القرائن الدالّة على نُبوّة الرسول الأعظم
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنة
القرائن الدالّة على نُبوّة الرسول الأعظم
قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ من الطرق التي يستكشف بها صدق دعوى المدّعي
للنبوّة ، شهادة القرائن الداخلية والخارجية .
وهذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر ، لتبيين
صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما ، والتوصّل إلى كنه الحوادث (1) . ولكنه لا يختصّ
بالمحاكم ، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة ، منها إثبات صدق دعوى
المتنبِّيء (2) .
وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأُمور التالية :
1 ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها .
2 ـ الظروف التي فيها نشأ وتربّى وادّعى النبوّة .
3 ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها .
4 ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته .
__________________
(1) والفرق بين هذا المقام وما ذكرنا من الشواهد ، هو أنّ الغاية من جمع الشاهد فيما مضى ، إثبات كون
القرآن كتاباً سماوياً ، ولكن الغاية من جمع القرائن في المقام إثبات كون حامله رسولاً إلهياً ، لا
مصلحاً اجتماعياً .
(2) وقد ذكرنا في النبوة العامة أنّ قيصر الروم هو أول من اعتمد هذا الأسلوب ، وتبعه من أتى بعده .
5 ـ شخصية أتباعه الذين آمنوا به ولزموه وصحبوه .
6 ـ ثباته في سبيل أهدافه ، وصموده في دعوته .
7 ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها .
ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجهٍ ، وكذبها على
وجه آخر ، ولا ندّعي اختصاص القرائن بها ، بل يمكن للممعن في رسالته ،
وحياته ، استخراج قرائن أُخر ، يستدلّ بها على صدق دعواه ، وإليك بيانها ،
واحدة بعد أُخرى .
القرينة الأولى ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها
نشأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في أرفع بيت من بيوت قريش ،
وأعلاها كعباً ، وأشرفها شأناً . فسيرة جدّه عبد المطلب ، وعمّه أبي طالب ، في
الكرم والسخاء وإغاثة الملهوفين ، وحماية الضعفاء ، معروفة في التاريخ والسِيَر .
وأمّا سيرة النبي الأكرم ، فكفى في إشراقها أنّه كان يُدعى بـ « الأمين » ،
وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم . فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة
الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة ، وإجماعهم على قبول قضائه ،
لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم . وذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة ـ التي هدمها
السيل ـ موضع الركن ، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه ، كل قبيلة تريد
أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى ، حتى تحالفوا واستعدّوا للقتال ، فَقَرَّبَتْ بنو
عبد الدار جُفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم وبنو عُدَيْ على الموت ، وأدخلوا
أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو
خمساً ، تُفَكِّر في مَخْلَص من هذه الورطة .
ثم إنّ أبا أُمية ابن المغيرة ، الذي كان أَسن قريش كلها ، إقترح عليهم
اقتراحاً ، قال : « يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه ، أَوَّلَ من
يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم فيه » . ففعلوا . فكان أول داخل
عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما رأوه قالوا : « هذا « الأمين » ،
رضينا ، هذا محمد » ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وآله :
« هَلمّ ثوباً » ، فأتي به . فأخذ الركن ، فوضعه فيه بيده . ثم قال : « لتأخذ كلّ
قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعاً » . ففعلوا . حتى إذا بلغوا به موضعه ،
وضعه هو بيده ، ثم بنوا عليه كما أرادوا .
وقد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبياتٍ ، منها :
رضينا وقلنا : العدلُ أَوَّلُ طالع
يجيء من البطحاء من غير موعدِ
ففاجأنا هذا الأمين محمد
فقلنا : رضينا بالأمين محمدِ
بخير قريش كلّها أمس شيمة
وفي اليوم مع ما يحدث الله في غدِ
فجاء بأمر لم ير الناس مثله
أَعَمَّ وأَرضى في العواقب وألبدِ
وتلك يد منه علينا عظيمة
يروب لها هذا الزمان ويعتدي (1)
هذه لمحة موجزة عن خلقه وسيرته المحمودة المعروفة بين الناس ، وقد
احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته ، وبعد غلبته على أعدائه الألداء ، حتى في
نصره النهائي حين فتح مكة ودخل صناديد قريش الكعبة ، وهم يظنون أنّ السيف
لا يرفع عنهم ، فأخذ رسول الله بباب الكعبة ، وقال : « لا إله إلّا الله ، أنجز
وَعْدَه ، ونَصَرَ عَبْدَهُ ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَهُ » . ثم قال : « ما تظنون » ؟ .
