الجانب الربّاني من شخصيّة الإمام الحسين عليه السّلام
السيد محمد تقي المدرسي
منذ 10 سنواتالجانب الربّاني من شخصيّة الإمام الحسين عليه السّلام
من الملفت للنظر في حياة الإمام الحسين عليه السّلام أنّ هناك خصّيصة بارزة في حياته علينا أن نكتشفها ونعتصم بها ، ألا وهي ربّانيته ، وتجرّده في ذات الله تعالى ، وذوبانه في بوتقة التوحيد ، وابتعاده عن أيّ غلٍّ أو شائبة مادية.
ونحن لو تعرّفنا على هذه السمة في حياة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام ، فإنّنا سوف لا نستطيع فقط أن نتعرّف على جوانب شخصيّته ، بل سوف يكون بإمكاننا انتهاج نهجه ، والاستنارة بسيرته ، والرقي ولو بمقدار بسيط إلى تلك القمّة التي كان عليه السّلام قد سما إليها.
والطريق إلى تحقيق هذا الهدف واضح ؛ فمن أراد الله تعالى فعليه أن يبدأ بأبوابه ، وأبو عبدالله عليه السّلام هو من أوسع هذه الأبواب. ومَن أراد معرفة الحسين عليه السّلام فلا بدّ أن يبدأ بمعرفة ربّه خالق السماوات والأرض.
والإمام الحسين عليه السّلام لم يكن رجل حرب وبطل مواقف جهاديّة فحسب ، وإنّما كان يكمل مسيرته الجهاديّة بمسيرة عباديّة.
وفي هذا المجال يروى أنّه قيل لعلي بن الحسين عليه السّلام : ما أقل ولد أبيك ! فقال : « العجب كيف ولدتُ ! كان أبي يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة » (1).
إنّ هذا الرجل العظيم الذي كان يتفرّغ إلى الله ويبكي ويتهجّد ليلاً ، هو نفسه الذي حمل السيف في يوم عاشوراء وصرخ بذلك الدويّ الذي ما زال هتافه يحرك الملايين : « هيهات منّا الذلّة ». فالإيمان هو الذي يحدّد مسار الإنسان ، وهو الذي يوجب عليه أن يسلم تسليماً مطلقاً ، ويكيّف مواقفه بحسب ما يأمره به الله تعالى.
التسليم المطلق
إنّ هذه الحالة ـ حالة التسليم المطلق ـ هي التي تفسّر لنا جميع أبعاد شخصيّة الحسين عليه السّلام ، ونحن نجد تجلّياً لهذا الإيمان في الدعاء الذي قرأه عليه السّلام في يوم عاشوراء ، وهو : « اللّهمَّ أنت متعالي المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النعمة ، حسن البلاء ، قريب إذا دُعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت ، تدرك ما طلبت ، شكور إذا شُكرت ، ذكور إذا ذُكرت ، أدعوك محتاجاً ، وأرغب إليك فقيراً ، وأفزع إليك خائفاً ، وأبكي إليك مكروباً ، وأستعين بك ضعيفاً ، وأتوكّل عليك كافياً.
اللّهمَّ احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ ؛ فإنهم غرّونا وخذلونا ، وغدروا بنا وقتلونا ، ونحن عترة ولد نبيّك وولد حبيبك محمّد الذي اصطفيته بالرسالة ، وائتمنته على الوحي ، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين » (2).
لقد قرأ أبو عبد الله عليه السّلام هذا الدعاء عندما أحاط به ثلاثون ألفاً ، وربّما يكون عليه السّلام قد قرأه بعد أن وقع أصحابه وأهله صرعى مضرّجين بدمائهم على أرض كربلاء ، ومع ذلك فقد كانت بصائر الإيمان تتلألأ وتتجلّى في ملامحه ، فكان كلّما ازدادت المصاعب عليه ازدادت طلعته بهاءً وانشراحاً ؛ لأنّه كان يعلم أنّه قد نجح في أكبر تجربة ، وأعظم بلاء فشل فيه الآخرون.
