الحياة البرزخيّة
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
2024 Sep 7الحياة البرزخيّة
البرزخ هو المنزل الأوّل للإنسان بعد مفارقة الدنيا بالموت ، وتحقيق الحال يتوقّف على تبيين معنى البرزخ ، وإثبات الحياة في تلك النشأة الّتي هي قبل البعث يوم القيامة.
قال ابن فارس في المقاييس: « البرزخ : الحائل بين الشيئين ، كأنّ بينهما برازاً أيّ متّسعاً من الأرض ، ثمّ صار كلّ حائل برزخاً فالخاء زائدة لما ذكرنا » (١).
ويقول ابن منظورفي اللسان : « البرزخ : ما بين شيئين. وفي الصحاح الحاجز بين شيئين. والبرزخ مابين الدنيا والآخرة : قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث ، فمن مات فقد دخل البرزخ » (٢).
هذا معنى البرزخ وبه يفسّر قوله سبحانه : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٣). والوراء في الآية بمعنى الأمام كما في قوله سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) (٤).
والآية لا تفيد أزيد من وجود الفاصل ، والحاجز بين الدنيا والقيامة ، مثل قوله سبحانه : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ )(٥). ولا تدلّ على وجود حياة في هذ الفصل.
نعم ، هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعيّة للإنسان في تلك النشأة ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ قال تعالى : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (٦) ؟.
وهذه الآية تحكي عن تحقيق إحياءَين وإماتتين إلى يوم البعث ، وقد اختلف المفسّرون في تفسيرهما ، والمروي عن ابن عبّاس أنّ الإماتة الأولى ، حال كونهم نطفاً ، فأحياهم الله في الدنيا ، ثمّ أماتهم الموتة الثانية ، ثمّ أحياهم للبعث ، فهذان إحياءان وإماتتان ونظيره قوله : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٧).
يلاحظ عليه : إنّ الآية الثانية ليست نظير الآية الأُولى حتّى تفسّر بها ، فإنّ الآية الثانية ، تصف الناس بكونهم أمواتاً ، وهو ينطبق على الإماتة في حال كون الإنسان نطفة أو قبل ذلك ، بخلاف الآية الأُولى فإنّها تحكي عن إماتة الإنسان ، والفرق بين الموت والإماتة واضح ، فالأحوال المتقدّمة على النطفة ، ونفسها ، توصف بالموت ، دون الإماتة. فلأجل ذلك لا يصحّ تفسير الإماتة بما جاء في هذا القول.
والظاهر أنّ المراد هو ما يلي :
الإماتة الأُولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا.
والإحياء الأوّل هو الإحياء في البرزخ ، وتستمرّ هذه الحياة إلى نفخ الصور الأوّل.
والإماتة الثانية ، عند نفخ الصور الأوّل يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) (٨).
والإحياء الثاني ، عند نفخ الصور الثاني ، يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) (٩).
وتعدّد نفخ الصور يستفاد من الآيتين ، فيترتّب على الأوّل هلاك من في السماوات ومن في الأرض ، إلّا من شاء الله ، وعلى الثاني قيام الناس من أجداثهم ، وفي أمر النفخ الثاني يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) (١٠).
ويقول سبحانه : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) (١١). واختلاف الآثار يدلّ على تعدّد النفخ.
وعلى ضوء هذا فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا ، وهي حياة برزخيّة متوسّطة بين النشأتين.
٢ ـ قوله سبحانه : ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَنصَارًا ) (١٢).
وهذه الآية تدلّ على أنّهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل للفاء في قوله : ( فَأُدْخِلُوا ). ولو كان المراد هو نار يوم القيامة لكان اللازم الإتيان بـ « ثمّ » أوّلاً ، وارتكاب التأويل في قوله : ( فَأُدْخِلُوا ) ، حيث وضع الماضي مكان المستقبل لأجل كونه محقّق الوقوع ، وهو خلاف الظاهر ، ثانياً.
٣ ـ قوله سبحانه : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (١٣).
وهذه الآية تحكي عرض آل فرعون على النار صباحاً ومساءً ، قبل يوم القيامة ، بشهادة قوله بعد العرض : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ). ولأجل ذلك ، عبّر عن العذاب الأوّل بالعرض على النار ، وعن العذاب في الآخرة ، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب ، حاكياً عن كون العذاب في البرزخ ، أخفّ وطأً من عذاب يوم الساعة.
نعم ، هناك آيات تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا والبعث ، حياة تناسب هذا الظرف ، تقدّم ذكرها عند البحث عن تجرّد النفس ، ونكتفي هنا بهذا المقدار ، حذراً من الإطالة.
