الإيمان وأحكامه
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةالإيمان وأحكامه
الإيمان ، من الأمن ، وله في اللغة معنيان متقاربان ، أحدهما : الأمانة ، التّي هي ضدّ الخيانة ، و معناها سكون القلب. والآخر : التصديق ، والمعنيان متدانيان. (1)
و المراد هنا هو المعنى الثاني ، فيقال : آمن به ، إذا أذعن به وسكنت نفسه واطمأنّت بقوله ، وهو تارة يتعدّى بالباء كما في قوله تعالى : ( آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ ) (2) ، وأُخرى باللام ، كما في قوله تعالى : ( وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) (3) و قوله تعالى : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) (4).
وهذه الآيات تدلّ على أنّ الإيمان هو التصديق القلبي ، و يؤكّده قوله سبحانه ( أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ )(5) ، وقوله سبحانه : ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (6) ، وقوله سبحانه : ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (7).
وتؤكّده آيات الطبع و الختم ، فانّها تعرب عن كون محلّ الإيمان هو القلب ، كما يقول سبحانه : ( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (7) ويقول سبحانه ( وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (8). والختم على السمع و البصر لأجل كونهما من أدوات المعرفة التّي يستخدمها القلب.
والمآل هو القلب. فالامعان في هذه الآيات يثبت أنّ الايمان هو التصديق القلبي ، وأمّا أنّ هذا المقدار من الايمان يكفي في نجاة الانسان أو لا ، فهو بحث آخر ، إذ من الممكن أن يكون للإيمان في مجال النجاة شروط أُخر.
سؤال :
لو كان الإذعان القلبي كافياً في صدق الإيمان ، فلماذا يندد سبحانه بجماعة من الكفّار بأنّهم جحدوا الحقيقة بألسنتهم وإن استيقنوها بقلوبهم ، مع أنّهم على التعريف الّذي ذكرناه ، مؤمنين. يقول سبحانه : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (9) ، و يقول سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) (10) ، و يقول سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (11). فهذه الآيات تدلّ على عدم كفاية التصديق القلبي في صدق الايمان.
جوابه :
إنّ الايمان هو التصديق ، وأمّا التنديد ، فلأنّ ظاهرهم كان مخالفاً لباطنهم ، فكانوا يتظاهرون بالنفاق ، ولولا التظاهر بالخلاف ، بأن لا يجحدوا بعد الاستيقان ، و لا يكفروا باللسان ما عرفوه قبلاً ، لكانوا مؤمنين حقّاً.
نعم ، لا يمكن الحكم بإيمانهم في مجال الإثبات إلّا إذا دلّ الدليل على إذعانهم قلباً ، وهذا خارج عن موضوع البحث.
سؤال :
ما هو الأثر المترتّب على التصديق القلبي ؟
جوابه :
الإيمان بهذا المعنى ، موضوع للأثر في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا ، فحرمة دمه وعرضه وماله ، إلّا أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.
وأمّا في الآخرة ، فصحة أعماله ، واستحقاق الثواب عليها ، وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة في بعض المراحل.
سؤال :
إنّ التصديق اللساني ، أيضاً له أثره الدنيوى من حرمة الدم والعرض والمال ؟
جوابه :
إنّ التصديق اللساني بما أنّه كاشف عن التصديق القلبي ، يترتّب عليه ذلك الأثر فالأثر للمكشوف عنه لا للكاشف ، وإلّا فلو تبيّن نفاقه ، وأنّه يتظاهر بما ليس في القلب ، فلا حرمة لدمه وماله وعرضه في الواقع.
نعم ، يجب علينا مجازاته حسب إقراره واعترافه إلّا إذا كشف بقوله وإقراره عن سريرته ، هذا.
وإنّ السعادة الأُخرويّة رهن العمل ، لا يشكّ فيه من له إلمام بالشريعة والآيات والروايات الواردة حول العمل ، والتصديق القلبي إذا لم يقترن بالعمل ، لا ينجو الإنسان من عذاب الآخرة.
هذا هو الحقّ في الإيمان ، وها هنا أقوال أخر ، نشير إليها :
الأوّل : إنّ الايمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، ولا يكفي التصديق القلبى وحده ، وهذا القول للمحقّق الطوسي مستدلّاً بما مضى من قوله سبحانه : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) (13).
