النظر في أدلّة القائلين بالغسل
السيد علي الميلاني
منذ 5 سنواتالنظر في أدلّة القائلين بالغسل
ننتقل الآن إلىٰ دليل القائلين بالغسل من أهل السنّة.
أمّا من الكتاب ، فليس عندهم دليل.
قالوا : نستدلّ بالسنّة ، فما هو دليلهم ؟
إنّ المتتبّع لكتب القوم لا يجد دليلاً علىٰ القول بالغسل إلّا دليلين :
الأوّل : ما اشتمل من ألفاظ الحديث عندهم على جملة : « ويل للأعقاب من النار » ، وسأقرأ نصّ الحديث ، فهم يستدلّون بهذا الحديث علىٰ وجوب الغسل دون المسح.
الثاني : ما يروونه في بيان كيفيّة وضوء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وسأقرأ لكم بعض تلك الأحاديث.
إذن ، لا يدلّ علىٰ وجوب الغسل إلّا ما ذكرت من الأحاديث :
أوّلاً : ما اشتمل علىٰ « ويل للأعقاب من النار ».
وثانياً : ما يحكي لنا كيفيّة وضوء رسول الله.
لاحظوا كتبهم التي يستدلّون فيها بهذين القسمين من الأحاديث علىٰ وجوب الغسل ، كلّهم يستدلّون ، أحكام القرآن لابن العربي ، فتح الباري ، تفسير القرطبي ، المبسوط ، معالم التنزيل للبغوي ، الكواكب الدراري في شرح البخاري ، وغير هذه الكتب ، تجدونهم يستدلّون بهذين القسمين من الحديث فقط علىٰ وجوب الغسل دون المسح ، وعلينا حينئذ أنْ نحقّق في هذين الخبرين.
الاستدلال بحديث « ويل للأعقاب من النار » :
والعمدة هي رواية : « ويل للأعقاب من النار » ، وهي رواية عبدالله بن عمرو بن العاص ، هذه الرواية موجودة في البخاري ، وموجودة عند مسلم ، فهي في الصحيحين ، أقرأ لكم الحديث بالسند ، ولاحظوا الفوارق في السند والمتن :
قال البخاري : حدّثنا موسىٰ ، حدّثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف ابن ماهك ، عن عبدالله بن عمرو قال : تخلّف النبي صلّى الله عليه وسلّم عنّا في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر ـ أيّ صلاة العصر ـ فجعلنا نتوضّأ ونمسح علىٰ أرجلنا ، فنادىٰ بأعلىٰ صوته :
« ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار ». مرّتين أو ثلاثاً كرّر هذه العبارة.
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر العسقلاني (1).
وأمّا مسلم فلاحظوا : حدّثني زهير بن حرب ، حدّثنا جرير وحدّثنا إسحاق أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيىٰ ، عن عبدالله بن عمرو قال : رجعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلىٰ المدينة ـ هذه السفرة كانت من مكّة إلىٰ المدينة ـ حتّىٰ إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر ، فتوضّؤوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء ـ وهذه القطعة من الحديث غير موجودة عند البخاري ، وهي المهمّ ومحلّ الشاهد هذه القطعة ـ فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء ، فقال رسول الله : « ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء » (2).
مناقشة الاستدلال بحديث « ويل للأعقاب من النار » :
نقول : عندما نريد أن نحقّق في هذا الموضوع ـ ولنا الحقّ أنْ نحقق ـ فأوّلاً نبحث عن حال هذين السندين وفيهما من تكلّم فيه ، لكنّا نغضّ النظر عن البحث السندي ، لأنّ أكثر القوم علىٰ صحّة الكتابين.
إذن ، ننتقل إلىٰ البحث عن فقه هذا الحديث :
لاحظوا في صحيح البخاري : فجعلنا نتوضّأ ونمسح علىٰ أرجلنا فنادىٰ بأعلىٰ صوته « ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار » لكنْ لابدّ وأنْ يكون الكلام متعلّقاً بأمر متقدّم ، رسول الله يقول : « ويل للأعقاب من النار » وليس قبل هذه الجملة ذكر للأعقاب ، هذا غير صحيح.
أمّا في لفظ مسلم : فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء فقال : « ويل للأعقاب من النار » وهذا هو اللفظ الصحيح.
