عليّ في طريقه إلى الشام ، وحرب صفّين
اسلام الموسوي
منذ 5 سنواتعليٌّ في طريقه إلىٰ الشام ، وحرب صفِّين
لمَّا انتهت فتنة الجمل استعدَّ الإمام إلىٰ حرب معاوية ، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الكوفة ، فقد كان قسم كبير منهم قد اشتركوا معه في معركة الجمل ، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.
ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين قد أرسل إلىٰ معاوية السفراء والكتب يدعوه إلىٰ الطاعة والدخول فيما دخل المسلمون من قبله ، لكنَّه لم يستجب لطلبه ، بل أظهر الشدَّة والصلافة في ردِّه علىٰ رسائل الإمام ، واختار القتال علىٰ الصلح والمسالمة.
في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق ، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين خبره جهَّز جيشه ، واتَّجه نحو الزحف ، ليقطع عليهم الدخول إلىٰ أرض العراق ، لما في ذلك من قتل ونهب وفساد كبير .. فكان من ذلك حرب صفِّين ، وبالشعار السابق نفسه : « دم عُثمان » !
فتمرَّدوا وأعدُّوا العدَّة لمحاربة إمام المتَّقين .. فهم لم يخرجوا في طلب الثأر لعثمان ، بل كان خروجهم ضدَّ الإمام ، وضدَّ الإسلام كلِّه ، والثأر لأنفسهم ، ونرىٰ ذلك واضحاً من كلام ابن العاص مع معاوية علىٰ الشعار المزيَّف ، حيث قال عمرو بن العاص لمعاوية :
واسوأتاه ! إنَّ أحقَّ الناس ألَّا يذكر عُثمان لا أنا ولا أنت !
قال معاوية : ولِمَ ويحك ؟!
قال : أمَّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام ! وأمَّا أنا فتركته عياناً وهربتُ إلىٰ فلسطين !
وقال له : أما والله ، إن قاتلنا معك نطلب دم الخليفة ، إنَّ في النفس ما فيها ، حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته ، ولكنَّنا أردنا هذه الدنيا (1) !!
فأيُّ مكرٍ هذا الذي رأيناه من كلامهما ؟! علىٰ مثل ذلك أعدُّوا العدَّة لمحاربة الخليفة الجديد ، فهؤلاء هم القاسطون الذين كرهوا خلافة الإمام عليٍّ عليه السلام.
ووصل الإمام إلىٰ صفِّين في ذي القعدة ، وابتدأت الحرب في أوَّل ذي الحجَّة سنة ٣٦ هـ ، وحصلت الهدنة في المحرم سنة ٣٧ هـ ، واستؤنف القتال في أوَّل صفر ، وانتهىٰ في ١٣ منه (2) ، وعسكر الإمام بالنُخيلة ، وعقد لواءه لغلامه قنبر.
ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين ، وأخذ شريعة الفرات ، وجعلها في حيِّزه ، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها .. وبعث أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان إلىٰ معاوية ، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء ، فقال معاوية لأصحابه : ما ترون ؟ فبعضهم قال : امنعهم الماء ، كما منعوه ابن عفَّان ، اقتلهم عطشاً قتلهم الله ، لكنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء ، فرجع صعصعة فأخبره بما كان ، وأنَّ معاوية قال : سيأتيكم رأيي ، فسرَّب الخيل إلىٰ أبي الأعور ليمنعهم الماء.
ولمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلك قال : « قاتلوهم علىٰ الماء » ، فأرسل كتائب من عسكره ، فتقاتلوا واشتدَّ القتال ، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ ، حتّىٰ خلَّوا بينهم وبين الماء ، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ عليه السلام.
فقالوا : والله لا نسقيه أهل الشام !
فأرسل عليٌّ عليه السلام إلىٰ أصحابه أن : « خذوا من الماء حاجتكم وخلُّوا عنهم ، فإنَّ الله نصركم بغيِّهم وظلمهم » (3).