يلاحظ عليه : إنّ التنديد بهم سببه نفاقهم ، وعدم مطابقة لسانهم لما في قلوبهم. فلو كانوا مستيقنين غير منكرين بألسنتهم لكانوا مستحقّين للثناء.
الثاني : إنّ الإيمان هو الاقرار باللسان. واستدلّ القائل به بأنّ من أعلن بلسانه شهادة الإسلام فهو مسلم محكوم له بحكم الإسلام.
أضف إليه قول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في السوداء : « اعتقها فإنّها مؤمنة ». (14)
يلاحظ عليه : إنّ الحكم لهم بالإسلام أو بالإيمان انّما هو بحسب الظاهر ، وليس هو حكماً بحسب الواقع ، ففي هذا المقام يجعل الاعتراف اللساني طريقاً إلى التصديق الجناني ، ولو علم خلافه ، لحكم بالنفاق. قال سبحانه ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) (15).
فانّ الرسول وأصحابه كانوا مكلّفين بالحكم حسب المعايير الظاهريّة التّي تكشف عادة عن الإيمان القلبي ، قال رسول الله : أُمرْتُ أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، ويؤمنوا بما أُرسلْت به ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله » (16).
و بذلك يظهر وجه حكمه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في السوداء بأنّها مؤمنة. روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال : رُبّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « إنّي لم أُبْعَثُ لأشُقّ عن قلوب الناس ». (17)
وكيف يكتفي القائل بالتصديق اللساني ، مع أنّ صريح الكتاب على خلافه ، قال سبحانه : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (18) والأعراب صدّقوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم فرد الله عليهم بأنّكم لستم مؤمنين لأنّكم مصدّقون بألسنتكم لا بقلوبكم.
الثالث : إنّ الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان مع العمل ، فالعمل عنصر حقيقي مقوّم للإيمان ، والفاقد له ليس بمؤمن بتاتاً ، والقائلون بهذا هم الخوارج والمعتزلة (19) ، غير أنّ بينهما فرقاً في المقام.
فالخوارج يرون العمل مقوّماً للإيمان ، فالمقرّ قلباً ولساناً إذا فقد العمل ، ارتكب الكبيرة ، فقد صار كافراً ، ولأجل ذلك يُكفّرون مرتكب الكبيرة ، ويحكمون عليه بالخلود في النار ، اذا لم يتب.
والمعتزلة ، مع أنّهم يرون العمل مقوّماً للإيمان ، غير أنّهم لا يُكَفّرون تارك العمل ، ومرتكب الكبيرة ، بل يجعلونه في منزلة بين الإيمان والكفر ، والمكلّف عندهم على ثلاث حالات :
إيمان ، اذا قام بالتصديقين ، وعمل بالوظائف.
وكُفْر، إذا فقد التصديق القلبي ، أو هو واللساني.
ومنزلة بين المنزلتين إذا قام بالتصديقين ، ولكن فقد العمل.
والكلام مع هؤلاء في مقامين :
1 ـ نقد هذا المذهب عن طريق الكتاب والسنّة.
2 ـ تحليل ما تمسّكوا به في اثبات عقيدتهم.
أمّا الأوّل ، فالآيات الدالّة على أنّ العمل ليس عنصراً مقوّماً للإيمان « وإن كان مؤثّراً في النجاة » كثيرة نشير إلى بعضها.
قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، فالعطف يقتضي المغايرة ، ولو كان العمل داخلاً في الايمان للزم التكرار. واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاصّ بعد العام ، يحتاج إلى نكتة ومسوغ له.
قوله تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) (20) فالجملة حالية ، المقصود منها : « من عمل حال كونه مؤمناً » ، وهذا يقتضي المغايرة.
قوله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّـهِ ) (21).
فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية ، وقال ما هذا معناه : فإن بغت إحدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة اللأخرى منهم ».
نعم ، يحتمل أن يكون إطلاق المؤمن عليهم باعتبار حال التلبس ، أيّ باعتبار كونهم مؤمنين قبل القتال ، لا بلحاظ حال صدور الحكم.
قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (22).
فأمر الموصوفين بالايمان ، بتقوى الله ، وهو الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات ، فدلّ على أنّ الإيمان يجتمع مع عدم التقوى ، وإلّا كان الأمر به لغواً وتحصيلاً للحاصل.
واحتمال أنّ الآية أمرٌ على الاستدامة ، خلاف الظاهر.