إن هذا الدعاء هو الذي جعل أبا عبدالله عليه السّلام مقياساً وإماماً لنا ، وقدوة إلى الأبد ، فمثل هذه الروح الإيمانيّة ، والسمو المعنوي جعلا سيّدنا أبا عبدالله عليه السّلام شعلة وقّادة في نفوس الملايين ؛ بحيث إنّنا نجد اليوم ما نجده من بطولات وشجاعة المجاهدين المتّبعين لنهج الحسين عليه السّلام.
ولسوف تمتلئ الأرض عدلاً وحقّاً بسيف حفيد أبي عبدالله الإمام الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه الشريف ؛ حيث سيخرج هذا الإمام حاملاً سيفه وهو يهتف : « يا لثارات الحسين ».
لا بدّ من صبغة ربّانية
ولذلك فإن نصرة الله تعالى للحسين عليه السّلام سوف تتجلّى في هذا اليوم ؛ لأنّه أعطى لله كلّ شيء ، فهو تعالى الحبل الذي اعتصم به أبو عبدالله ، ولا بدّ أن نعتصم به.
وإنّ أهم وصيّة أوصى بها أنبياء الله وأوصياؤهم هي التقوى والتجرّد من الذات ، وهذه الوصيّة هي أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا ، وبالذات لمن يعمل في الساحة السياسيّة ؛ فالإنسان الذي دخل ساحة السياسة لا بدّ أن يدخل في لجج من الفساد الاجتماعي والمشاكل والقضايا المعقدة ، فلا بدّ للإنسان الرسالي من أن يزداد اتّصالاً بالوحي والتعاليم الإلهيّة والرجال الربانيّين.
ومن جهة اُخرى ، إنّ الإنسان الرسالي الذي يخوض المعترك السياسي يواجه ضغوطاً كبيرة ؛ فالمستكبرون يوجّهون إليه الضغوط من كلّ جانب ، ومثل هذا الإنسان يختلف عن الإنسان العادي ، إنّه يحتاج إلى تقوى تحجزه من السقوط في مطبات كثيرة ؛ ولذلك فإنّ الرساليين مدعوون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أن يجعلوا صبغتهم العامة صبغة ربانيّة من خلال اُسلوبين :
1 ـ الاتّصال بالقرآن الكريم
2 ـ البحث في سيرة أهل البيت عليهم السّلام
فنحن كلّما بحثنا في سيرتهم عليه السّلام وازددنا اتّصالاً بهم ، وازداد تمسّكنا بنهجهم ، بذلك يعصمنا الله من المشاكل والأزمات التي تحيط بنا.
هذه هي الوصيّة الاُولى ، أمّا الوصية الثانية تتمثّل في أنّنا ـ نحن المسلمين ـ ما نزال متخلّفين في الاستنارة بالشعلة الحسينيّة الوقّادة بالرغم من أن خطباءنا وكتّابنا الأماجد قد فعلوا الكثير في سبيل بثّ الروح الحسينيّة في نفوسنا ، ولو أنّنا استفدنا من كلّ جوانب حياته عليه السّلام وجعلناه قدوة واُسوة لنا لاستطعنا أن نصل إلى أهدافنا بسرعة أكبر ؛ لذلك فإنّنا مطالبون بإلحاح لدراسة حياة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام ، وحياة الطيّبين من أبنائه ، والسائرين على دربه.
امتحان الاختيار في ثورة الحسين عليه السّلام
ليست بطويلة تلك المسافة الزمنيّة التي تفصل بين ولادتين مباركتين كان فيهما مجد الأمّة الإسلاميّة وعزّتها وحياتها الخالدة بخلود رسالتها الإلهيّة وامتدادها ؛ إنّهما ولادتان لإنسان واحد جسّد الكمال الذي تصبو إليه الإنسانيّة ، ذلك هو السبط الشهيد الحسين عليه السّلام. وتلكما الولادتان هما الولادة الحقيقيّة يوم خرج ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله من رحم الرحمة المرضي ، رحم الطهارة والنور فأنار الدنيا ومَن عليها بإطلالته ، ثمّ الولادة المعنويّة التي كتبت له الخلد في كلّ ضمير حيٍّ ينشد الصلاح والخير.