بهذا الخُلق الكريم عامل أمير المؤمنين عليه السلام أشدَّ مناوئيه ..
ثمّ دعا عليّ عليه السلام جماعة من قادة جنده ، فقال لهم : « ائتوا هذا الرجل وادعوه إلىٰ الله والىٰ الطاعة والجماعة ».
ففعلوا ما أمرهم به ، لكنَّ معاوية قال لهم بعد أن سمع كلامهم : انصرفوا من عندي ، فليس بيني وبينكم إلَّا السيف ، وغضب القوم ، وخرجوا ، فأتوا عليَّاً عليه السلام فأخبروه بذلك ..
واحتدم القتال بين الطرفين ، فاقتتلوا يومهم كلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً ، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ عليه السلام بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر ، ولمَّا برز لعمر بن العاص قال عمَّار : « لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث مرّات ، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقىٰ » (4) يعني : راية معاوية.
وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني : قلتُ لحذيفة بن اليمان : حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.
فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن سُميَّة ، فإنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : « تقتله الفئة الباغية الناكبة ـ الناكثة ـ عن الطريق ، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن » ، وهو الممزوج بالماء من اللبن ، قال حبَّة : فشهدته يوم قُتل وهو يقول : ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا ، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ـ فقال :
اليوم ألقىٰ الأحبَّة |
محمَّداً وحزبه |
والله لو ضربونا حتّىٰ يبلغوا بنا سعفات هجر ؛ لعلمت أنَّنا علىٰ الحقِّ وأنَّهم علىٰ الباطل ، ثم قُتل (5) رضي الله عنه وأرضاه ..
وقد تضعضع الكثيرون من أتباع ابن أبي سفيان لموقف عمَّار ، لأنَّ مقولة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه لم تكن خافيةً علىٰ أحدٍ من الناس : « فطوبىٰ لعمَّار تقتله الفئة الباغية ، عمَّار مع الحقِّ يدور معه كيفما دار » وهذا كلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وكان ذو الكلاع قد سمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمَّار بن ياسر : « تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربةٍ تشربها ضَياح من لبن » ، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو : ما هذا ويحك يا عمرو ؟ فيقول عمرو : إنَّه سيرجع إلينا.
فقُتل ذو الكلاع قبل عمَّار مع معاوية ، وأُصيب عمَّار بعده مع عليٍّ عليه السلام.
فقال عمرو لمعاوية : ما أدري بقتل أيُّهما أنا أشدُّ فرحاً ، بقتل عمَّار أو بقتل ذي الكلاع ؟ والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمَّار لمال بعامَّة أهل الشام إلىٰ عليٍّ (6) ، فأشرق وجه معاوية لذلك !
ولمَّا قُتل عمَّار ، قال عليٌّ لربيعة وهمدان : « أنتم درعي ورمحي » فانتدب له نحو من اثني عشر عليه السلام وتقدَّمهم عليٌّ علىٰ بغلة ، فحملوا معه حملة رجلٍ واحدٍ ، فلم يبقَ لأهل الشام صفٌّ إلَّا انتقض ، وقتلوا كلَّ من انتهوا إليه .. حتّىٰ رأوا الظفر.
واستمرَّ القتال ليلةً كاملة حتّىٰ الصباح. فتطاعنوا حتّىٰ تقصَّفت الرماح ، وتراموا حتّىٰ نفد النبل ، وكان الأشتر في الميمنة وابن عبَّاس في الميسرة وعليٌّ عليه السلام في القلب ، والناس يقتتلون من كلِّ جانبٍ ، حتّىٰ أصبحوا والمعركة خلف أظهرهم.
رفع المصاحف .. « كلمة حقٍّ يُراد بها باطل » :
لمَّا رأىٰ عمرو أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمرٍ أعرضه عليك ، لا يزيدنا إلَّا اجتماعاً ، ولا يزيدهم إلَّا فرقةً ؟
قال : نعم.
