هل الحسنة و السيئة من الله أو من العبد ؟
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 365 ـ 369
(365)
أسئلة وأجوبة حول اختيار الإِنسان
السؤال الأوّل
هل الحسنة و السيئة من اللّه أو من العبد؟
ربما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر الإِختلاف في قضاء القرآن في
مبدأ الحسنة و السيئة حيث يرى في الآيتين التاليتين أقضية ثلاثة في مصادرهما
و مبادئهما :
1 ـ ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحَسَنة إلى اللّه و السيئة
إلى النبي ، كما يحكي عنه قوله تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ }(1) ، تطيّراً بوجود النبي ،
كما تطيروا بغيره في الأُمم السالفة .
2 ـ ما يذكره سبحانه في نفس الآية ردّاً عليهم بأنَّ الحسنة و السيئة كلٌّ
مِن عند اللّه ، حيث قال: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(2).
3 ـ ما ذكره تعالى في الآية التالية حيث نسب الحسنة إلى اللّه و السيئة
إلى العبد ، فجعل منشأ الأولى هو الباري تعالى ، و منشأ الثانية الإِنسان يقول :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء: الآية 78.
(2) سورة النساء: الآية 78.
________________________________________
(366)
{ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }(1).
فكيف التوفيق بين القضاء الثاني و الثالث.
أمّا الجواب ، فنقول : إنَّه سبحانه نقل عن الفراعنة نظرية أشدّ بطلاناً
ممّا نقله عن المنافقين ، حيث كانوا ينسبون الحسنات إلى أنفسهم والسيئات
إلى موسى ـ عليه السَّلام ـ . قال سبحانه: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ
وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }(2).
و القرآن يجيب عن هذا القضاء المنقول عن المنافقين و الفراعنة ، فيرد
على الأوّل بأنَّه مبني على وجود مؤثرين مستقلين في عالم الوجود ، لكل
واحد فعل خاص ينافي فعل الآخر ، حيث قال: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(3).
كما ردّ على نظرية الفراعنة بقوله: { أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(4) . فلا كلام في بطلان ما قضى به المنافقون
و الفراعنة ، و إنّما نركز البحث على القضاءين المختلفين الواردين في القرآن
الكريم فنقول :
إنَّ المراد من الحسنة والسيئة في الآية ، بقرينة وقوعها في سياق آيات
الجهاد هو الغلبة فيه أو الهزيمة ، فعمت الأولى المسلمين في غزوة بدر ،
كما شملتهم الهزيمة في أُحُد ، فأراد المنافقون أو ضعفاء العقول الإِزراء
بالنبي ، و أنَّ الغلبة في غزوة بدر كانت من اللّه سبحانه و الهزيمة من النبي
لسوء القيادة ، فكانوا يتبجحون بهذه الفكرة تعييراً بالنبي و تضعيفاً لعقول
المسلمين ، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأنَّ الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء: الآية 79.
(2) سورة الأعراف: الآيتان 130 و 131.
(3) سورة النساء: الآية 78.
(4) سورة الأعراف: الآية 131.
________________________________________
(367)
مورد الآية ، و كثرة الثمار و شمول الخصب كما في مورد الفراعنة ، و السيئة
بقول مطلق كالهزيمة في مورد البحث و نقص الثمرات و عموم الجدب في
مورد الفراعنة ، كلها من اللّه سبحانه ؛ إذ لا مؤثر في الوجود إلاَّ هو ، و لا
خالق غيره ، فما يصيب الإِنسان ممّا يستحسنه طبعه ، أو يسوؤه كله من اللّه
تعالى ، فهو خالق الأكوان و الحوادث ، و إنَّ سلسلة الوجود تنتهي إليه
سبحانه . و بذلك يعلم أنَّ المراد من الحسنة و السيئة نظير هذه الأُمور لا
الأفعال الإِختيارية التي يقوم بها الإِنسان في حياته ، فالآيات الواردة في هذا
المجال منصرفة عنه ، فمقتضى التوحيد الأفعالي نسبة الكلّ إلى اللّه
سبحانه . هذا هو وجه القضاء الأوّل.