فأجابت قريش « نظن خيراً ، أخ كريم » . فقال : « فإنّي أقول لكم كما قال أخي
يوسف : ( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللَّـهُ لَكُمْ ، وَهُوَ أَرْحَمُ
__________________
(1) السيرة النبوية لابن هشام ، ج 1 ، ص 192 ـ 199 . لاحظ الكافي للكليني ، ج 4 ،
ص 217 ـ 218 .
الرَّاحِمِينَ ) (1) » (2) .
والعجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة ، وهمُّوا باغتياله ، وإراقة دمه ،
كانت أموالهم بين يديه ، وأمانةً عنده ، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت
والهجرة إلى المدينة ، أمر عليّاً أن يقيم صارخاً ، يهتف بالأبطح ، غدوة وعشياً :
« من كان له قِبَلَ محمدٍ أَمانة أو وديعة ، فليأت ، فَلْنُؤَدِّ إِليه أَمانته » ! .
فأقام عليٌّ بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه
وآله الودائع التي كانت عنده للناس (3) .
ومن ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر ، الذي أراد قتله ، بمجرد
التجائه إليه :
فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات ، ذهب النبي الأكرم
لحاجته ، فأصابه المطر ، فبلّ ثوبه ، فنزعه صلى الله عليه وآله ونشره ليجف ،
فألقاه على شجرة ، ثم اضطجع تحتها . فرآه العدو وحيداً بعيداً عن أصحابه ،
فاختار أحدهم سيفاً صارماً ، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور ،
فقال : « يا محمد ، من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « الله » .
عندئذٍ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم وقام به على رأسه فقال :
« من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال : « لا أحد » . ثم قال : « فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً
رسول الله ، والله لا أُكْثِرُ عليك جمعاً أبداً » .
فأعطاه رسول الله سيفه ، ثم أدبر الرجل ، ثم أقبل بوجهه ، فقال : « أما
والله ، لأنت خير مني » .
__________________
(1) سورة يوسف : الآية 92 .
(2) بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 132 ، وغيره من المصادر المتوفرة .
(3) سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 493 . البحار ، ج 19 ، ص 62 .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أنا أحقّ بذلك منك » (1) .
هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق والعدو ، ولو
أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة ، في أدبه وخلقه وسيرته ، ولأجل
ذلك إعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان ، على تلك السيرة ، وجعلها جزءً من
القرائن التي استفاد منها كونه صادقاً في دعوته (2) .
القرينة الثانية ـ الظروف التي فيها نشأ وادعى النُبوّة
كان العرب الجاهليون يضمّون إلى صفاتهم الحسنة من سخاء في الطبع
وإكرام للضيف ، وصيانة للأمانة وإلتزام بالعهود ، صفات ذميمة وأخلاق رذيلة ،
وعادات قبيحة ، وعقائد خرافية .
فالصورة العامة التي يمكن رسمها عنه ، أنّه كان مجتمعاً غارقاً إلى آذانه في
عبادة الحجارة والأوثان ، والفساد الذريع في الأخلاق ، يظهر في شيوع القمار
والزنا ، ووأَد البنات ، وأكل الميتة ، وشرب الدم ، والغارات الثأريّة ، وتغيير
الأشهر الحرم ، وغير ذلك من التقاليد والأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون ، ولا
حاجة للتفصيل (3) .
هذه هي عقائدهم وتقاليدهم ، وعاداتهم ، والنبي الأكرم وليد هذه البيئة
المتدهورة ، نشأ وترعرع فيها ، وقضى أربعين عاماً بينهم ، فإذا به قد بعث بأُصول
وآداب ومعارف ، تضاد ما كان سائداً في تلك البيئة . فلو كان هو في تعاليمه ،
مستمداً من بيئته ، لكان قد تأثّر بها ولو في بعض هذه الصفات والتقاليد .