قال : نرفع المصاحف ، ثُمَّ نقول : هذا حكم بيننا وبينكم.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينكم ، مَنْ لثغور الشام بعد أهله ؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهله ؟
فلمَّا رآها الناس قالوا : نجيب إلىٰ كتاب الله.
فقال لهم عليٌّ عليه السلام : « عباد الله امضوا علىٰ حقِّكم وصدقكم وقتال عدوِّكم ، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرَف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثُمَّ رجالاً ، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلَّا خديعةً ووهناً ومكيدة ».
فقالوا له : لا يسعنا أن نُدعىٰ إلىٰ كتاب الله فنأبىٰ أن نقبله !
فقال لهم عليٌّ عليه السلام : « فإنِّي إنَّما أُقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنَّهم قد عصو الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا كتابه ».
فقال له جماعة من المسلمين ، الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا عليُّ ، أجب إلىٰ كتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه ، وإلَّا دفعناك برمَّتك إلىٰ القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفَّان !
قال : « فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاكم ، واحفظوا مقالتكم لي ، فإن تطيعوا فقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم » (7).
لم تكن بينهم وبين معاوية إلَّا بضعة أمتار ، فلولا وقوع هؤلاء في الفخّ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام عليه السلام أن يسيطر علىٰ الموقف ويستأصل رأس الفتن ، ولكنَّ مسألة التحكيم غيَّرت مجرىٰ الأُمور إلىٰ أسوأ حال ، فحالت دون تحقيق الهدف المنشود ، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات !
ثمَّ قالوا للإمام : ابعث إلىٰ الأشتر فليأتكَ ، فرجع الأشتر مغضباً بعدما أوشك علىٰ النصر ، فأقبل إليهم الأشتر ، وقال : يا أهل العراق ! يا أهل الذلِّ والوهن ! أحين علوتم القومَ وظنُّوا أنَّكم لهم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلىٰ ما فيها ، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسُنَّة مَنْ أُنزلت عليه ؟ فأمهلوني فواقاً ، فإنِّي قد أحسستُ الفتح (8).
لكنَّهم أبوا إلَّا التحكيم !
وجعل أهل الشام عمرو بن العاص علىٰ التحكيم ، وأراد الإمام عليه السلام أن يجعل عبدالله بن عبَّاس ، لكنَّهم أبوا إلَّا أبا موسىٰ الأشعري ، ولمَّا رأىٰ أنّه لا تنفع معهم حجَّة حكَّمه علىٰ مضض !
وحضر عمرو بن العاص عند عليٍّ عليه السلام ليكتب القضيّة بحضوره ، فكتبوا :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضا عليه أمير المؤمنين ، فقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، هو أميركم وأمَّا أميرنا فلا. فقال الأحنف : لا تمحُ اسم إمارة أمير المؤمنين ، فإنِّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليه أبداً ، فلا تمحُها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبىٰ ذلك عليٌّ عليهالسلام ملياً من النهار.
ثُمَّ إنَّ الأشعث بن قيس قال : امحُ هذا الاسم ، فمُحي ، فقال عليٌّ : « الله أكبر ! سُنَّة بسُنَّة ، والله إنِّي لكاتب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، يوم الحديبيّة فكتبتُ : محمَّد رسول الله ، وقالوا : لستَ برسول الله ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمحوه ، فقلتُ : لا أستطيع ، فقال : أرنيه ، فأريته ، فمحاها بيده ، وقال : إنَّك ستُدعىٰ إلىٰ مثلها فتجيب ».
فقال عمرو : سبحان الله ! أتشبِّهنا بالكفَّار ونحن مؤمنون !
فقال عليٌّ عليه السلام : « يا ابن النابغة ، ومتىٰ لم تكن للفاسقين وليّاً ، وللمؤمنين عدوّاً ؟ »
فقال عمرو : والله ، لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً.
