متى طرحت فكرة الشورى
السيد علي الميلاني
منذ 6 سنواتمتى طرحت فكرة الشورى
إذن ، متىٰ جاء ذكر الشورىٰ ؟ ومتىٰ طرحت هذه الفكرة ؟ في أيّ تاريخ ؟ ولماذا ؟ وحتّىٰ عمر أيضاً لم تكن عنده هذه الفكرة ، وإنّه كان مخالفاً لهذه الفكرة ، وإنّما كان قائلاً بالنص :
منها : قوله : لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته (1).
ومنها : قوله : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته (2).
ومنها : قوله : لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته (3).
إذن ، ما الذي حدث ؟ ولماذا طرحت هذه الفكرة فكرة الشورى ؟
هذه الفكرة طرحت وحدثت بسبب ، سأقرؤه الآن عليكم من صحيح البخاري ، وهو أيضاً في : سيرة ابن هشام ، وأيضاً في تاريخ الطبري ، وأيضاً في مصارد اُخرىٰ ، وهناك فوارق بين العبارات ، والنصّ تجدونه قد تلاعبوا به ، لا أتعرّض لتلك الناحية ، ولا أبحث عن التلاعب الذي حدث منهم في نقل القصّة ، وإنّما أقرأ لكم النصّ في صحيح البخاري ، لتروا كيف طرحت فكرة الشورىٰ من قبل عمر في سنة ٢٣ هـ ، وأرجوكم أن تنتظروا إلىٰ آخر النصّ ، لأن النصّ طويل ، وتأمّلوا في ألفاظه وسأقرؤه بهدوءٍ وسكينة :
حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله ، حدّثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب [ وهو الزهري ] عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : كنت [ ابن عباس يقول ، والقضية أيضاً فيها عبد الرحمن بن عوف كما سترون ] أُقرىء رجالاً من المهاجرين [ اُقرؤهم يعني القرآن ] منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنىٰ [ القضيّة في الحجّ ، وفي منىٰ بالذات ، وفي سنة ٢٣ من الهجرة ] وهو عند عمر بن الخطاب [ أيّ : عبد الرحمن بن عوف كان عند عمر بن الخطاب ] في آخر حجّة حجّها ، إذ رجع إليّ عبدالرحمن فقال : لو رأيت رجلاً أتىٰ أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلته فتمّت ، فغضب عمر ثمّ قال : إنّي إنْ شاء الله لقائم العشيّة في الناس ، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم.
[ لاحظوا القضيّة : عبد الرحمن كان عند عمر بن الخطاب في منىٰ ، فجاء رجل وأخبر عمر أنّ بعض الناس كانوا مجتمعين وتحدّثوا ، فقال أحدهم : لو قد مات عمر لبايعنا فلاناً فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة ، في البخاري فلان ، وسأذكر لكم الإسم ، وهذا دأبهم ، يضعون كلمة فلان في مكان الأسماء الصريحة ، فقال قائل من القوم : والله لو قد مات عمر لبايعت فلاناً. القائل من ؟ وفلان الذي سيبايعه من ؟ لبايعت فلاناً ، يقول هذا القائل : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت ، لكن سننتظر موت عمر ، لنبايع فلاناً ، لمّا سمع عمر هذا المعنىٰ غضب ، وأراد أن يقوم ويخطب ].
قال عبد الرحمن فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإنّ الموسم يجمع رعاء الناس وغوغائهم ، فإنّهم هم الذين يغلبون علىٰ قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشىٰ أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها علىٰ مواضعها ، فأمهل حتّىٰ تقدم المدينة ، فإنّها دار الهجرة والسنّة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّناً ، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها علىٰ مواضعها ، فقال عمر : أما والله إنْ شاء الله لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.
[ فتفاهما علىٰ أن تبقى القضيّة إلىٰ أن يرجعوا إلىٰ المدينة المنوّرة ].
قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجّة ، فلمّا كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس ، حتّىٰ أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلىٰ ركن المنبر ، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أنْ خرج عمر بن الخطّاب ، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولنّ العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف ، فأنكر عَلَيّ ـ سعيد بن زيد ـ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ؟ فجلس عمر علىٰ المنبر ، فلمّا سكت المؤذّنون قام فأثنىٰ علىٰ الله بما هو أهله ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّي قائل لكم مقالة ، قد قدّر لي أن أقولها ، لا أدري لعلّها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحلّ لأحد أنْ يكذب عَلَيّ ، إنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه وسلّم بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل آية الرّجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشىٰ إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضل بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حقّ علىٰ من زنىٰ إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البيّنة ، أو كان الحبل أو الاعتراف. ثمّ إنّا كنّا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أنْ ترغبوا عن آبائكم [ هذا كان يقرؤه في كتاب الله عمر بن الخطّاب ، وهذا ليس الآن في القرآن المجيد ، فيكون دليلاً من أدلّة تحريف القرآن ونقصانه ، إلّا أنْ يحمل علىٰ بعض المحامل ، وعليكم أن تراجعوا كتاب التحقيق في نفي التحريف ] ثمّ يقول عمر بن الخطّاب : ثمّ إنّ رسول الله قال : لا تطروني كما أُطري عيسىٰ بن مريم ، وقولوا عبدالله ورسوله.
ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلاناً ، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول : إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكنّ الله وقىٰ شرّها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً [ اسمعوا هذه الكلمة ] من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أنْ يقتلا.