إنّه ليس من الغريب أن تنبت الأرض الخصبة ، الأشجار النضرة والأزاهير
__________________
(1) المغازي للواقدي ، ( م 207 ) ، ج 1 ، ص 195 ، ط أكسفورد .
(2) تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 290 ـ 291 ، حوادث السنة السادسة للهجرة .
(3) لاحظ للوقوف على تاريخ العرب الجاهليين ، « بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب » للشيخ
الآلوسى ( م 1270 ) . وتاريخ العرب للكاتب د . علي جواد ، في عشرة أجزاء . وغير ذلك .
والرياحين ، وإنّما العجب أن يَنْبُت كل أولئك من أرض مجدبة قاحلة ، يلقي
عليها شبح الموت ظلاله السوداء ، وهكذا كانت شريعة محمد صلى الله عليه وآله
في البيئة التي ظهرت فيها .
القرينة الثالثة ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها
جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شؤون الحياة البشرية وشجونها .
فدعا إلى التوحيد ، ونبذ الوثنية ، وتنزيهه سبحانه عن كل نقص وعيب ،
فَعَرّف الإله الخالق سبحانه ، بقوله : ( هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .
وأين هذا من مفاهيم الشرك والوثنية التي كانت سائدة في ذلك الزمن .
وجاء بمفاهيم سامية حول الحياة الأُخروية ، فَقَرَّرَ أنّ الموت ليس بمعنى ختم
الحياة ، وإنّما هو نافذة للحياة الأبدية ، التي يحياها الإنسان بسعادة أو تعاسة ،
بحسب أعماله الحسنة أو السيئة ، وأين هو من قولهم : ( مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (2) .
وفي حقل الأخلاق والتعاون والتآلف الإجتماعي ، زرع في محيط البغضاء
والشحناء ، بذور المحبة والمواساة ، وجعل أبناء المجتمع الواحد أُخوة في الدين ،
متعاضدين ، متعاونين ، كأنّهم جسد واحد ، فقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ ) (3) .
__________________
(1) سورة الحشر : الآيات 22 ـ 24 .
(2) سورة الجاثية : الآية 24 .
(3) سورة الحجرات : الآية 10 .
وأرسى أركان الإحسان والعدالة الإجتماعية ، وكافة أُصول الشخصية
الإنسانية الفاضلة ، وحذّر من الفواحش والبغي والعدوان ، فقال : ( إِنَّ اللَّـهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) .
وأين هذا من أقبح الممارسات الأخلاقية الرائجة ، ومفاهيم الثأر والعصبية
والإنتقام المحقونة في نفوسهم ، والتي خلّفت حروباً طاحنة ، بين القبائل
العربية ، منها حرب الأوْس والخَزْرَج التي دامت قرابة مائة وعشرين سنة .
يقول ابن خلدون : « العرب الجاهليون ، بطبيعة التوحش الذي فيهم ،
أهل انتهاب وعيث ، ينتهبون ما قدروا عليه ، وكان ذلك عندهم ملذوذاً .
فطبيعتهم إنتهاب ما في أيدي الناس ، وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم ، وليس
عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه ، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو
متاع أو ماعون ، إنتهبوه » (2) .
وفي الحقل الإقتصادي ، جاء بأُصول ومفاهيم بنى عليها بنياناً محكماً من
التشريعات الإقتصادية ، في مختلف أبواب المعاملات .
فمن ذلك أنّه نادى بحرمة الرِّبا الذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة
العربية ، حتى أنّ ثقيف طائف لما أسلموا طلبوا من الرَّسول أنْ يكتب لهم كتاباً
يحلّ لهم فيه الربا والزّنا ، فلما جاء مبعوثهم بكتابهم قال له رسول الله صلى الله عليه
وآله : « إِقرأ » . فلما انتهى إلى الربا ، قال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع
يده ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) (3) ثم
محاها . فلما بلغ القاريء ، الزنا ، وضع يده عليها ، وقال : ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) (4) ثم محاها (5) .
__________________
(1) سورة النحل : الآية 90 .
(2) مقدمة إبن خلدون ، ص 149 .
(3) سورة البقرة : الآية 278 .
(4) سورة الإسراء : الآية 32 .
(5) أُسد الغابة ، ج 1 ، ص 216 في ترجمة تميم بن جراشة الثقفي . والسيرة النبوية لابن هشام .