فقال عليٌّ عليه السلام : « إنِّي لأرجو أن يطهِّر الله مجلسي منك ومن أشباهك » (9) ..
وتمّت كتابة الكتاب بجعل كتاب الله الحاكم في كلِّ الأُمور ، وما لم يجد في كتاب الله فالسُنَّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة .. واُجِّل القضاء إلىٰ رمضان.
ولمَّا انتهت مسألة التحكيم ، قال نفرٌ من أصحاب الإمام : كيف تُحكِّمون الرجال في دين الله ؟! لا حكم إلَّا لله ، وكانوا يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم « لا حكم إلَّا لله » لذلك سُمُّوا بالمحكِّمة. فكانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً .. فنزلوا في ناحية يُقال لها : « حروراء » لأجلها سُمُّوا بالحرورية ..
فحاججهم الإمام عليه السلام بقوله الأوَّل قبل التحكيم ، ثُمَّ قال لهم : « قد اشترطتُ علىٰ الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن ، ويُميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف ، وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء ».
قالوا : أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟
قال : « إنَّا لسنا حكَّمنا الرجال ، إنَّما حكَّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق ، إنَّما يتكلَّم به الرجال » (10) ثمَّ رجعوا مع الإمام عليه السلام.
فلمَّا التقىٰ الحكمان : أبو موسىٰ الأشعري وعمرو بن العاص ، وخُدِع أبو موسىٰ ؛ إذ مكر به عمرو ، قال له : أنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأسنُّ منِّي فتكلَّم ، وأراد عمرو بذلك كلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ ، قال له : نخلع عليَّاً ومعاوية معاً ، ونجعل الأمر شورىٰ ، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.
فتقدَّم أبو موسىٰ فأعلن علىٰ الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّىٰ. وأقبل عمرو فقام ، وقال : إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأُثبت صاحبي معاوية ! (11) فدُهش أبو موسىٰ وشتم عمرو وشتمه عمرو ، وانفضَّ التحكيم عن هذه النتيجة !
والتمس المسلمون أبا موسىٰ فهرب إلىٰ مكَّة ، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام الىٰ معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.
مع هذه النتيجة عاد عليّ عليه السلام يعمل علىٰ إعادة نظم جيشه ، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب مع أهل الغدر ، ولكن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه ..
قام يوماً خطيباً بين أصحابه ، فقام إليه رجل من اُولئك « المحكمّة » فقال : لا حكم إلَّا لله ! ثُمَّ توالىٰ عدَّة رجال يحكِّمون. فقال عليٌّ عليه السلام : « الله أكبر ، كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل ! أما إنَّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم في أيدينا ، ولا نقاتلكم حتّىٰ تبدأوا ، وإنَّما نتّبع فيكم أمر الله » (12) ..
بهذه الأخلاق النبيلة تعامل الإمام مع المارقين ، ورغم ذلك فقد مضوا على غيّهم ، فاعتزلوا بقيادة عبدالرحمٰن بن وهب الراسبي ، ثمَّ خرجوا من الكوفة.
فبايع المسلمون الإمام عليَّاً عليه السلام وقالوا : « نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت » فشرط فيهم سُنَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وجاء دور صاحب راية خثعم ، ربيعة بن أبي شداد فقال له : « بايع علىٰ كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم » ، فأبىٰ بأن يبايع إلَّا علىٰ سُنَّة أبي بكر وعمر ! فقال له عليٌّ عليه السلام حين ألحَّ عليه : تبايع ؟ قال : لا ، إلَّا علىٰ ما ذكرتُ لك.
فقال له الإمام : « أما والله ، لكأنِّي بك قد نفرت في هذه الفتنة ، وكأنِّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهك » ! قال قبيصة : فرأيته يوم النهروان قتيلاً قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثَّلت به ، فذكرت قول عليٍّ ، وقلت : لله درُّ أبي الحسن ، ما حرَّك شفتيه قطّ بشيءٍ إلَّا كان كذلك ! (13).