هذا حسب الآيات ، وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الاقرار المقترن بالعرفان ايمان ، منها ما رواه الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال : قلت لأبي عبدالله ـ عليه السَّلام ـ : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ، قال : يشهد أن لا إله الله وأنّ محمداً عبده و رسوله ، ويقرّ بالطاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن ». (23)
وأمّا الثاني : وهو تحليل ما استدلّوا به على أنّ العمل عنصر مقوم للإيمان بحيث لولاه فهو إمّا كافر أو في منزلة بين المنزلتين. فقد استدلّوا بآيات :
1 ـ قوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ) (24) ، فلو كان الايمان هو التصديق ، لما قبل الزيادة والنقيصة ، لأن التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم ، وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان ، فإنّه عندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته ، والزيادة لا تكون إلّا في كمّية عدد لا فيما سواها ، ولا عدد في الاعتقاد(25).
يلاحظ عليه : إنّ الايمان ـ بمعنى الاذعان ـ أمرٌ مقول بالتشكيك ، ولليقين مراتب بشهادة أنّ يقين الانسان بأنّ الاثنين نصف الأربعة ، يفارق يقينه في الشدّة والظهور بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس ، كما أنّ يقينه الثاني يفارق يقينه بأن كلّ ممكن فهو زوج تركيبي من ماهية ووجود ، وهكذا يتنزل اليقين من القوّة إلى الضعف إلى أن يصل إلى أضعف المراتب التّي لو تجاوز عنها لزال وصف اليقين وانقلب إلى الظنّ أو الشكّ. فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان ـ بمعنى التصديق والاذعان ـ دائر بين الوجود والعدم ، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه ، فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء ، كإيمان سائر الناس ، كلّا ، لأنّ الأنبياء معصومون ، وعصمتهم ناشئة من يقينهم بآثار المعاصي ، الّذي يصدهم عن اقترافها ، فلو كان اذعانهم كإذعان سائر الناس ، لما امتازوا عنهم بالعصمة عن المعصية.
وما ذكروه من أنّ الزيادة تستعمل في الكميّة العدديّة ، فهو منقوض بآيات كثيرة استعملت فيها الزيادة في غيرها ، قال سبحانه : ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (26) ، وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ) (27) والمراد شدّة خشوعهم ، وشدّة نفورهم ، لا كثرة عددهما. وغير ذلك من الآيات التّي استعمل فيها ذلك اللفظ فيما ير جع إلى الكيفيّة لا الكميّة.
2 ـ قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (28). والمراد من الايمان ، صلاتهم الى بيت المقدّس قبل أن ينسخ بالأمر باستقبال الكعبة (29).
يلاحظ عليه : إنّه لو أخذ بظاهر الآية ، فيجب أن يكون الايمان نفس العمل ، وهو مجمع على خلافه. أضف إلى ذلك أنّه استعمل الايمان وأريد منه العمل في المقام ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا شكّ أنّ العمل أثر الايمان ورد فعل له ، فمن الشائع إطلاق السبب وارادة المسبّب.
3 ـ قوله سبحانه ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (30).
أقسم سبحانه بنفسه أنّهم لا يُؤمنون إلّا بتحكيم النبي والتسليم بحكمه ، وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق ، بل هو عمل خارجي (31).
يلاحظ عليه : إنّ الآية وردت في شأن المنافقين ، فانّهم كانوا يتركون النبي ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار ، وهم مع ذلك يدّعون الايمان والاذعان والتسليم للنبي. فنزلت الآية بأنّه لا يقبل منهم ذلك الادّعاء حتّى يرى أثر الايمان في حياتهم ، وهو تحكيم النبي في المرافعات ، والتسليم العملي أمام قضائه ، وعدم إحساسهم بالحرج ، وهذا هو الظاهر من الآية ، لا أنّ التحكيم بما أنّه عمل ، جزء من الايمان. وهذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّاً لرجل فيقال له : ان كنت صادقاً فيجب انْ يُرى أثر الحبّ في حياتك فاعمل له كذا وكذا.
4 ـ قوله سبحانه : ( وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (32) فسمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً (33).
يلاحظ عليه : إنّ المراد كفران النعمة ، حيث إن ترك فريضة الحجّ مع الاستطاعة ، كفران لنعمته سبحانه ، وقد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم ، قال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (34).