ج 1 ، ص 540 ، وبينهما اختلاف .
ومن ذلك ، قوله تعالى : ( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ) (1) .
وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) (2) .
ولو أردنا أنْ نبين كافة التعاليم القرآنية في حقول المعارف ، والسياسة ،
والإجتماع ، والأخلاق ، والإقتصاد ، لطال بنا الكلام ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية ،
والكلُّ يشهد على عظمة المفاهيم التي جاء بها الإسلام ، وموافقتها لمقتضى حكم
العقل الصريح ، المتحرر عن قيود الشهوة والخيال ، وهو من أجلى القرائن على
نبوّة من جاء بها .
القرينة الرابعة ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته
لا شكّ أنّ النَّبي الأعظم نجح في دعوته ، وبلغ أهدافه التي قدّرها الله له ،
ولكنه لم يدرك تلك الغاية بالأساليب الملتوية ، ولم يستعن في تحقيقها بكل وسيلة
سائغةً كانت أو محرمةً ، ولم يسلك سبيل الخداع والمكر والحيلة باعتماد مبدأ :
« الغاية تبرر الوسيلة » ، بل إنّ منطق النبي الأكرم ومسلكه ـ وكذا جميع الأنبياء ـ
هو شقّ الطريق على نهج الصدق والعدل ، وهذه حالته التي لم تتفاوت في سَرّاء أو
ضَرّاء ، أو شَدّة أو رَخاء ، . وكان في كل ذلك ممتثلاً قولَه تعالى : ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) (3) ، وقولَه تعالى : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ
أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا ، هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ، وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (4) .
وهذه التعاليم التي اقتدى بها النبي الأكرم في نشر دعوته ، تدلّ على أنّه
__________________
(1) سورة النساء : الآية 29 .
(2) سورة النساء : الآية 58 .
(3) سورة المائدة : الآية 2 .
(4) سورة المائدة : الآية 8 .
( صلى الله عليه وآله ) كان يعامل عدوَّه بالعدل والرأفة ، ولم يكن من الذين
تحجب العداوة بصائرهم ، ويُعمي الإنتصار أعْيُنَهم عن رعاية الحق والعدل .
وبإمكاننا أن نلمس ذلك في توجيهاته إلى أُمراء السرايا ، فإنّه كان إذا أراد
أن يبعث سرية ، دعاهم فأجلسهم بين يديه ، وقال : « سيروا باسم الله ،
وبالله ، وفي سبيل الله ، وعلى مِلَّة رسول الله ، لا تَغُلُّوا » (1) ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا
تغدُروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبياً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجرة إلّا أن
تضطروا إليها ، وأَيُّما رجل مِنْ أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين
فهو جارٌ ، حتى يسمع كلام الله ، فإن تَبِعَكُم ، فأخوكم بالدين ، وإن أبى فأبلغوه
مَأْمَنَهُ ، واستعينوا بالله » .
وفي روايةٍ أنّ النبي كان إذا بعث أميراً له على سرية ، أمره بتقوى الله عز
وجل في خاصّة نفسه ، ثم في أصحابه عامة ، ثم يقول : أُغزوا باسم الله ، وفي
سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تَغُلّوا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تقتلوا
وليداً ولا مُتَبَتِّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة
مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه . وإذا لقيتم عدواً
للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفّوا
عنهم الخ . . . » (2) .
ولقد كان النبي الأكرم يتحرز عن التذرع بوسائل غير واقعية ، حتى لو
كانت الوسيلة مفيدة ونافعة لأهدافه الشخصية ، وشخصيته الإجتماعية ، بل كان
يناهضها ، ويبطلها ، ليستقيم الناس على جادة الواقع والحق .
فنحن نرى أنّ السياسيين المتصدرين لكراسي الرئاسة ، يتجاوبون مع عقائد
الناس وإن كانت مخالفة لعقيدتهم ، وذلك للتحفظ على مناصبهم وعروشهم .
__________________
(1) من الغَلّ ، وهو الخيانة والغش والحقد .
(2) وسائل الشيعة ، ج 11 ، كتاب الجهاد ، الباب 15 من أبواب جهاد العدو ، الحديثين 2 و 3 . وقد
جاءت نماذج من هذه التعاليم في تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 59 . و « الأموال » لأبي عبيد ،
ص 212 .
