لماذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةلماذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير ؟
إنّ هاهنا اعتراضاً على تنصيب عليّ في مقام الولاية والخلافة ، بأنّه لو كان الأمر كذلك ، فلماذا يأخذه الصحابة مقياساً بعد النبي. وليس من الصحيح إجماع الصحابة ، وجمهور الأمّة على ردّ ما بلّغه النبي في ذلك المحتشد العظيم.
والجواب :
إنّ ذلك أقوى مستمسك لمن يريد التخلّص من الإعتناق بالنصّ المتواتر الجلي في المقام ، ولكنّه لو رجع إلى تاريخ الصحابة ، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسيّة ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل. وفيما يلي نذكر نماذج من هذا الإجتهاد المرفوض قبال النصّ.
1 ـ رزيّة يوم الخميس
كلّ من ألمّ بالحديث والتاريخ ، يعرف حديث « رزيّة يوم الخميس » ، الذي رواه الشيخان وغيرهما ، أخرج البخاري عن ابن عبّاس ، قال : لما حُضر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي : « هلمّ أكتب لكم كتاب لا تضلّوا بعده أبداً » ، فقال عمر : « إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ». فاختلف أهل البيت ، فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا ، يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم يقول ما قال عمر. لما أكثروا اللغو والإختلاف عند النبي ، قال لهم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : قوموا.
قال عبد الله بن مسعود : فكان ابن عبّاس يقول : « إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم » (1).
2 ـ سرية أسامة
قد اهتمّ النبي ببعث سرية أُسامة بن زيد اهتماماً عظيماً ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها ، وحثّهم عليها ، ثمّ عبّأهم بنفسه الزكيّة ، إرهافاً لعزائمهم ، استنهاضاً لهممهم ، فلم يُبْق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر ، وعُمَر ، وأبي عبيدة ، وسعد ، وأمثالهم ، إلّا وقد عبّاه بالجيش ، وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر ، سنة إحدى عشرة للهجرة ، فلمّا أصبح يوم التاسع والعشرين ، ووجدهم مُثّاقلين ، خرج إليهم فحضّهم على السير ، وعقد اللواء لأسامة بيده الشريفة ، إرهافاً لعزيمتهم ثمّ قال : « أغز باسم الله ، وفي سبيل الله ». فخرج بلوائه معقوداً ، فدفعه إلى بريدة ، وعسكر بالجزف.
ثمّ تثاقلوا هناك ، فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم كقوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » ، فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة » ، وقال قوم : « قد اشتدّ مرض النبي ، فلا تسع قلوبنا مفارقته ، والحالة هذه ، فنصبر حتّى نبصر أيّ شيء يكون من أمره » (2).
وقد أغضب النبيَّ تثاقُلُهم ، حتّى قال : « جَهِّزوا جيش أُسامة ، لَعَنَ الله من تخلّف عنه » ، فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره ، وأُسامة قد برز من المدينة » ، وقال قوم : « قد اشتدّ مرض النبي ، فلا تسع قلوبنا مفارقته ، وحالة هذه ، فنصبر حتّى نبصر أيّ شيء يكون من أمره » (3).
ثمّ إنّ مَنْ ذَكَرَ تخلُّفَ القومِ عن أسامة ، حاول تعليل تخلّف الصحابة ، فقال بأنّ الغرض منه إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب ، وتسكين نائرة الفتنة والمؤثرة عند تقلّب القلوب (4).
فإذا صحّ هذا العذر ، فليصحّ في حديث الغدير ، فإنّ القوم ـ أكثرهم لا جميعهم ـ ثقل عليهم إمامة علي بن أبي طالب الذي قتل من أبناء القوم إخوانهم يوم بدر وحنين وغيرهما ، ما قتل ، فرجّحوا مخالفة الحديث حفظاً للوحدة ، أو لغير ذلك من هذه المبرّرات ـ عند القوم ـ للإجتهاد تجاه النصّ.
كما أنّهم في نفس القضيّة ، طعنوا في إمارة أسامة ، طعناً عظيماً ، وأقلّ ما قالوه ، إنّ النبيّ قد أمّر شاباً غير مجرّب على شيوخ القوم وأكابرهم !!.
3 ـ صُلح الحُديبيّة واعتراض القوم
إنّ النبي الأكرم صالح قريشاً في الحديبيّة لمصالح عالية ، كشف المستقبل عنها بوضوح. ولما تمّ كتاب الصلح ، اعترض عليه لفيف من الصحابة ، حتّى تصوّروا أنّه من باب إعطاء الدنيّة في طريق الدين.