وأمّا من السنّة ، فنكتفي بما جاء عن الصادق عليه السلام ، عندما سئل عن أرواح المؤمنين ؟ فقال : « في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أتمم لنا الساعة وأنجز ما وعدتنا ».
وسئل عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذّبون ، يقولون لا تقم لنا الساعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا » (١٤).
السؤال في القبر وعذابه ونعيمه
إذا كانت الحياة البرزخيّة هي المرحلة الأُولى من الحياة بعد الدنيا ، يظهر لنا أنّ ما اتّفق عليه المسلمون من سؤال الميّت في قبره ، وعذابه إن كان طالحاً وإنعامه إن كان مؤمناً صالحاً ، صحيحٌ لا غبار عليه ، وأنّ الإنسان الحيّ في البرزخ مسؤول عن أُمور ، ثمّ معذّب أو منعّم.
قال الصدوق في عقائده : « اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لا بدّ منها ، ومن أجاب الصواب ، فاز برَوْحٍ وريحان في قبره ، وبجنّة النعيم في الآخرة ، ومن لم يجب بالصواب ، فله نزل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة » (١٥).
وقال الشيخ المفيد : « جاءت الآثار الصحيحة عن النبي أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة ، فمنها أنّ ملكين لله تعالى ، يقال لهما ناكر ونكير ، ينزلان على الميّت فيسألانه عن ربّه ونبيّه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحقّ ، سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن ارتجّ سلّموه إلى ملائكة العذاب. وفي بعض الروايات أنّ اسمي الملكين اللّذين ينزلان على الكافر ، ناكر ونكير ، واسمي الملكين الذين ينزلان على المؤمن مبشّر وبشير ». إلى أن قال :
« وليس ينزل الملكان إلّا على حيّ ، ولا يسألان إلّا من يفهم المسألة ويعرف معناها ، وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة ، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقّه ، أو لعذاب إن كان يستحقّه » (١٦).
وقال المحقّق الطوسي ، في التجريد : « وعذاب القبر واقع ، للإمكان ، وتواترالسمع بوقوعه ».
وقال العلّامة الحلّي في شرحه : « نقل عن ضرار أنّه أنكر عذاب القبر ، والإجماع على خلافه » (١٧).
والظاهر اتّفاق المسلمين على ذلك ، يقول أحمد بن حنبل : « وعذاب القبر حقّ ، يسأل العبد عن دينه وعن ربّه ، ويرى مقعده من النار والجنّة ، ومنكر ونكير حقّ » (١٨).
وقد نسب إلى المعتزلة إنكار عذاب القبر ، والنسبة في غير محلّها ، وإنّما المنكر واحدٌ منهم ، هو ضرار بن عمرو ، كما تقدّم ، وقد تاب عن الاعتزال ولحق بالمجبرة ، قال القاضي عبد الجبّار في فصل عذاب القبر : « وجملة ذلك أنّه لا خلاف فيه بين الأُمّة إلّا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ثمّ التحق بالمجبرة ، ولا يقرّون به » ، ثمّ استدلّ بآيات على حياة الإنسان في البرزخ. (١٩)
هذا كلّه ممّا لا ريب فيه ، إنّما الكلام فيما هو المراد هنا من القبر ، والإمعان في الآيات الماضية التّي استدللنا بها على الحياة البرزخيّة ، والروايات الواردة حول البرزخ ، يعرب بوضوح عن أنّ المراد من القبر ، ليس هو القبر المادي الّذي يدفن فيه الإنسان ، ولا يتجاوز جثّته في السّعة ، وإنّما المراد منه هو النشأة التّي يعيش فيها الإنسان ، بعد الموت وقبل البعث ، وإنّما كنّى بالقبر عنها ، لأنّ النزول إلى القبر يلازم أو يكون بدءاً لوقوع الإنسان فيها.
والظاهر من الروايات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنيويّة ، لكن بلطافة تناسب الحياة في تلك النشأة ، وليس التعلّق بها ملازماً لتجويز التناسخ ، لأنّ المراد من التناسخ هو رجوع الشيء من الفعليّة إلى القوّة ، أعني عودة الروح إلى الدنيا عن طريق النطفة فالعلقة ، فالمضغة إلى أن تصير إنساناً كاملاً ، وهذا منفي عقلاً وشرعاً ، كما سيوافيك. ولا يلزم هذا في تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادي ، في النشأة الثانية.