وإنّه قد كان من خبرنا حين توفّىٰ الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أنّ الأنصار خالفونا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف علينا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلىٰ أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلىٰ إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلمّا دنونا منهم ، لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالا عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم أخذوا أمركم ، فقلت : والله لنأتينّهم ، فانطلقنا حتّىٰ أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ قالوا : يوعك ، فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنىٰ علىٰ الله بما هو أهله ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفّت دافّة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلها ، وأن يحضوننا من الأمر.
فلمّا سكت أردت أن أتكلّم ، وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أُريد أنْ أُقدّمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أُداري منه بعض الحد ، فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر : علىٰ رسلك ، فكرهت أن أُغضبه ، فتكلّم أبو بكر ، فكان هو أحلم منّي وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزوير إلّا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها ، حتّىٰ سكت ، فقال :
ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين [ يعني أبو عبيدة وعمر ] فبايعوا أيّهما شئتم ، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره ممّا قال غيرها ، كان والله لأن أُقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر علىٰ قوم فيهم أبو بكر ، اللهمّ إلّا أن تسوّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار : أنا جذيله المحكك وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فكثر اللّغط وارتفعت الأصوات ، حتّىٰ فرقت من الاختلاف.
فقلت : أُبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ، فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثمّ بايعته الأنصار ، ونزونا علىٰ سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل الله سعد بن عبادة.
قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوىٰ من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ، فإمّا بايعناهم علىٰ ما لا نرضىٰ ، وإمّا نخالفهم فيكون فساد.
فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.
هذه خطبة عمر بن الخطاب التي أراد أن يخطب بها في منىٰ ، فمنعه عبدالرحمن بن عوف ، فوصل إلىٰ المدينة ، وفي أوّل جمعة خطبها ، ولماذا في أوائل الخطبة تعرّض إلىٰ قضيّة الرجم ؟ هذا غير واضحٍ عندي الآن ، أمّا فيما يتعلّق ببحثنا ، فالتهديد بالقتل للمبايع والمبايع له مكرّر ، فقد جاء في أوّل الخطبة وفي آخرها بكلّ صراحةٍ ووضوح : من بايع بغير مشورة من المسلمين هو والذي بايعه يقتلان كلاهما.
أمّا من فلان المبايع ؟ وفلان المبايع له ؟ وما الذي دعا عمر بن الخطّاب أن يطرح فكرة الشورىٰ ، وقد كان قد قرّر أن يكون من بعده عثمان كما قرأنا ؟
الحقيقة : إنّ أمير المؤمنين وطلحة والزبير وعمّار وجماعة معهم كانوا في منىٰ ، وكانوا مجتمعين فيما بينهم يتداولون الحديث ، وهناك طرحت هذه الفكرة أن لو مات عمر لبايعنا فلاناً ، ينتظرون موت عمر حتّىٰ يبايعوا فلاناً ، اصبروا حتّىٰ نعرف من فلان ؟ ثمّ أضافوا أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فأولئك الجالسون هناك ، الذين كانوا يتداولون الحديث فيما بينهم قالوا : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً ، يريدون أنّ تلك الفرصة مضت ، وإنّا قد ضيّعنا تلك الفرصة ، وخرج الأمر من أيدينا ، لكن ننتظر فرصة موت عمر فنبايع فلاناً ، قالوا هذا الكلام وفي المجلس من يسمعه ، فأبلغ الكلام إلىٰ عمر ، وغضب عمر وأراد أن يقوم هناك ويخطب ، فمنعه عبدالرحمن بن عوف.
وفي المدينة اضطرّ الرجل إلىٰ أن يذكر لنا بعض وقائع داخل السقيفة ، وإلّا فمن أين كنّا نقف علىٰ ما وقع في داخل السقيفة ، وهم جماعة من الأنصار وأربعة أو ثلاثة من المهاجرين ، ولابد أن يحكي لنا ما وقع في داخل السقيفة أحد الحاضرين ، والله سبحانه وتعالىٰ أجرىٰ علىٰ لسان عمر ، وجاء في صحيح البخاري بعض ما وقع في قضيّة السقيفة ، وإلّا فمن كان يحدّثنا عمّا وقع ؟.
يقول عمر : إرتفعت الاصوات ، كثر اللّغط ، حتّىٰ نزونا علىٰ سعد بن عبادة ، هذا بمقدار الذي أفصح عنه عمر ، أمّا ما كان أكثر من هذا ، فالله أعلم به ، ما عندنا طريق لمعرفة كلّ ما وقع في داخل السقيفة ، والقضيّة قبل قرون وقرون ، ومن يبلّغنا ويحدّثنا ، لكن الخبر بهذا القدر أيضاً لو لم يكن في صحيح البخاري فلابدّ وأنّهم كانوا يكذّبون القضيّة.
ثمّ إنّ عمر أيّد قول القائلين إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وهذا أيضاً أيّدهم فيه ، لكنْ يريد الأمر لمن ؟ يريده لعثمان من بعده ، فهل يتركهم أن يبايعوا بمجرّد موته غير عثمان ، فلابدّ وأن يهدّد ، فهدّدهم وجاءت الكلمة : فلان وفلان ، وليس هناك تصريح في الاسم كما في كثير من المواضع.
الهوامش
1. مسند أحمد ١ / ١٨ ، سير أعلام النبلاء : الجزء الأوّل ، وغيرهما.
2. الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٣٤٣.
3. مسند أحمد ، الطبقات ، سير أعلام النبلاء : بترجمة معاذ.
مقتبس من كتاب : [ الشورى في الإمامة ] / الصفحة : 25 ـ 34
التعلیقات