فهذا « نهرو » بلغ من التجاوب مع قومه إلى حدّ أنّه كان يشترك معهم في مراسم
عبادة البقر ، والتبرّك بفضلاتها ، لكونه مطلوباً عند الشعب ، ومخالفةُ الرأي العام
مضرّة بشخصيته وأهدافه .
فالسياسيون لا يتورعون في تحقيق أهدافهم ، عن استغلال جهل شعوبهم .
وأمّا الأنبياء فقد بعثوا لمكافحة الجهل ، سواء أكان جهل الناس مفيداً لأحوالهم
الشخصية أم نافعاً ، ونذكر لذلك نموذجاً من سيرة النبي الأكرم :
عندما توفي ولده إبراهيم ، غشي الشمس كسوف ، فتلقاه الناس أمراً
معجزاً ، وأنّ المصيبة تركت أثرها في الأرض والسماء ، وانكسفت الشمس لموت
ولده . فلو كان النبي رجلاً مادياً ، طالباً للمنصب والمقام ، لأصفق مع شعبه في
هذه العقيدة ، وتركهم عليها ، ولكنه رجل إلهي واقعي ، فصعد المنبر ، وأماط
الستر عن وجه الحقيقة ، فقال :
« أَيُّها الناس ، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، يجريان بأمره ،
مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا انكسفا أو أحدهما ،
صلُّوا » .
ثم نزل من المنبر ، فصلّى بالناس الكسوف ، فلما سلّم ، قال : « يا عليُّ ،
قمّ فَجَهِّز إِبني » (1) .
ومن دلائل كون النبي رجلاً واقعياً ، يطلب الحقائق ، ولا يستعمل في
أساليب دعوته الخُدْعة ، هو أنّ نفراً من قريش طلبوا من النبي أن يعبد آلهتهم ،
حتى يعبدوا إلهه ، فقام النبي في وجه المعترضين بصراحة ، وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا
عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (2) .
__________________
(1) المحاسن ، للبرقي ، ص313 . وبحار الأنوار ، ج 22 ، ص 156 . والسيرة الحلبية ، ج 3 ،
ص 348 .
(2) سورة الكافرون .
ولكن دعاة الإصلاح الماديين ، يتّخذون ذلك الإقتراح مطيّة لآمالهم ،
فيجيبونه ، حتى إذا تغلّبوا على أعدائهم ، خالفوهم ، وقضوا عليهم وعلى
معتقداتهم .
القرينة الخامسة ـ شخصية المؤمنين به
الناموس المطّرد في الشخصيات ، هو أنّ كل إنسان بارز ، يجذب إليه من
يوافق أفكاره وعقلياته ، فالشخصيات الصالحة تجتمع حولها ، رجال الطهارة
والإيمان والنزاهة ، كما أنّ الشخصيات الطالحة ، تجذب إليها الأشرار والأراذل
ولأجل ذلك يقال في المثل السائد : « قُلْ لي مَنْ تعاشر ، أَقُلْ لك من أنت » ،
ويقول الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسَلْ عن قرينه
فكلُّ قرينٍ بالمقارن يُقْرَنُ
وهذه وإن لم تكن قاعدة كلية ، إلّا أنّها قاعدة غالبية .
وعلى ضوء ذلك الناموس الإجتماعي ، يمكن التعرّف على النبي عن طريق
حوارييه وأصحابه . فنجد فيهم أصحاب عقل وعبقرية ، يضنّ بهم الدهر إلّا في
فترات متباعدة ، كالإمام علي بن أبي طالب ، وسلمان الفارسي ، وأبى ذرٍّ المجاهد
الكبير ، وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم من الشخصيات . وهذا كتاب الرسول ،
يأمره بمجالسة الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي وتجنّب معاشرة المُتْرَفين
المُغَفَّلين .
يقول سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا
قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (1) .
__________________
(1) سورة الكهف : الآية 28 .
ويكفي في ذلك أنّه تَرَبّى في أحضانه ، رجال متفانون في طريق الدين
وتحقيق أهدافه ، وكفى في إظهار ذلك أنّ النبيّ استشار أصحابه في محاربة قريش
في معركة بدر ، وقال : أشيروا عليّ أَيُّها النَّاس .