إنّها لقصيرة تلك المسافة إذا ما قورنت بذلك الدور التاريخي العظيم الذي ينبغي أن يؤدّي في مثل هذا العمر الزمني. لقد ولد أبو عبد الله الحسين عليه السّلام ، وفتح عينيه الشريفتين على نور الرسالة المباركة الذي ولد هو الآخر مع ولادته ، فشاء الله تعالى أن يندمج نور الرسالة البهي بدم ولحم وروح هذا الوليد الطاهر ، وأن يجعل بقاءها وخلودها في عمق الزمان رهن هذا الدم الزكي ، وتلك الروح الطاهرة التي تجسّدت بولادته وحياته الأبديّة في يوم ذروة العطاء والتضحية ، يوم كربلاء والشهادة.
سرّ عظمة وشموخ الحسين عليه السّلام
وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المحوري التالي الذي يتضمّن عدّة تساؤلات : ما الذي جعل الإمام الحسين حسين الحقّ الشامخ الأبي ؟ وما السرّ الذي جعل أئمّة العصمة الهداة أئمّة وقادة لنا نحن المسلمين ؟ ثمّ ما السرّ في وقوع الاختيار الإلهي على هذه العصبة الطيّبة من الرجال الأفذاذ فأكرمهم بأنوار الرسالة بأن جعل منهم أئمّة بعد أن اختار من اُصولهم الأنبياء والرُّسل ؟
هناك تفسير غيبي لا اُريد تناوله ؛ لما فيه من عمق واتّساع وبحث طويل لا يتّسع له بحثنا هذا. فعلينا أن لا ننسى تلك الحقيقة الغيبيّة ، وهي أن لله سبحانه وتعالى في خلقه شؤوناً نحن قاصرون وعاجزون عن الوصول إليها إلّا بمقدار معرفتها ظاهريّاً ، والتسليم المطلق لها ؛ ولذلك فإن السؤال المحوري الذي طرحناه سيدور جوابه حول ما نفهمه ونعيه ونستفيد منه عمليّاً.
وأودّ أن اُقدّم لجواب هذا السؤال مقدّمة هي عبارة عن ملاحظة استوحيتها واستلهمتها من مجمل آيات الذكر الحكيم ، وآثار العترة الطاهرة التي هي عِدل القرآن ؛ هذه الملاحظة تتمثّل في أن الله تعالى خلق الأشياء يوم فطر السماوات والأرض خلقاً واحداً ، في حين أنّه خلق الإنسان خلقين ، فبأمره سبحانه خُلقت الأشياء وصارت وجوداً بتلك القوّة الأزليّة كما عبّر عن ذلك جلّت قدرته بقوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) [ يس / 82 ].
فهذا الكون الذي نحسّه ونبصره إنّما كان رهن « كاف » و « نون » إلهيّة ، ثمّ كانت التطوّرات والأشياء الاُخرى من صنع الله القدير بأسباب وعوامل وسنن خارجة عن الأشياء. فتحوّلات الكون وتطوّراته ومستجدّاته إنما وجدت بفعل تلك القوانين والسنن الكونيّة التي أودعها الله تعالى في الوجود ، هذا في حين أنّه تعالى عندما خلق الإنسان وفطره فإنّ إرادته شاءت أن يكون هذا الخلق الواعي والناطق مرّة بيد قدرته وبصورة مباشرة ؛ حيث قال جلّ وعلا : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ) [ ص / 71 ] ، ومرّة اُخرى بيد الإنسان نفسه بعد أن منحه تعالى ميزة الاختيار وسمة الحريّة.
ومنذ ذلك الوقت الذي أمضى فيه الصورة الثانية من الخلق كانت هذه الميزة والسمة الجليلة مشتقّة من اسمه المبارك ، بل من أسمائه الحسنى ، وهي : الحريّة والاختيار والقدرة.