وأمَّا الآية الثانية التي تفكك بين الحسنة و السيئة ، فتنسب الأُولى إلى
اللّه و السيئة إلى الإِنسان ؛ فإنمّا هي ناظرة إلى مناشئهما و مبادئهما ، فلا شكّ أنَّ
الإِنسان لا يستحق بذاته شيئاً من النعم التي أنعمها اللّه عليه ، و أنَّ كل النعم
و الحسنات تصيبه تفضلاً من اللّه سبحانه و كرامة منه ، ولأجل ذلك قال
سبحانه: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } ، و الخطاب و إن كان للنبي ،
ولكنه من قبيل الخطابات القرآنية التي يخاطب بها النبي و يقصد منها كل
الناس ؛ قال سبحانه: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ}(1) . ومن هنا يركز القرآن على أنَّ مبدأ الحسنة هو اللّه
سبحانه .
و أمَّا السيئة فهي و إن كانت من عند اللّه ، ولكن لو استقرأ الإِنسان مناشئ
الهزائم و الإِنكسارات أو البلايا و النوازل يجد أن المجتمع الإِنساني هو المنشأ
لنزولها ، و أخذهم بها . قال سبحانه: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ}(2) . و قد تقدم في البحث عند البداء ما يفيدك في المقام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر: الآية 65.
(2) سورة الأعراف: الآية 96.
________________________________________
(368)
وبذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية
والضّلالة حيث يقول سبحانه : { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ *
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ}(1) . فترى أنَّه سبحانه يَأْمُر عَبْدَهُ بأن ينسب الضلالة إلى نفسه
والهداية إلى ربِّه ، مع أنَّه سبحانه ينسبهما في آيات أُخرى إلى نفسه و يقول:
{ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) . و ما هذا
إلاَّ لأنّ الهداية و الضلالة بما أنّهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجوداً
إلى اللّه سبحانه ، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه . و أمَّا من
حيث المناشئ و الحوافز التي تنزلهما إلى العبد ، فبما أنَّ الهداية نعمة من
اللّه سبحانه لا يستحقها الإِنسان بذاته ، بل تعمه كرامة منه تعالى ، فينسبها
إلى اللّه تعالى من هذه الجهة و يقو ل: { وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ
رَبِّي } .
و بما أنَّ الضلالة نقمة يستحقها الإِنسان لتقصيره في اتباع الرسل
و الإِهتداء بالكتب ، صارت أولى بأن تنسب إلى العبد ، و يقول :{ قُلْ إِنْ
ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي }.
وبهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الإِختلاف بين نظائر هذه الآيات.
وبكلمة واحدة ، إنَّ الآيات من حيث المساق مختلفة ، فعندما يلاحظ
الظاهرة ـ سواء أكانت حسنة أو سيئة ، هداية أو ضلالة ـ بما أنَّها من الأمور
الواقعية الإِمكانية ، لا تتحقق إلاَّ بالإِنتماء إلى الواجب تعالى و الصدور منه ،
ينسبها إلى اللّه تعالى . و عندما يلاحظها من حيث المناشئ و الدواعي التي
تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فليس للحسنة و الهداية منشأ إلاَّ اللّه
تعالى ، كما أنَّه ليس للسيئة و الضلالة منشأ ، سوى تقصير العبد في حياته
كما عليه الآيات الكثيرة . و لأجل ذلك نرى أنَّ الحديث القدسي المنقول عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة سبأ: الآيتان 49 و 50.
(2) سورة إبراهيم: الآية 4.
________________________________________
(369)
النبي ـ صلى اللّه عليه و آله ـ يفرق بين الحسنة و السيئة مع أنّ الكل يوجد
بحوله و قوته سبحانه ، يقول : « يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء
لنفسك ما تشاء ، و بنعمتي أديَّت إليَّ فرائضي ، و بقدرتي قويت على
معصيتي ، خلقتك سميعاً بصيراً ، أنا أولى بحسناتك منك ، و أنت أولى
بسيئاتك مني » (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحارالأنوار : ج 5، كتاب العدل و المعاد ، الباب الأوّل الحديث3، ص 4. و لاحظ
ص 56.
التعلیقات
١