حديث المنزلة
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةحديث المنزلة
روى أهل السير والتاريخ أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، خلّف علي بن أبي طالب على أهله في المدينة ، عند توجّهه إلى تبوك ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلّفه إلّا استثقالاً له ، وتخوّفاً منه ، فلمّا قال ذلك المنافقون ، أخذ علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ سلاحه ، ثمّ خرج حتّى أتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وهو نازل بالجرف (1) ، فقال يا نبيّ الله ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني أنّك استثقلتني ، وتخفّت مني ، فقال : كذبوا ، ولكنّي خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني ، في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي ؟.
فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على سفره (2).
ومن عجيب القضايا ما رواه مسلم ، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً ، وقال : ما منعك أن تسبّ أبا التراب ، قال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم. سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان. فقال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبوّة بعدي.
وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسلوه ، ويحبّه الله ورسوله. قال : فتطاولنا لها ، فقال : أدعولي عليّاً ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه.
ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) ، دعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : « اللّهم هؤلاء أهلي » (3).
وأمّا دلالة الحديث على أنّ النبي أفاض على عليًّ ـ عليه السَّلام ـ بإذن من الله سبحانه ـ الخلافة والوصاية ، فيكفيك فيها أنّ كلمة « منزلة » إسم جنس أضيف إلى هارون ، وهو يقتضي العموم ، فيدلّ على أنّ كلّ مقام ومنصب كان ثابتاً لهارون فهو أيضاً ثابت لعلي ، إلّا ما استثناه ، وهو النبوّة.
على أنّ الإستثناء هو أيضاً دليل العموم ، ولولاه لما كان وجه للإستثناء.
وأمّا ما جاء في صدر الحديث من أنّه خلّفه على أهله ، فلا يكون دليلاً على الإختصاص ، لبداهة أنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، وهو أحد القواعد المسلّمة في علم الأصول ، فلو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي ، فقلت له ، لا يمسّنّ آيات القرآن محدث ، يكون دليلاً على أنّ الجنب يحرم عليه مسّ القرآن على الإطلاق.
وأمّا منزلة هارون من موسى ، فيكفي في بيانها قوله سبحانه ـ حكاية عن موسى ـ : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (4) فجاء الجواب :
( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ) (5).
إنّ من تتبّع سيرة النبي يجده يصوّر عليّاً وهارون كالفرقدين في السماء ، والعينين في الوجه ، لا يمتاز أحدهما في أُمّته عن الآخر في أمّته بشيء ما ، ومن ذلك :
أ ـ إنّ النبي سمّى أبناء علي كأسماء أبناء هارون ، سمّاهم حسناً وحسيناً ومُحسناً ، وقال : إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون ، « شُبَّر ، وَشُبَيرْ وَمُشبر » (6).
ب ـ إنّ النبي اتّخذ عليّاً أخاه ، وآثره بذلك على من سواه ، تحقيقاً لعموم الشّبه بين منازل الهارونيّين من أخويهما ، وحرصاً على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما. وقد آخى بين أصحابه ، فجاء عليّ ـ عليه السَّلام ـ وقال : آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد ؟ فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : أنت أخي في الدنيا الآخرة (7).
ج ـ أمر بسدّ أبواب الصحابة من المسجد ، تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، لكنّه أبقى باب علي ـ عليه السَّلام ـ ، وأباح له عن الله تعالى ، أن يدخل المسجد جنباً كما كان مباحاً لهارون ، فدلّل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونيّين ـ عليهما السَّلام ـ ، كما قال ابن عبّاس : « وسدّ رسول الله أبواب المسجد غير باب علي ، فكان يدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس له طريق غيره » (8).
الهوامش
1. الجرف ، بالضمّ ثمّ السكون ، موضع على بعد ثلفاثة أميال من المدينة.
2. السيرة النبويّة ، لابن هشام ، ج 2 ، ص 519 ـ 520 : وقد نقله من أصحاب الصحاح : البخاري في غزوة تبوك ، ج 6 ، ص 3 ، ط 1314. ومسلم في فضائل عليّ ، ج 7 ، ص 120. وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي ، ج 1 ص 55 ، ط المطبعة التازية بمصر.
والإمام أحمد في مسنده في غير مورد لاحظ ج 1 ، ص 173 و175 و177 و179 و182 و185 و330 وغيرهم من الأثبات الحفاظ ، فلم يشكّ في صحّة سند الحديث إلّا الآمدي ، وليس هو من علم الحديث في حلّ ولا ترحال.
إذا ما فُصِّلت عليا قريش |
فلا في العير أنت ولا النفير |
وما جرّه إلى التشكيك ، غير كون الحديث نصّاً صريحا في إمامة علي ، فحاول التشكيك للتخلص من هذا الإرتباك.
3. صحيح مسلم ، ج 7 ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، ص 120 ـ 121.
4. لاحظ سورة طه : الآيات 29 ـ 32 وقوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) يدلّ على اشتراك هارون مع موسى في النبوّة كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) [ سورة مريم : الآية 53 ] ، ولأجل ذلك استثناها النبي من منزلة هارون من موسى.
5. سورة طه : الآية 36.
6. مستدرك الحاكم ، ج 3 ، ص 165 و 168.
7. سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 636 ، الحديث 3720. ومستدرك الحاكم ، ج 3 ، ص 14.
8. حديث « سدّ الأبواب كلّها إلّا باب علي » ، من الأحاديث المتضافرة المنقولة عن لفيف من الصحابة ، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، لاحظ مسند أحمد ، ج 2 ، ص 26. ومنهم أبوه عمر بن الخطاب ، لاحظ مستدرك الحاكم ، ج 3 ، ص 125. ومن أراد التبسّط في أسانيده فعليه بالغدير ، ج 3 ، ص 202 ـ 215. والمرجعات ، المراجعة 34.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 79 ـ 82
التعلیقات