ولقد بلغت هذه القدرة درجة وعظمة مكّنته من أن يسمو ويرتفع إلى مقام ومنزلة من السمو والكمال تبلغ به قاب قوسين أو أدنى من الكمال إن شاء السمو والارتفاع وبلوغ الدرجات العُلا. أمّا إذا شاء هذا الإنسان ـ والعياذ بالله ـ أن ينحدر ويهوي إلى أسفل سافلين ، والدرك الذي لا يمكن لنا أن نتصوّره ، فإن هذا بإمكانه أيضاً ؛ لأنّ هذا يعود إلى حريّة الاختيار والإرادة الممنوحة لهذا الإنسان بالفطرة.
إرادة الإنسان فوق كلّ قوة
إنّني وحسب معرفتي ومعلوماتي لم أعثر على قوّة ما يمكن أن تسيطر على ذات الإنسان الإراديّة وتفرض وجودها عليها ، وبمعنى آخر ليست هناك قوّة تجبر الإنسان على تغيير سلوكه وتصرّفاته من خارج ذاته ، بل إنّ هذا التغيير لا يحصل إلّا من ذات الإنسان ؛ فالقوى الخارجيّة إنّما تؤثّر في الإنسان بصورة غير مباشرة ، فهي تقصد التأثير على الذات أوّلاً ، وعندها تقرّر الذات هذا التغيير فيخرج إلى الفعل بقوّتها ، أيّ قوّة الذات العقليّة عند الإنسان.
لقد خُلق الإنسان حين خُلق من مزيج الطين والنور ، ومن قبضة التراب التي تغلغلت بين ذرّاته نفحة الروح فكان خلقاً من جنّة في جانب منه ، ومن نار في جانب آخر. ويبقى مصيره حينئذ رهن اختياره وسلوكه ؛ فإمّا أن يحوّل ذاته إلى السلب والنار ، بأن يدسّ نفسه ويوغل ذاته في تراب الشهوات وأوحال الأهواء الضالّة ، فيضيع في ركام التيه والخرافة ، فتصبح ذاته نارية بكلّ ما في الكلمة من معنى ، فتُحشر مع أهل جهنّم وأصحاب السعير.
أمّا عندما تسلك الذات الطريق الموجب ؛ طريق الارتفاع والعلوّ والتزكية والسمو نحو الكامل المطلق ، فإنّها ستغدو حينئذ نوراً بإذن الله ، فتنطلق مع أصحاب النور إلى المستقر الخالد والنعيم الأبدي في جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار.
طريقان لا ثالث لهما
فلتنظر الذات الإنسانيّة ولتبصر ؛ فالطريق طريقان لا ثالث لهما ؛ فإمّا إلى الأعلى مع العلي الأعلى ، وإمّا إلى الأسفل مع الشيطان الأدنى. ولينظر الإنسان حينئذ في حياته وكدحه ، وفي الطريق التي يسلكها : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) [ الانشقاق / 6 ].
إنّ كلّ ما في القرآن وآثار العترة الطاهرة ، بل إنّ جميع الرسالات التي حملها رُسل الله وأنبياؤه وأوصياؤه إنّما تدور حول هذا المحور ، فهي كلّها تؤكّد وتشير إشارات واضحة : أن يا أيّها الإنسان ، كن على يقظة وحذر ، اصحَ من غفلتك ، ابتعد عن مسالك الشيطان الكامنة في النفس الأمّارة.
إنّ جميع الرسالات السماويّة تصرخ بالإنسان أن عد إلى ذاتك ؛ فإنّك وحدك القادر على أن تصنع تلك النفس وتخرجها من حالة الأمر بالسوء إلى الأمر بالخير والكمال ، فالحركة إنّما تنطلق بالإرادة الكامنة في الذات الإنسانيّة.
وهذه الحقيقة هي التي تؤكّدها المدرسة الحسينيّة ، وتبثّها من عمق الزمان منذ يوم مصرعه الدامي عليه السّلام وحتّى قيام الدولة الفاضلة المثلى على يد حفيده المهدي الموعود عليه السّلام.