وكان همُّ الإمام عليه السلام في العود إلىٰ محاربة معاوية ، فعبَّأ جنده ، لكنَّه وبعد ذلك كلِّه لم يترك « المحكِّمة » فكتب إليهم كتاباً جاء فيه : « بسم الله الرحمٰن الرحيم ، من عبدالله عليٍّ أمير المؤمنين إلىٰ عبدالله بن وهب الراسبي ويزيد بن الحصين ومن قبلهما : سلام عليكم ، وبعد ، فإنَّ الرجلين اللذين ارتضيتماهما للحكومة خالفا كتاب الله واتَّبعا هواهما بغير هدىً من الله ، فلمَّا لم يعملا بالسُنَّة ولم يحكما بالقرآن تبرَّأنا من حكمهما ، ونحن علىٰ أمرنا الأوَّل ، فأقبلوا إليَّ رحمكم الله ، فإنَّا سائرون إلىٰ عدوِّنا وعدوِّكم لنعود لمحاربتهم ، حتّىٰ يحكم الله بيننا وبينهم ، وهو خير الحاكمين » (14).
وردُّوا علىٰ هذا الخطاب الحكيم المتَّزن بخطابٍ ينمُّ عن شدَّة تعسُّفهم وردِّهم المارق ، فكتبوا إليه : « فإن شهدت علىٰ نفسك أنَّك كفرت في ما كان من تحكيمك الحكمين ، واستأنفت التوبة والإيمان ، نظرنا في مسألتنا من الرجوع إليك ، وإن تكن الأُخرىٰ فإنَّنا ننابذك علىٰ سواء ، إنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين » (15) !
فلمّا يئس منهم تحرَّك بجيشه صوب الشام ، حتّىٰ بلغ منطقةً في أعالي الفرات تُدعىٰ « عانات » فأتته أخبار فضيعة عن الخوارج ، إذ أصبحوا يعترضون الناس فيقتلونهم دون أدنىٰ ذنبٍ ، إلَّا لأنَّهم لم يتبرَّأوا من عليٍّ ولم يكفِّروه لما حدث ! حتّىٰ أنَّهم أقبلوا أخيراً إلىٰ قتل عبدالله بن خباب بن الأرت الصحابي الشهير ، وقتلوا معه امرأته وبقروا بطنها وهي حامل ، وقتلوا عدَّة نساءٍ ، وبثُّوا الرعب في الناس.
فبعث إليهم أمير المؤمنين الحارث بن مرَّة العبدي ليأتيه بخبرهم ، فأخذوه فقتلوه (16). فتمخَّضت تلك الأحداث عن معركة النهروان الشهيرة ..
الهوامش
1. انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٣ ـ ١٧٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٢ : ٦٢ ـ ٦٦.
2. فضائل الإمام عليٍّ : ١٤٢.
3. أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧ ، وسير أعلام النبلاء « سيرة الخلفاء الراشدين » : ٢٦٧ مختصراً.
4. الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٧ وانظر سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٦٥.
5. الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٨.
6. الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٨.
7. أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، وسير أعلام النبلاء ٢ : ٢٦٤ مختصراً.
8. الكامل في التاريخ ٣ : ٣١٧ ـ ٣١٨.
9. الكامل في التاريخ ـ انظر تفصيل الكتاب ـ ٣ : ١٩٥، وانظر سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٨١.
10. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٣.
11. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٨ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.
12. الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٣١٥ ـ ٣١٦.
13. الإمامة والسياسة ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٦ باختلافٍ يسير.
14. الإمامة والسياسة ١ : ١٢٣.
15. الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٦ ، الأخبار الطوال : ٢٠٦.
16. أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٩ ، البداية والنهاية ٧ : ٣١٨ ـ ٣١٩.
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 205 ـ 216
التعلیقات