كما ربّما يكون المراد من الكفر جحد وجوب الحجّ. وغير ذلك ممّا استدلّوا به من الآيات. وأنت اذا احطت بما ذكرنا ، تقدر على الاجابة عن استدلالهم بها (35).
نعم ، هناك روايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ تعرب عن كون العمل جزءاً من الايمان ، نظير قول الصادق ـ عليه السَّلام ـ : « ملعونٌ ، ملعونٌ من قال : الايمان قول بلا عمل » (36) والظاهر أنّ هذه الروايات وردت لردّ المرجئة التّي تكتفي في الحياة الدينيّة بالقول والمعرفة ، وتؤخّر العمل ، وترجو رحمته وغفرانه ، مع عدم القيام بالوظائف. وقد تضافرت عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ لعن المرجئة (37).
سؤال :
لو كان الايمان هو التصديق ، فهل هو يزيد وينقص.
الجواب :
قد علم هذا ممّا ذكرنا من كون الايمان ذا مراتب ، وأن نفس الاذعان ، له درجات. وليس القول بزيادة الايمان ونقصانه مختصّاً بمن جعل العمل عنصراً مقوّماً للايمان ، بل هو يتحقّق أيضاً عند من يقول بأنّ الايمان هو التصديق القلبي ، وليس العمل جزءاً منه. إلى هنا تبيّنت حقيقة الأقوال الأربعة في بيان حقيقة الايمان ، وقد عرفت أنّ الصواب هو الأوّل منها ، وهو التصديق القلبي (38).
الهوامش
1. مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 133. ولو جعل سكون القلب تفسيراً للمعنى الثاني أيّ التصديق لكان أحسن.
2. سورة آل عمران : الآية 53.
3. سورة يوسف : الآية 17.
4. سورة العنكبوت : الآية 26.
5. سورة المجادلة : الآية 22.
6. سورة الحجرات : الآية 14.
7. سورة النحل : الآية 106.
8. سورة النحل : الآية 108.
9. سورة الجاثية : الآية 23.
10. سورة النمل : الآية 14.
11. سورة البقرة : الآية 89.
12. سورة البقرة : الآية 146.
13. كشف المراد ، ص270 ، ط صيدا.
14. الفصل ، ج 3 ، ص 206.
15. سورة البقرة : الآية 8.
16. الفصل ، ج 3 ، ص 206.
17. المصدر السابق نفسه.
18. سورة الحجرات : الآية 14.
19. شرح الأصول الخمسة ، ص 139.
20. سورة طه : الآية 112.
21. سورة الحجرات : الآية 9.
22. سورة التوبة : الآية 119.
23. البحار ، ج 66 ، ص 16 ، نقلاً عن معاني الأخبار للصدوق .
24. سورة الفتح : الآية 4.
25. الفصل ، لابن حزم الظاهري ج 3 ، ص 194.
26. سورة الاسراء : الآية 109.
27. سورة الاسراء : الآية 41.
28. سورة البقرة : الآية 143.
29. البحار ، ج 66 ، ص 18.
30. سورة النساء : الآية 65.
31. الفصل ، ج 3 ، ص 195.
32. سورة آل عمران : الآية 97.
33. البحار ، ج 66 ، ص 19.
34. سورة إبراهيم : الآية 7.
35. مثل قوله سبحانه : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) [ البينة 5 ] مستدلّين بأنّ المشار اليه بلفظة « ذلك » ، جميع ما ورد بعد الأمر ، من عبادة الله سبحانه بالاخلاص وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، استدلّ به ابن حزم في الفصل ، ج 3 ص 194 وقد أجاب عنه الأستاذ دام ظله في الجزء الثالث من بحوثه في الملل والنحل ، فلاحظ.
36. البحار ، ج 66 ، باب أنّ الايمان مبثوث على الجوارح ، الحديث 1 ، ص 19 ، ولاحظ سائر الروايات في هذا الكتاب.
37. لاحظ الوافي ، للفيض الكاشاني ، ج 3 ، أبواب الكفر ، والشرك ، باب أصناف الناس ، ص 46.
38. بقي هنا المرجئة ، وهو لا يفترق كثيراً عن القول الثالث من الاكتفاء بالتصديق اللساني ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الجزء الثالث من أبحاث الشيخ الاستاذ حفظه الله في الملل والنحل.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 313 ـ 322
التعلیقات