روى مسلم في باب صلح الحديبيّة أنّ عمر قال لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « أو لسنا على الحقّ ، وهم على الباطل ؟ قال : « بلى ». قال : « ففيهم نعطي الدّنية في ديننا ، ونرجع وَلمّا يحكم الله بيننا وبينهم » ؟. فقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « يا ابن الخطاب ، إنّي رسولُ الله ، ولن يضيّعني أبداً » (5).
فانطلق عُمَر ، ولم يصبر متغيظاً ، فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على حقّ وهم على باطل ، قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قال : فعلى مَ نعطي الدنيّة في ديننا ، ونرجع ولّما يحكم الله بيننا وبينهم. فقال : يا ابن الخطاب ، إنّه رسول الله ، ولن يُضَيِّعه الله أبداً.
فلمّا فرغ رسول الله من الكتاب قال لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثمّ احلقوا. قال الرواي : فوالله ما قام منهم رجل حتّى قال ذلك ثلاث مرّات. فلمّا لم يقم منهم أحد ، دخل خباءه ، ثمّ خرج فلم يكلّم أحداً منهم بشيء ، حتّى نحر بدنه بيده ، ودعا حالقه ، فحلق رأسه. فلمّا رأى أصحابه ذلك قاموا ، فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتّى كاد بعضهم يقتل بعض (6).
ولسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبي وتعليماته ، فإنّ المخالفة لا تقتصر عليما ذكرنا بل تربوا على نيف وسبعين مورداً ، استقصاها بعض الأعلام (7).
وعلى ضوء ذلك ، لا يكون ترك العمل بحديث الغدير ، من أكثريّة الصحابة دليلاً على عدم تواتره ، أو عدم تماميّة دلالته.
والمشكلة كلّها في هذا الباب ، هي التعرّف على حكم الصحابة من حيث العدالة ، فإنّ القوم ألبسوا مجموع الصحابة لباس العصمة ، وحلّوهم أجمعين بحلية التقوى والعفاف ، على وجه لا يكادون يخالفون الكتاب والسنّة قيد شعرة ، فالصحابة بمجموعهم معصومون لا يخطئون. فمن كانت هذه عقيدته ، فيشكل عليه القول بأنّ القوم خالفوا تنصيص النبي وتنصيبه لعلي ـ عليه السَّلام ـ.
ولكنّها عقيدة تضاد كتاب الله وسنّته ، والتاريخ. فمن درس حياة الصحابة في ضوء الكتاب والسنّة النبويّة والتاريخ الصحيح ، يقف على أنّ فيهم صالحاً وطالحاً ، كسائر أفراد المجتمعات البشريّة ، وليس السلف خيراً من الخلف ، بل السلف والخلف على وتيرة واحدة ، ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (8).
الهوامش
1. أخرجه البخاري ، في غير مورد ، لاحظ ج 1 ، باب كتابة العلم ، الحديث 3 ; و ج 4 ، ص 70 ; و ج 6 ، ص 10 ; من النسخة المطبوعة سنة 1314. والإمام أحمد في مسنده ج 1 ، ص 355 ، وفيه عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس. ثمّ نظرت إلى دموعه على خدّيه تحدر كأنّها نظام اللؤلؤ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، إئتوني باللوح والدواة ، أو الكتف ، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً. فقالوا : « رسول الله يَهْجُر » !!.
2. الملل والنحل ، للشهرستاني ، ج 1 ، ص 23.
3. الملل والنحل ، للشهرستاني ، ج 1 ، ص 23.
4. المصدر سابق نفسه.
5. صحيح مسلم ، باب صلح الحديبيّة ، ج 5 ، ص 175 ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، ج 2 ، ص 114 حيث استغفر للمحلقين ورأى بعضهم غير محلق.
6. صحيح البخاري ، ج 2 ، كتاب الشروط ، ص 81.
7. لاحظ كتاب النصّ والإجتهاد ، للسيّد الإمام شرف الدين ، وهو كتاب ممتع مليء بالأحداث الّتي قُدّم فيها الإجتهاد الخاطئ ـ لا الصحيح فإنّه تبع النصّ ـ على النصّ النبوي الجليّ.
8. سورة فاطر : الآية 32 ، وقد أشبع الأستاذ دام حفظه ، الكلام في حال الصحابة من حيث البرهان والعاطفة في بحوثه في الملل والنحل ، فلاحظ : ج 1 ، ص 191 ـ 228.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 99 ـ 103
التعلیقات