيفية سجن الإمام ؟
لما سافر هارون إلى مكة عام ١٧٩ هـ بدأ بقبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال مخاطباً للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يا رسول الله إنّي اعتذر إليك من شيء أريده ، أريد أن احبس موسى بن جعفر ، فانه يريد التشتت بين امتك !! وسفك دمائها ، ثم أمر به ، وكان الامام عليه السلام روحي فداه عند رأس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائم يُصلّي فقطع صلاته وحمل وهو يبكي ويقول : إليك اشكو يا رسول الله ما يرد على أهل بيتك من شرار أمتك ، وأقبل الناس من كل جانب يبكون ويضجون ، فلما حمل إلى بين يدي الرشيد ، سلّم على الرشيد فلم يرد عليه السلام وشتمه وسبه وجفاه وقَيَّدهُ وغلّله فلما جنَّ عليه الليل أمر بقبتين فهيأ له فحمل موسى بن جعفر عليه السلام إلى أحدهما في خفاء ودفعه إلى حسان السروي وأمره أنْ يسيرَ به في قبة إلى البصرة فيسلمه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر وهو اميرها آنذاك ، ووجه قُبة أخرى علانية نهاراً إلى الكوفة معها جماعة ليعمي على الناس أمر موسى بن جعفر ، فقدم حسان البصرة قبل التروية بيوم فدفعه إلى عيسى بن أبي جعفر نهاراً علانيةً حتى عرف ذلك وشاع أمره فحبسه عيسى في بيت من بيوت المجلس الذي يجلس فيه وأقفل عليه وشغله عند العبيد فكان لا يفتح عنه الباب إلّا في حالتين حال يخرج فيها إلى الطهور وحال يدخل اليه فيها الطعام ، قال نصراني من كتاب عيسى لقد سمع هذا الرجل الصالح في أيامه في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش ، وحبس عنده سنة كاملة ثم كَتَبَ إلى الرشيد ان خذه منّي وسلّمهُ إلى مَنْ شئتَ وإلا خلّيتُ سبيلَهُ ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما أقدر على ذلك حتى أني لأستمع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلا لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة ، فوجّه مَن تسلمه منه وحُمِل سراً إلى بغداد ، إلى أن مضى شهيداً مسموماً غريباً في سجن السندي بن شاهك.
تنوح املاكها والكون مرجون |
على اللي مات ويلي ابحبس هارون |
* * *
امن البصرة السجن بغداد جابه |
ابحديد او قيد ويدور ذهابه | |
او ذبه ابسجن مظلم غلگ بابه |
او نهه السجان يمه الناس يصلون |
* * *
ابسجن والسندي بن شاهك السجان |
عليه ابكل وكت مغلج البيبان | |
او تم اسنين للوادم فلا بان |
ما يدرون ميت والّه مسجون |
* * *
عگب گيده او حديده او ذيچ الاغلال |
دس له ابرطب سم گاطع او چتّال | |
أكل بعضه او منّه نال ما نال |
حسبكم قال نلتوا ما تريدون |
* * *
طلع عنّه أو عافه او هاي حاله |
يعالج بالسجن محّد دناله | |
او عگب ما مات جاب النعش شاله |
أو تعرفونه الذي شالوا أو تدرون |
* * *
وبمجلس شرطته النعش خلّوه |
عليه ناده النده والناس سمعوه | |
امام الرافضة هذا التعرفوه |
او آمر على الجسر قاموا يعبرون |
* * *
اولن امن القصر مشرف سليمان |
نعش باب الحوائج لاح اله او بان | |
يگلهم هلجنازة مالها أعوان |
غريبه او ما وراها ناس يمشون |
* * *
گالوا له غريب اهله امبينين |
لاچن بالمدينة اعليه بعيدين | |
ابن عمك الكاظم گال هالحين |
دروحوا جيبو نعشه لا تخافون |
* * *
وبمفرگ طرقها عليه ناده |
هذا الطيب او طيبه اجداده | |
او سوه ابعكس ما هارون راده |
ناده اعليه هذا البيه تنجون |
* * *
النسب والرحم لسليمان جابه |
عليه او دحجته اهروش النجابه | |
بس لحسين ما بيّن گرابه |
يغسلونه او يچفنونه او يدفنون |
* * *
ما غسّلوه ولا لفوه في كفن |
يوم الطفوف ولا مدوا عليه ردا |
الهوامش
1. سيرة الأئمة ص ٣٨٨ ، نقلاً عن الصواعق المحرقة ص ٢٠٤.
2. الأعراف : ١٤٦.
3. نفس المصدر السابق ص ٣٩١ ، نقلاً عن بحار الانوار ج ٤٨ ، ص ١٣٨.
4. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩١.
5. حياة الامام موسى بن جعفر للقرشي ص ٣٩ نقلاً عن المستطرق ص ٣٤١.
6. الأغاني ٤ / ٦٧.
7. ابن الأثير ، ج ٦ ، ص ٤٤.
8. التمدن الاسلامي ٥ / ١١٨.
9. سيدات البلاط العباسي ص ٢٨.
10. باقر شريف القرشي حياة الامام موسى الكاظم.
11. هارون الرشيد ١ / ٢٦٧.
12. باقر شريف القرشي ، حياة موسى بن جعفر ج ٢ ، ص ٧٤.
مقتبس من كتاب : مجالس في رحاب الإمام المعذّب في قعر السجون / الصفحة : 19 ـ 26
التعلیقات