إذن ، من هذا الحديث يظهر أنّ أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يغسلوا أرجلهم في الوضوء ، وإنّما مسحوا ، لكنّهم لمّا مسحوا لم يمسحوا كلّ ظهر القدم وبقيت الأعقاب لم يمسّها الماء ، فاعترض عليهم رسول الله ، لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم ، ولم يقل رسول الله لماذا لم تغسلوا ، قال : لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم.
لابد وأنّكم تشكّون فيما أقول ، ولا تصدّقون ، ولا توافقوني في دلالة الحديث على المعنى الذي ذكرته ، وتريدون أن آتي لكم بشواهد من القوم أنفسهم ، فيكون هذا الحديث دالّاً علىٰ المسح دون الغسل !! مع إنّهم يستدلون بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص علىٰ وجوب الغسل دون المسح !! لاحظوا :
يقول ابن حجر العسقلاني بعد أن يبحث عن هذا الحديث ويشرحه ، ينتهي إلىٰ هذه الجملة ويقول : فتمسّك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح.
ويقول ابن رشد ـ لاحظوا عبارته ـ : هذا الأثر وإنْ كانت العادة قد جرت بالإحتجاج به في منع المسح ، فهو أدلّ علىٰ جوازه منه علىٰ منعه ، وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين (3).
رسول الله لم يقل لماذا لم تغسلوا أرجلكم ، قال : لماذا لم تمسحوا علىٰ أعقابكم ، يعني : بقيت أعقابكم غير ممسوحة ، وقد كان عليكم أن تمسحوا علىٰ ظهور أرجلكم وحتّىٰ الأعقاب أيضاً يجب أنْ تمسحوا عليها ، ويل للأعقاب من النار.
يقول صاحب المنار : هذا أصحّ الأحاديث في المسألة ، وقد يتجاذب الاستدلال به الطرفان.
أيّ القائلون بالمسح والقائلون بالغسل (4).
ولاحظوا بقيّة عباراتهم ، فهم ينصّون علىٰ هذا.
والحاصل : إنّ رسول الله لم يعترض علىٰ القوم في نوع ما فعلوا ، أيّ لم يقل لهم لماذا لم تغسلوا ، وإنّما قال لهم : لماذا لم تمسحوا أعقابكم « ويل للأعقاب من النار » وهذا نصّ حديث مسلم ، إلّا أنّ البخاري لم يأت بهذه القطعة ، فأُريد الاستدلال بلفظه علىٰ الغسل.
ولا أدري هل لم يأت بالقطعة من الحديث عمداً أو سهواً ، وهل أنّه هو الساهي أو المتعمّد ، أو الرواة هم الساهون أو المتعمّدون ؟
ولمّا كان هذا الحديث الذي يريدون أن يستدلّوا به للغسل ، كان دالّاً علىٰ المسح ، اضطرّوا إلىٰ أن يحرّفوه ، لاحظوا التحريفات ، تعمّدت أن أذكرها بدقّة :
فالحديث بنفس السند الذي في صحيح مسلم الدالّ علىٰ المسح لا الغسل ، بنفس السند ، يرويه أبو داود في سننه ويحذف منه ما يدلّ علىٰ المسح (5).
وهكذا صنع الترمذي في صحيحه ، والنسائي في صحيحه ، وابن ماجة في صحيحه ، كلّهم يروون الحديث عن منصور عن هلال بن يسار عن يحيى عن عبدالله بن عمرو ، نفس السند الذي في صحيح مسلم ، لكنّه محرّف ، قارنوا بين الألفاظ ، وهذا غريب جدّاً.
أمّا النسفي ، فلو تراجعون تفسيره في ذيل الآية المباركة يقول هكذا : قد صحّ أنّ النبي رأىٰ قوماً يمسحون علىٰ أرجلهم فقال : « ويل للأعقاب من النار » (6) وكم فرق بين هذا اللفظ ولفظ مسلم.
أمّا في مسند أحمد وتبعه الزمخشري في الكشّاف ، فجعلوا كلمة الوضوء بدل المسح.
ففي صحيح مسلم يقول : فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم تمسّها الماء.
يقول أحمد في المسند وفي الكشّاف ينقل : وعن ابن عمرو بن العاص كنّا مع رسول الله فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال : « ويل للأعقاب من النار » (7).