الإمام الحسين عليه السّلام وامتحان الاختيار
والإمام الحسين عليه السّلام بطبيعة تكوينه كأيّ مخلوق إنساني فُطر في خلقه الاختيار كأيّ إنسان ، وقد امتحن عليه السّلام بالتخيير في أوج حياته الرساليّة ، ويا له من تخيير ! إنّه التخيير بين أمرين ، حتّى إنّه عليه السّلام أكّد بنفسه هذه الحقيقة وأشار إليها بقوله : « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلّة ، وهيهات له ذلك ! هيهات منّي الذلّة ؛ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طهرت ، وحجور طابت » (3).
فالحسين عليه السّلام قد تمّ تخييره هنا ، وكان بإمكانه أن يختار ويسلك المسلك الذي يرتئيه ، وهذا الواقع لا يمكن أن يفرّ منه إنسان ؛ فكل واحد لا بدّ أن يمرّ بامتحان الاختيار هذا في حياته ويُعرّض لابتلاءاته وفتنه ؛ بدءً من الرسل والأنبياء ، وانتهاءً بمَن هم دونهم ودون دونهم ، فجميعهم مرّوا بامتحان التخيير وعانوا فتنه ومصائبه ، فكان عليهم في ذلك الخضم أن يختاروا ويقرّروا الاتّجاه والمسلك.
وقد اجتاز الإمام الحسين عليه السّلام هذا الامتحان بأعلى درجات التفوق عندما ابتلي بالاختيار ، فأطلق ذلك الهتاف الخالد الذي دوّى في عمق التاريخ أن : « هيهات منّي الذلّة ». فهذه هي خيرة أبي عبدالله الحسين عليه السّلام ، وهذا هو قراره التاريخي الذي بيّنه لكلِّ مَن أراد أن يعيش في الحياة حرّاً. ونحن الذين ندّعي حبَّ الحسين عليهم السّلام وموالاته لا بدّ لنا من الاقتداء به ؛ ليكون هذا الاقتداء مصداقاً للحبّ والموالاة هذين.
والاقتداء هو قرار ذلك الامتحان ، امتحان الخيرة الذي لا مفرّ من التعرض له ، فأنا أرى أنّ من المستحيل أن يولد الإنسان في هذا الدنيا وينمو وينضج من دون أن يتعرّض لفتن تقرّر وترسم مصيره ، فكلّ إنسان من ذكر واُنثى لا بدّ أن يمرّ بمواقف وساعات الاختيار.
كيف نختار ، وما هي عوامل الاختيار ؟
وهنا يبرز سؤال مهمّ في هذا الصدد ، وهو : كيف لنا أن نختار ؟ وما هي العوامل التي تكون في عوننا ساعة الاختيار ، ولحظات اتّخاذ القرار التي هي لحظات خطيرة ومصيريّة ، وتمتاز بكونها محدودة وخاطفة ؟
من هذه العوامل عاملا التربية والوراثة اللذان تؤكّدهما تلك الصرخة الثوريّة التي أطلقها أبو عبدالله الحسين عليه السّلام في وجه الاستكبار والانحراف والاستبداد الاُموي.
وهناك عوامل اُخرى يمكن للإنسان الإمساك بزمامها والتحكّم بها ؛ منها عامل الثقافة ، وعامل تاريخ الإنسان وماضيه ؛ فالإنسان المنقاد إلى ربّه بمواظبته على أداء الفرائض العباديّة ، والمنشغل ليله ونهاره بذكر الله العظيم ، هذا الإنسان متوجّه بدمه ولحمه ، وروحه ونفسه وعقله إلى الله سبحانه ، لاهج لسانه بترديد الدعاء الشريف : « ربّي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً » (4).
ولذلك فإنّ يد الرحمة الغيبيّة ستكون في عونه لإنقاذه في لحظة الاختيار ، فتثبت قدمه ، وتطمئنّ قلبه ، لا تدعه يتزلزل وينهار ، ولا تهجره ليصبح عرضة لفتن وابتلاءات الزمان.