فقام المقداد بن عمرو ، وقال : يا رسول الله ، إمض لما أراك الله ، فنحن
معك . والله لا نقولُ لكَ كما قالت بنو إسرائيلَ لموسى : « اذهب أنت وربُّك فقاتلا
إنّا ها هنا قاعدون » ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا فإنّا معكما مقاتلون .
فوالذي بعثك بالحق ، لو أمرتنا أن نخوض جَمْرَ الغضا (1) وشوك الهَراس (2) لَخُضناه
معك (3) .
وقال سعد بن معاذ : « فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر
فَخُضْتَهُ ، لَخُضْناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا
غداً ، وإِنّا لَصُبُر في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعلّ الله يريك منا ما تقرُّ به
عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله ، وصِلْ مَنْ شِئت ، واقطع مَنْ شِئت ، وخُذْ من
أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت » (4) .
هؤلاء صحابة النبي والرجال الذين التفوا حوله ، فكانت حياتهم
وكلماتهم : التفاني دون الحق ، والعيش مع الرسول كيفما أراد . ولا نرى نُظَراءَهم
حول السياسيين من رجال الإصلاح ، الذين يعيشون لأجل الأماني المادية .
نعم ، وجود هذه الأنجم الزاهرة حول الرسول ، كافٍ في كون دعوته
إلهية ، ولا يستلزم أن يكون كلُّ مَنْ حوله رجلاً مثالياً . ويكفي في ذلك ملاحظة
التاريخ ، والآيات الواردة حول أصحابه وحوارييه .
__________________
(1) النار المُتّقدة .
(2) شجر كبير الشوك .
(3) السيرة النبوية ، ج 1 ، ص 615 ، وتاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 140 .
(4) المغازي ، للواقدي ، ج 1 ، ص 48 ، وغيره .
القرينة السادسة ـ ثباته في طريق دعوته
إنّ ثبات المدّعي في طريق دعوته ، آية إيمانه بها ، فإذا رؤي فيه أنّه يضحّي
بماله ونفسه وأقربائه ووُلده في طريق دعوته ، ويقتحم بنفسه المعارك الخطيرة ، ولا
يتجنَّن بتقديم غيره ، يستكشف من ذلك كونه مؤمناً بدعوته ، صادقاً في قوله .
وهذا علي بن أبي طالب يصف حال النبي في غزواته ، ويقول :
« كنّا إذا احمرّ البأس ، إتقينا برسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم
يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه » (1) .
وقد اتّفق أهل المغازي والسِير ، على أنّ النبي لم يتراجع في حرب من
الحروب ، بل كان صَموداً في وجه العدو ، رغم ما كان يرد عليه من
الجراحات ، وشيوع اليأس في جيشه .
ويكفي في ذلك السبر في تاريخ حروبه لا سيما في أُحُدْ وغزوة حُنَيْن . ففي
أُحُد عمّت الهزيمة جيشه ، ولم يثبت معه في المعركة إلّا أشخاص قلائل ، فأخذ
يدعو أصحابه وهم ينسحبون من أرض المعركة ، وهو راسخ فيها كالجبل الأشمّ لا
تحركه العواصف . يقول سبحانه ، في حكايته لهذه الواقعة :
( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ،
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ، وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) (2) .
وأوضح من هذا ، ثباتُه في مكة ، وقد كان وحيداً في دعوته ، لم يؤمن به
حينها إلّا عدّة قليلة يعيشون حالة الخوف والمطاردة ، والطواريء الشديدة تنزل على
النبي ، الواحدة منها تلو الأُخرى ، وقد سطّر من تلك الحالات الكثير ، منها :
تعرُّض الأراذل له بالشتم ، وإلقاء القذورات عليه ، أو إلقاء عمامته في عنقه وجرّه
بها ، وغير ذلك ، وهو صابر محتسب (3) . كما كان يتعرض للأذي المستمر من
__________________
(1) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، فصل غريب كلامه ، الرقم 9 .
(2) سورة آل عمران : الآية 153 .
(3) لاحظ السيرة الحلبية ، ج 1 ، ص 293 .
