خروج الإمام الحسين عليه السلام من مدينة جدّه
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 سنواتخروج الإمام الحسين عليه السلام من مدينة جدّه
لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ وكتبوا إِلى الحسينِ عليه السّلامُ في خلعِ معاوية والبيعةِ له ، فامتنعَ عليهم وذكرَ أَنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداً لا يجوزُ له نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ.
فلمّا ماتَ معاويةُ ـ وذلكَ للنِّصفِ من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ ـ كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أَبي سفيانَ ـ وكانَ على المدينةِ من قِبَلِ معاويةَ ـ أَن يأْخذَ الحسينَ عليهِ السّلامُ بالبيعةِ له ، ولا يُرخِّصَ له في التّأَخُّرِ عن ذلكَ. فأَنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ في الليلِ فاستدعاه ، فعَرفَ الحسينُ الّذي أَرادَ فدعا جماعةً من مواليه وأَمرَهم بحملِ السِّلاحِ ، وقالَ لهم : « إِنّ الوليدَ قد استدعاني في هذا الوقتِ ، ولستُ آمَنُ أَن يُكلَّفني فيه أَمراً لا أُجيبُه إِليه ، وهو غيرُ مأمونٍ ، فكونوا معي ، فإذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي ».
فصارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ ، فنعى الوليدُ إليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُ عليهِ السّلامُ ، ثمّ قرأ كتابَ يزيدَ وما أَمرَه فيه من أَخذِ البيعةِ منه له ، فقالَ له الحسين : « إِنِّي لا أَراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايِعَه جهراً ، فيعرف الناسُ ذلك » فقالَ الوليدُ له : أَجل ، فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ : « فتصبحُ وترى رأيَكَ في ذلكَ » فقال له الوليدُ : انصرفْ على اسمِ اللهِ حتّى تأتينا معَ جماعةِ النّاسِ. فقالَ له مروانُ : واللهِ لئن فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أَبداً حتّى تكثرَ القتلى بينَكم وبينَه ، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى يبايعَ أَو تضربَ عنقَه. فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُ عليهِ السّلامُ وقالَ : « أَنتَ ـ يا ابنَ الزّرقاءِ ـ تَقتلني أو هو ؟! كذبتَ واللهِ وأَثمتَ » وخرجَ ( يمشي ومعَه ) مواليه حتّى اتى منزلَه.
فقالَ مروان للوليدِ : عصيتَني ، لا واللهِ لا يُمكِّنُكّ مثلَها مِن نفسِه أبداً ، فقالَ الوليدُ : ( الويح لغيرك ) يا مروان إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي فيها هلاكُ ديني ، واللهِ ما أُحِبُّ أَنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأَنّي قتلتُ حسيناً ، سبحانَ اللهِ ! أَقتلُ حسيناً أَنْ قالَ لا أُبايعُ ؟! واللهِ إِنِّي لَأَظنُّ أَنّ امرءاً يُحاسبُ بدمِ الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ. فقالَ له مروانُ : فإِذا كانَ هذا رايك فقد أَصبتَ فيما صنعتَ ؛ يقولُ هذا وهو غيرُ الحامدِ له في رأْيِه.
فأَقامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ في منزلهِ تلكَ الليلَة ، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبٍ سنةَ ستِّينَ. واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزيدَ وامتناعِه عليه. وخرجَ ابنُ الزُّبيرِ من ليلتِه عنِ المدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ ، فلمّا أَصبحَ الوليدُ سرّحَ في أَثرِه الرِّجالَ ، فبعثَ راكباً من موالي بني أُميّةَ في ثمانينَ راكباً ، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعوا.
فلمّا كانَ آخر ( نهارِ يومِ ) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ ليحضرَ فيبايعَ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ ، فقالَ لهم الحسينُ : « أَصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونَرَى » فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم يُلِحُّوا عليه. فخرجَ عليهِ السّلامُ من تحتِ ليلتِه ـ وهي ليلةُ الأَحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ ـ متوجِّهاً نحوَ مكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه وبنو أخيه وجُلُّ أَهلِ بيتهِ إِلّا محمّدَ بنَ الحنفيّةِ ـ رضوان اللهِ عليه ـ فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لمَ يدْرِ أَينَ يتوجّهُ ، فقالَ له : يا أَخي أَنتَ أَحبُّ النّاس إِليَّ وأَعزُّهم عليَّ ولستُ أَدّخِرُ النّصيحةَ لأَحدٍ منَ الخلقِ إِلّا لكَ وأَنتَ أَحقُّ بها ، تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الْأَمصارِ ما استطعتَ ، ثمّ ابعثْ رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَ على ذلكَ ، وإن أَجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم يَنْقُصِ اللهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ؛ إِنّي أَخافُ أَن تَدخلَ مصراً من هذه الْأَمصارِ فيختلف النّاسُ بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ ، فيقتَتلونَ فتكونُ أَنتَ لأَوّلِ الْأَسِنَّةِ ، فإِذا خيرُ هذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأَباً وأُمّاً أَضيعُها دماً وأَذلُّها أَهلاً ، فقالَ له الحسين عليهِ السّلامُ : « فأَينَ أَذهبُ يا أَخي ؟ » قالَ : انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأَنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ ، وإِن ( نَبَتْ بك ) (1) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ ، حتّى تنظرَ ( ما يصيرُ أَمرُ النّاسِ إِليه ) ، فإِنّكَ أَصوبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبَلُ الأَمرَ استقبالاً. فقالَ : « يا أَخي قد نصحتَ وأَشفَقْتَ ، وأَرجو أَن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً ». (2)
إن الله قد شاء أن يراهن سبايا
عن أبي عبدالله عليه السلام قال : جاء محمّد ابن الحنفيّة إلى الحسين عليه السلام في اللّيلة الّتي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكّة فقال له : يا أخي إنَّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزُّ من بالحرم وأمنعه ، فقال : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الّذي يستباح به حرمة هذا البيت ، فقال له ابن الحنفيّة : فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البرِّ فانّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد ، فقال : أنظر فيما قلت.
فلمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأتاه فأخذ بزمام ناقته ـ وقد ركبها ـ فقال : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ قال : أتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد ما فارقتك فقال : يا حسين اخرج فانَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً فقال محمّد ابن الحنفيّة : إنا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النسآء معك وأنت تخرج على مثل هذ الحال ؟ قال : فقال [ لي صلّى الله عليه وآله ] : إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا ، فسلّم عليه ومضى. (3)
كيفية الخروج
كان خروج الحسين بن علي (ع) من المدينة يوم الأحد ليومين بقين من رجب سنة ستين من الهجرة وكان خروجه ليلا خائفا يتكتم كما قال السيد جعفر الحلي في قصيدته الغراء الميمية :
خرج الحسين من المدينة خائفا |
كخروج موسى خائفا يتكتم (4) |
ولكن هناك فرق عظيم بين خروج الحسين وخروج موسى خرج من مدينة فرعون شر خلق الله والحسين خرج من مدينة جده خير خلق الله موسى خرج خائفا على نفسه والحسين خرج خائفا من ان يقتل بالمدينة وتهتك حرمة رسول الله (ص) موسى خرج وحده ولم تكن معه عائلة ولا اطفال والحسين خرج بعيالاته واطفاله قالت سكينة : خرج ابي بنا في ليلة ظلماء وما كان احد اشد خوفاً منا. (5)
لقاؤه مع السيّدة أُمّ سلمة سلام الله عليها
لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمُّ سلمة رضي الله عنها فقالت : يا بنيَّ لا تحزني بخروجك إلى العراق ، فانّي سمعت جدَّك يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلا ، فقال لها : يا اُمّاه ! وأنا والله أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدُّ وإنّي والله لأَعرف اليوم الّذي اُقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة الّتي اُدفن فيها ، وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا اُمّاه أريك حفرتي ومضجعي.
ثمَّ أشار عليه السلام إلى جهة كربلا فانخفضت الأَرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت اُمُّ سلمة بكاءً شديداً ، وسلّمت أمره إلى الله ، فقال لها : يا اُمّاه ! قد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين وأطفالي مذبوحين مظلومين ، مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معينا. (6)
رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى بني هاشم
وقال محمّد بن أبي طالب : روى محمّد بن يعقوب الكلينيُّ في كتاب الرسائل عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن أيّوب بن نوح ، عن صفوان ، عن مروان ابن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ذكرنا خروج الحسين عليه السلام وتخلّف ابن الحنفيّة فقال أبو عبدالله عليه السلام : يا حمزة إنّي ساُخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا ، إنَّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب فيه :
« بسم الله الرَّحمن الرَّحيم من الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب إلى بني هاشم أمّا بعد فانّه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام ». (7)
الهوامش
1. نبت بك : أي لم تجد بها قراراً ، ولم تطمئن عليها. « انظر لسان العرب / المجلّد : 15 / الصفحة : 302 »
2. الإرشاد « للشيخ المفيد » / المجلّد : 2 / الصفحة : 32 ـ 35 / الناشر : مهر ـ قم.
3. بحار الأنوار « للشيخ المجلسي » / المجلّد : 44 / الصفحة : 364 / الناشر : مؤسسة الوفاء ـ بيروت / الطبعة : 2.
راجع : الملهوف « للسيّد ابن طاووس » / الصفحة : 26 ـ 27 / الناشر : مكتبة الداوري ـ قم.
4. سحر بابل وسجع البلابل « للسيد جعفر الحلي » / الصفحة : 429 /الناشر : الشريف الرضي / الطبعة : 1.
5. ثمرات الأعواد « للسيّد علي بن حسين الهاشمي » / المجلّد : 1 / الصفحة : 76 ـ 77 / الناشر : الشريف الرضي / الطبعة : 1.
6. بحار الأنوار « للشيخ المجلسي » / المجلّد : 44 / الصفحة : 331 ـ 332 / الناشر : مؤسسة الوفاء ـ بيروت / الطبعة : 2.
7. بحار الأنوار « للشيخ المجلسي » / المجلّد : 44 / الصفحة : 330 / الناشر : مؤسسة الوفاء ـ بيروت / الطبعة : 2.
التعلیقات