قارنوا بين اللفظين لتروا كيف يحرّفون الكلم عن مواضعها متىٰ ما كانت تضرّهم.
الاستدلال بحديث كيفيّة وضوء رسول الله ومناقشته :
وأمّا الحديث الثاني ، الحديث الذي يروونه في كيفيّة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، استدلّوا به علىٰ الغسل دون المسح ، وهو الحديث الذي يرويه حمران عن عثمان بن عفّان.
فظهر أنّ الحديث الذي يروونه عن حمران عن عثمان بن عفّان يروونه علىٰ شكلين : تارة يدلّ علىٰ المسح ، وتارة يدلّ على الغسل ، والسند نفس السند والراوي حمران نفسه.
لاحظوا في البخاري : حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي ، حدّثني إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ـ هذا الزهري ـ أنّ عطاء بن يزيد أخبره : أنّ حمران مولىٰ عثمان أخبره : أنّه رأىٰ عثمان بن عفّان دعا بإناء فأفرغ علىٰ كفّه ثلاث مرّات فغسلهما ، ثمّ أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ، ثمّ غسّل وجهه ثلاثاً ويديه إلىٰ المرافق ثلاث مرّات ، ثمّ مسح برأسه ثمّ غسل رجليه ـ والحال قرأنا : مسح رجليه ـ ثمّ غسل رجليه ثلاث مرار إلىٰ الكعبين ، ثمّ قال : قال رسول الله : « من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّىٰ ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله ما تقدّم من ذنبه ».
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر (8) وفي مسلم أيضاً بنفس السند عن الزهري ، عن عطاء ، عن حمران ، عن عثمان بن عفّان.
وإذا لاحظتم الإسناد ، عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي : مذكور في المغني في الضعفاء للذهبي (9) ، وقال أبو داود : ضعيف ، وذكره ابن حجر العسقلاني في مقدّمة فتح الباري فيمن تكلّم فيه (10).
ثمّ إبراهيم بن سعد : ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه (11) ، وأورده ابن عدي في الكامل في الضعفاء (12) ، وعن أحمد كأنّه يضعّفه ، وقال صالح جزرة : ليس حديثه عن الزهري بذاك.
وأمّا ابن شهاب الزهري : ففيه ما فيه.
وأمّا حمران نفس الراوي عن عثمان ـ مولىٰ عثمان هذا ـ : قال ابن سعد صاحب الطبقات : لم أرهم يحتجّون بحديثه ، غضب عليه عثمان فنفاه (13) ، وأورده البخاري في الضعفاء.
وكذا الكلام في سند حديث مسلم وهو ينتهي إلىٰ حمران أيضاً.
وبعد التنزّل عن المناقشة السنديّة في هذا الحديث المخرّج في الصحيحين ، والتسليم بصحة هذا السند ، تكون رواية حمران الدالّة علىٰ الغسل معارضة لرواية حمران الدالّة علىٰ المسح ، ويكون الخبران متعارضين ، حينئذ يعرضان علىٰ الكتاب ، وقد رأينا الكتاب دالّاً علىٰ المسح دون الغسل ، فالكتاب إذن يكذّب ما يدلّ علىٰ الغسل.
الهوامش
1. فتح الباري في شرح البخاري 1 / 213.
2. شرح النووي علىٰ صحيح مسلم 2 / 128 ، هامش ارشاد الساري.
3. بداية المجتهد 1 / 16.
4. تفسير المنار 6 / 228.
5. سنن أبي داود 1 / 15.
6. تفسير النسفي « هامش الخازن » 2 / 441.
7. مسند أحمد 2 / 193 ، الكشاف 1 / 611.
8. فتح الباري 1 / 208.
9. المغني في الضعفاء ، ميزان الاعتدال 2 / 630.
10. هدي الساري ـ مقدّمة فتح الباري : 419.
11. هدي الساري ـ مقدّمة فتح الباري : 385.
12. الكامل في الضعفاء 1 / 399.
13. انظر : ميزان الاعتدال 1 / 604 ، تهذيب التهذيب 3 / 21.
مقتبس من كتاب : [ المسح على الرّجلين في الوضوء ] / الصفحة : 35 ـ 42
التعلیقات