جانب عمّه أبي لهب وزوجته ، وكان رسول الله يجاورهما ، فلم يألُوَا جُهْداً في
إزعاجه وإيذائه ، فكم من مرّة أَلقيا الرماد والتراب على رأسه وثيابه ، وكم من مرة
نشرت أُم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند خروجه ،
ولأجل هذا الإيذاء ، يخصُّ القرآن أبا لَهَبٍ باللّعن ، ويسميه وزوجته (1) .
وكم تعرض أصحابه لألوان العذاب ، كبلال الحبشي ، وآل ياسر
وغيرهم ، الذين هم رموز الصمود والمقاومة ، وأوسمة الفخر والاستقامة . وقد
قام عبد الله بن مسعود يوماً في المسجد ، ورفع عقيرته بقراءة القرآن لإسماع
قريش ، فقرأ : « بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآن » ، فلم تمهله
قريش حتى قامت إليه تضربه حتى أدمي وجهه وجسمه ، وهو مع ذلك مسرور
لإسماعهم كتاب الله العزيز وآياته المباركات (2) .
القرينة السابعة ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها
إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربية ، يكفي في إثبات أنّ
الثورة العارمة على التقاليد والعادات السائدة هناك آنذاك ، في مدّة لا تزيد على
ثلاث وعشرين سنة ، وصُنْع أُمَّةٍ متحضرة منها ، في هذه البرهة الوجيزة من
الزمن ، أمْرٌ يستحيل تحققه عن طريق العلل المادية ، والأساليب الإصلاحية ،
وقد شمل التحوّل جميع جوانب الثقافة والفكر ، والإقتصاد ، والنُّظُم الإجتماعية ،
والطقوس الدينية .
وهذا إنْ دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ وراء هذه الثورة ، إمدادات غيبية ،
نصرت الثائر ، في جميع مواقفه ، سواء أكانت في مجال التبليغ والتبشير ، أم في
مجال الكفاح والجدال ، أم في قلب الأُمة المتوحشة المستبدة ، المتغلغلة في العداء
البغضاء ، أُمَّةً مُوَحَّدَةً ، متعاطفة ومتآخية فيما بينها .
__________________
(1) سورة المسد .
(2) السيرة النبوية ، ج 1 ، ص 314 .
وهذا الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام ، يصف وضع العرب الجاهليين
في بعض خطبة ، ويقول :
« وأنتم معشر العرب على شَرِّ دينٍ ، وفي شَرِّ دار ، منيخون بين حجارة
خشن ، وحيّات صم ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ،
وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » (1) .
فهذه الأُمة ، على هذه الحال وهذه الأوصاف ، تحولت إلى أُمّة ، عالمة ،
أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدّة قصيرة ، وأخذت تكسح العراقيل أمامها ،
وتزعزع عروش الطواغيت في مشارق الأرض ومغاربها ، حتى أرست بنيان دولة
عظيمة ، صارت همزة وصل بين الحضارة اليونانية القديمة والحضارة الصناعية
الحديثة .
هذه دراسة إجمالية للدعوة المحمدية ، وتبيين القرائن الموجودة فيها ، والكُلُّ
يشهد على أنّ الداعي كان صادقاً في دعوته محقّاً في نبوته ، وهذا الطريق الثالث
الذي سلكناه على وجه الإجمال ، قابل للبسط والإسهاب . ففي وُسع المحققين في
الحياة النبوية والملمّين بكتابه وسنته ، أن يشقوا هذا الطريق يشكل مسهب ، حتى
يتجلى صدق دعوته تَجَلِّيَ الشمسِ في رائعةِ النَّهار .
وبهذا البحث نختم البحث عن أصل النبوة الخاصة ، وأمّا سمات دعوته من
حيث كونها أقليمية أو عالمية ، وكونها مرحلية أو خاتمة للرسالات ، فالبحث عنه
على عاتق علم التفسير . غير أنّ الإحالة ، لما كانت عن المحذور غير خالية ،
نبحث فيما يلي عن تينك السِّمَتَيْن بوجه الإجمال (2) .
__________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 25 .
(2) من أراد تفصيل البحث ، فبإمكانه الرجوع إلى ما دَوّنه الأُستاذ دام ظلّه في موسوعته التفسيرية ،
« مفاهيم القرآن » ، ج 3 ، ص 41 ـ 76 في العالمية ، وص 119 ـ 316 في الخاتمية .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 455 ـ 469
التعلیقات