ولا عجب من أن تمتدّ يد الرحمة الإلهيّة لعون هذا العبد ؛ ذلك لأنّه قد ذكر ربّه في السرّاء من العيش فأجابه ربّه ، وذكره حين الضرّاء والشدّة. قال الله تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ) [ البقرة / 152 ].
وعندما نقرأ تاريخ الإمام الحسين عليه السّلام قراءة واعية وموضوعيّة ، نجد أنّه عليه السّلام ولد ثانية في كربلاء ساعة نيله تلك المنزلة الرفيعة التي لم ينلها أحد من قبل ، وهي منزلة ربّانية اختارها الله تعالى له ليخلد مثالاً وضّاءً في قلب التاريخ لا ينقطع شعاعه ، ولا يخمد وهجه رغم كلّ محاولات الاُمويّين على امتداد هذا التاريخ.
الإمام الحسين عليه السّلام مجمع الكرامات والفضائل
ترى لِمَ هذا الاختيار الإلهي ؟ ربّما كان هناك مَن سبق الإمام الحسين عليه السّلام من الأنبياء في الشهادة ، وتلت قافلته مئات القوافل من المؤمنين الشهداء على طريقه ، لكن شهادة الحسين عليه السّلام تتجلّى بنور خاص بها ، إنّها وسام ربّاني قلّ مَن نال شرفه.
ولعلّ أقدس المكرمات التي اُعطيها الحسين عليه السّلام أن جعل الله سبحانه منه استمرار ذرّيّة الهداية والعصمة الطاهرة ، ومنه عليه السّلام أيضاً ينحدر أصل الإمام الحجّة القائم المهدي عجّل الله فرجه الشريف الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً ، فهذه هي أعلى المكرمات بعد الشهادة.
ثمّ إنّ من تلك الكرامات أيضاً أن جعل سبحانه في تربته الشفاء من الآلام والأسقام , ولعلّنا كلّنا قد لمسنا وجرّبنا هذه الحقيقة ؛ فالكثير منّا يروي خلاصه من أخطار جمّة ؛ لأنّه كان يحمل معه حبّات من تلك التربة الطاهرة التي امتزجت بقطرات دم سيّد الشهداء ودم أصحابه الأوفياء.
وأنا هنا لا اُريد أن أزجّ نفسي والقارئ في مخاض غيـبي ؛ ذلك لأنّ للغيب مقدّماته واُصوله وحديثه المسهب. ثمّ إنّ كل امرئ ليس قادراً على استيعاب وتحمّل معاني الغيب وآفاقه الواسعة إلّا ذلك الذي رُزق الحكمة ، واُوتي البصيرة والتدبير والوعي ، ولكنّي اُريد البحث هنا في المعاني البسيطة الظاهرة للأذهان ، والمستلهمة من الظاهرة التاريخيّة.
وبعد أن انتهت فصول تلك الملحمة العظيمة في التاريخ البشري باستشهاد الإمام الحسين عليه السّلام وصحبه الأوفياء ، همّ نجل الإمام الحسين الشهيد الإمام زين العابدين عليه السّلام بحمل جثمان أبيه سيّد الشهداء ، فوجد على ظهره آثار جرح ليس كبقيّة الجراح ، فقد كان يبدو عليه القدم ، فقال الإمام عليه السّلام : « حاشا لله أن يكون والدي قد جُرح من ظهره ! ».
وقد صدق زين العابدين عليه السّلام ؛ فالحسين ما ولّى ولم يولِّ ظهراً لعدوٍ طلبه حتّى يُصاب في ظهره ، فهذا هو شأن الأئمّة عليهم السّلام ؛ لأنّ معنى الانهزام وتولية الأدبار لم يك يوجد في قاموس شجاعتهم وفروسيتهم ، فمن أين مصدر الجرح هذا إذاً ؟
إنّه وكما تقول الروايات آثار ذلك الجُراب « الكيس » الذي كان يحمله في تلك الليالي المظلمة ؛ فقد كان عليه السّلام يحمل على ظهره تلك الجراب الملأى بالمساعدات ، فيؤدّي خدمة للعباد ابتغاء مرضاة الله. فهذه الخدمات التي قد يستنكف بعضنا عن أدائها قد أدّاها أئمّتنا المعصومون عليهم السّلام ومنهم الإمام الحسين عليهم السّلام.