قال الشيخ البهائي : « قد يتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح ، بعد مفارقة أبدانها العنصريّة ، بأشباح أُخر ـ كما دلّت عليه الأحاديث ـ قولٌ بالتناسخ ، وهذا توهّمٌ سخيف ، لأنّ التناسخ الّذي أطبق المسلمون على بطلانه ، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها ، بأجسام أُخر في هذا العالم ، وأمّا القول بتعلّقها في عالم آخر ، بأبدان مثالية ، مدّة البرزخ ، إلى أن تقوم قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها الأوليّة بإذن مبدعها فليس من التناسخ في شيء » (٢٠).
قال الرازي : « إنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردّها إلى الأبدان ، لا في هذا العالم ، والتناسخيّة يقولون بقدمها ، وردّها إليها ، في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنّة والنار ، وإنّما كفّروا من أجل هذا الإنكار » (٢١).
نَفْخُ الصّور
إنّ الإنسان الّذي يعيش في هذا الكوكب ، بالنسبة إلى المعارف الغيبيّة ، كالجنين في بطن أمّه ، فلو قيل له إنّ وراء الرحم أنجماً وكواكب وشموساً وأقماراً ، وبحاراً ومحيطات ، لا يفقه منها شيئاً ، لأنّها حقائق خارجة عن عالمه الضيّق ، والإنسان المادّي القاطن في هذا الكوكب لا يفقه الحقائق الغيبيّة الموجودة وراء هذا العالم ، فلأجل ذلك لا مناص له من الإيمان المجرّد من دون تعمّق في حقيقتها ، وهذا أصل مفيد جدّاً في باب المعاد ، وعلى ذلك تبتني مسألة نفخ الصور ، فما هو المراد من الصور ، أهو شيء يشابه البوق المتعارف ، أو شيء غيره ؟ وما هو المراد من النفخ ؟ لا مناص لنا من الاعتقاد بوجوده وتحقّقه ، وإن لم نتمكّن من التعرّف على واقعيّته ومع ذلك فلا بّد أن تكون هناك حقيقة واقعيّة ، لها صلة بين نفخ الصور في هذا العالم ، ونفخه في النشأة الأُخرى.
تدلّ الآيات على أنّ الإنسان يعيش في البرزخ إلى أن يفاجئه نفخ الصور ، فعند ذلك يهلك كلّ من في السموات والأرض إلّا من شاء الله ، يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (٢٢). ففي النفخ الأوّل موت كلّ ذي حياة في السّموات والأرض ، كما أنّ في النّفخ الثاني ، إحياءهم.
يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) (٢٣).
ما ذكرناه في هذا البحث تصوير وترسيم للنشأة التي يمرّ بها الإنسان بعد موته إلى أن يقوم من جدثه ، ويحشر إلى الله تعالى. وفي البحث القادم تصويرٌ لمشاهد القيامة ، من بداية وقوعها إلى أن يحاسب الإنسان ويصير إلى مآله من الجنّة أو النّار.
الهوامش
١. المقاييس ، ج ١ ، ص ٣٣٣.
٢. لسان العرب ، ج ٣ ، مادة برزخ ، ص ٨.
٣. سورة المؤمنون : الآية ١٠٠.
٤. سورة الكهف : الآية ، ٧٩.
٥. سورة الرحمن : الآية ٢٠.
٦. سورة غافر : الآية ١١.
٧. سورة البقرة : الآية ٢٨.
٨. سورة الزمر : الآية ٦٨.
٩. سورة يس : الآية ٥١.
١٠. سورة الكهف : الآية ٩٩.
١١. سورة المؤمنون : الآية ١٠١.
١٢. سورة نوح : الآية ٢٥.
١٣. سورة غافر : الآية ٤٦.
١٤. البحار ، ج ٦ ، باب أحوال البرزخ ، ص ١٦٩ ، الحديث ١٢٢ ، وص ٢٧٠ ، الحديث ١٢٦.
١٥. عقائد الصدوق ،ص ٨١ ، من الطبعة الحجريّة الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.
١٦. شرح عقائد الصدوق : ص ٤٥ ـ ٤٦.
١٧. كشف المراد ، ص ٢٦٦ ، طـ صيدا ، ولاحظ إرشاد الطالبين ، ص ٤٢٥.
١٨. السنّة ، لأحمد بن حنبل ، ص ٤٧ ، ولاحظ الإبانة للأ شعري ، ص ٢٧.
١٩. شرح الأُصول الخمسة ، ص ٧٣٠.
٢٠. البحار ، ج ١ ، ص ٢٧٧.
٢١. البحار ، ج ٦ ، ص ٢٧٨. نقلاً عن نهاية العقول للرازي.
٢٢. سورة الزمر : الآية ٦٨.
٢٣. سورة يس : الآية ٥١. والآية ناظرة إلى النفخ الثاني.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : ٤ / الصفحة : ٢٣٣ ـ ٢٤٠
التعلیقات