المعاد خاتمة المطاف في تكامل الإنسان
ادلة المعاد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 176 ـ 178
(176)
الدليل الخامس : المعاد خاتمة المطاف في تكامل الإنسان
إنّ الحركة تتقوم بأُمور ستة ، منها الغاية ، كما حقق في محلّه. اعتبار
الغاية في حقيقة الحركة ينشأ من تصوّر مفهومها ؛ فإنّ الحركة جهد وسعي ،
يتطلب صاحبها غاية يفقدها ، من غير بين أن تكون الغاية عقلائية ، كحركة
الطالب لتحصيل العلم ، أو غير عقلائية ، كاللعب بالسّبحة لترويح النفس.
ونرى أنّ الإنسان منذ تكونه نطفة فعلقة فمضغة ، إلى أن يفتح عينه على
الوجود ، في حال حركة دائمة وسعي متواصل ليس له ثبات ولا قرار ، وهو يطلب
بحركته وسعيه شيئاً يفقده . فعلى ذلك لا بدّ من وجود يوم يزول فيه وصف
اللاقرار ، ويدخل منزلاً فيه القرار والثبات ، يكون غاية المطاف.
و الحركة وإن كانت تتوقف بالموت ولا يرى بعدها في الإنسان سعي ، لكنّ
تفسير الموت ببطلان الإنسان وشخصيته الساعية ، إبطال للغاية التي كان يتوخاها
من حركته ، فلابدّ أن يكون الموت وروداً إلى منزل آخر ، يصل فيه إلى الغاية
المتوخاة من سعيه وجهاده ، وذلك المنزل هو النشأة الأخروية.
و لا يصح أن يقال إنّ الغاية من الحركة والسعي والكدح ، هو نيل اللذائذ
المادية والتجملات الظاهرية ، لوضوح أنّ الإنسان مهما نال منها ، لا يخمد
عطشه ، بل يستمر في سعيه وطلبه ، وهذا يدلّ على أنّ له ضالة أُخرى يتوجّه
نحوها ، وإن لم يعرف حقيقتها ، فهو يطلب الكمال اللائق بحاله ، ويتصور أنّ
ملاذّ الحياة غايته ، ومنتهى سعيه ، ولكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها ،
ويعطف توجهه إلى شي آخر.
قال صدر المتألّهين : الآيات التي ذكرت فيها النطفة وأطوارها الكمالية ،
________________________________________
(177)
وتقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكمل ، ومن حال أدون إلى حال أعلى ،
فالغرض من ذكرها ، إثبات أنّ لهذه الأطوار والتحولات غاية أخيرة ، فللإنسان
توجّه طبيعي نحو الكمال ، ودين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ الفعّال ، والكمال
اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلاً من هذه الطبيعة ، وإلاّ كان لا يوجد في هذا
العالم الأدنى ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى ، وفيها الغاية والمنتهى ،
فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته
الجوهرية الفطرية ، من الجمادية والنباتية ، والحيوانية ، وبلغ أشدّه الصوري ،
وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني ، فلابدّ أن يتوجه نحو النشأة الآخرة ، ويخرج من
القوة إلى الفعل ، ومن الدنيا إلى الأُخرى ، ثمّ المولى ، وهو غاية الغايات ، ومنتهى
الأشواق والحركات (1).
وفي الآيات الكريمات إشارات إلى هذا البرهان ، يفهمها الراسخون في
الذكر الحكيم.
يقول سبحانه: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2).
وأنت إذا لاحظت هذه الآيات وما تقدمها ممّا يتكفل ببيان خلقة الإنسان ،
ترى لها إنسجاماً وترابطاً خاصّا ً، فالله سبحانه يصف الإنسان بأنّه كان نطفة ،
فعلقة ، فمضمغة ، إلى أن أنشأه خلقاً آخر ، ثمّ يوافيه الموت ، ثمّ يبعث يوم
القيامة ، فكأنّ الآية تبيّن تطور الإنسان تدريجاً من النقص إلى الكمال ، ومن القوة
إلى الفعل ، وأنّه منذ تكوّن يسير في مدارج الكمال ، إلى نهاية المطاف ، وهو البعث
يوم القيامة ، فهذا غاية الغايات ، ومنتهى الكمال.
و يمكن استظهار ذلك من قوله سبحانه : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى } (3) ، بالبيان الماضي في
الآية السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الأسفار : ج 9، ص 159.
(2) - سورة المؤمنون : الآيات 14 ـ 16.
(3) - سورة النجم : الآيات 45 ـ 47.
________________________________________
(178)
ولعلّه لأجل ذلك يصف القرآن يوم البعث بـ{ الْمَسَاقُ } ، و { الرُّجْعَى } ،
و{ دَارُ الْقَرَارِ } . ويقول : {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (1) ، و : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ
الرُّجْعَى} (2) ، و{ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ
الْقَرَارِ} (3).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة القيامة : الآية 30.
(2) - سورة العلق : الآية 8.
(3) - سورة غافر : الآية 39.
التعلیقات