إنّ هذه الأعمال الصالحة والخدمات الإسلاميّة العظيمة لا تضيع عند الله سبحانه ، وحاشا له ذلك ، إنّها لا بدّ أن تتحوّل في يوم من الأيّام إلى خدمة كبيرة ، ومنزلة عظيمة ، ودرجات علوية في الآخرة كما هي في الدنيا ، فهذه هي مسيرة الكمال والرفعة ؛ درجة بعد درجة حتّى بلوغ القمة.
ماذا نستلهم من شهادة الحسين عليه السّلام ؟
فإذا كانت الشهادات أوسمة رفيعة على صدور أصحابها ، يعلوها جميعاً وسام الإمام الحسين الأوّل ، ترى ما الذي نستفيده ونستلهمه ونستوحيه من معانيها ؟
إنّ مَن رام في حياته تحقيق أهداف سامية ، وبلوغ نتائج عظيمة لا بدّ له من بذل الجهود ، وترويض النفس على الإيمان كي تتهيّأ بذلك مقدّمات بمستوى تلك الأهداف والنتائج السامية ؛ فمن رام بلوغ القمم السامقة لا بدّ أن يوجد في نفسه العزيمة والحيويّة الكافيتين ، وبدون ذلك لا يمكن تحقيق النتائج العظمى.
والذي اُريد تأكيده هنا فيما يتعلّق بنا ـ نحن المسلمين ـ في جميع أنحاء العالم ، هو إنّنا لا ينبغي أن نركز ونؤكّد فقط على تلك اللحظات الأخيرة من حياة سيّد الشهداء عليه السّلام ؛ فعلينا اليوم أن نفهم وندرك معاني حركة الإمام الحسين عليه السّلام ، وحياته وأهدافه ، ونعي معها تلك البصائر التي وضع ورسم خطوطها أبو عبدالله الحسين عليه السّلام بدمه وجهاده ورسالته الثوريّة ، فلا بدّ لنا من التركيز على هذه البصائر وامتداداتها وأبعادها الواسعة.
فنحن حينما نسأل الله وندعوه أن يرزقنا حسن العاقبة ، ويوفقنا إلى عاقبة كعاقبة الحسين عليه السّلام ، فعلينا أن نهتمّ بالبداية الحسنة ، والبادرة الطيبة ؛ وإلّا فإنّ الهدف ليس سهل المنال كما قد يتصوّر أحياناً.
تربية الجيل الحسيني
وبمعنى آخر : إذا أردنا أن نبني مجتمعاً حسيني السمة والمنهج والمسيرة ، ويتحدّى الظلم ، ويقارع الإرهاب ، ويقاوم الاستبداد ، ويقف متحدّياً كلّ المؤامرات والدسائس الاستعماريّة ، فليس لنا طريق إلى ذلك غير أن ننشأ ونربّي جيلاً حسينياً من كلّ جوانبه ، متسلحاً بمبادئ الرسالة والثقافة الحسينيّة ، ومستلهماً منها ؛ فثقافة الحسين عليه السّلام هي ثقافة القرآن أيضاً ، وثقافة أبيه وجده صلوات الله عليهما ، وهي تجسيد حيّ للثقافة التي تضمنها نهج الجهاد والرسالة والحياة.
ونحن اليوم إذا وجدنا أنّ هناك في بلد ما نظاماً طاغوتياً متسلّطاً ، فلنعلم أنّ من المحال أن يكون هذا البلد قرآنياً ، فلا بدّ أن تكون قد حدثت قطيعة بين شعب هذا البلد وبين القرآن الذي تراه مصفوفاً على الرفوف ، يرقد عليه الغبار والتراب.
وهذا الواقع المأساوي المرفوض ليس ببعيد عنّا ، أفلا يكفي أن يكون القرآن في متناول أيدينا وأسماعنا ثمّ بعد ذلك كلّه تجد ثقافاتنا بعيدة كلّ البعد عن ثقافة القرآن ؟ أفلا عدنا من جديد إلى ألف باء الإسلام ، وإلى تلاوة جزء عمّ وتبارك ؟ فالذي يقود حركة الشعوب ونهضتها نحو التحرّر والاستقلال والكرامة هو البصائر والرؤى والثقافات التاريخيّة العريقة التي بنت أمجاد الأمم والتي لا نراها غير البصائر والثقافات القرآنيّة.
بعد هذا كلّه دعونا نعود إلى البداية وننطلق منها ثانية ، هلموا بنا نربي وننشأ أجيالنا وأطفالنا على تلك الرؤى والبصائر القرآنيّة ؛ على نهج النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام ، وما رسموه لنا من خطوط في العمل والمواقف والسياسات.
إذاً لا بدّ لنا من أن ننهض نهضة قرآنيّة حسينيّة حقيقيّة تتجسّد في واقع حياتنا المعاش ، فعندما نتلو القرآن يجب أن نتلوه تلك التلاوة التي تحوّله إلى جزء من حياتنا وواقعنا. فهذا هو كلّه ما يجب أن نتّخذه محوراً في حياتنا كمسلمين حقيقيين ، ومؤمنين رساليين ، وبذلك تتحوّل مجتمعاتنا إلى مجتمعات حسينيّة.
الشعارات وحدها لا تكفي
إنّ اُولئك الذين يريدون أن تبرز الثورات إلى الوجود بمجموعة من الشعارات والتظاهرات ، فإنّ هؤلاء يتّصفون بنوع من السذاجة السياسيّة وتجاهل الحقائق ، وقد آثروا نوعاً من العودة إلى حالة الراحة والاسترخاء ، في حين أنّ الثورة هي مسيرة صعبة وعرة ؛ لأنّ الذي يتصدّى لمسؤوليتها ، وينطلق في ركابها ، إنّما يريد أن يحدث تغييراً وانقلاباً كبيرين.
إنّ العالم الإسلامي يعيش اليوم صحوة إسلاميّة ، وهو مستعد اليوم للقيام بالثورات ، لكن هذا الاستعداد كما يبدو لي يشبه الذي حدث في سنة « 1920 » من هذا القرن ؛ فقد كانت هناك أيضاً صحوة إسلاميّة وربّما على نطاق عالمي ، لكن هذه الصحوة لا تبقى دائماً ولا تتوَّج بالانتصار في جميع الحالات.
فلا بدّ إذاً أن يكثف علماء ومفكّروا الاُمّة الإسلاميّة من جهودهم ، ولا بدّ أن يخطّطوا بكلِّ ثقة وجدّية وإخلاص ، ويحشدوا طاقاتهم الفكريّة في صياغة وبناء استراتيجيّات ثقافيّة ثابتة لهذه الاُمّة ، أمّا إذا كانت المسيرة كلاسيكيّة منسجمة مع واقع تاريخ الأمس فإنّنا لن نجني إلّا ما جنوا ؛ أيّ أنّ الواقع السلبي سيتكرّر بطريقة أو باُخرى.
علينا إذاً أن نطوي ذلك الماضي ونبدأ من جديد نهضة وانطلاقة جديدة من هذا المضمار ؛ فها هي البصائر الإلهيّة التي يجب أن تترسّخ في قلوبنا ، وتتكرّس في نفوسنا وأرواحنا ، وإنّ ما يجري ويدور اليوم هنا وهناك من محاولات ، وما يبذل من جهود لترقيع ولملمة الساحة دون الالتفات إلى ضرورة إيجاد محاور حقيقيّة تفجر الساحة وتحوّلها إلى ميدان حسيني ، كلّ ذلك لا أراه إلّا تضييعاً للجهود والفرص ، وأعمالاً عابرة لا تجدي نفعاً ، وهي إن أثمرت فإنّ ثمارها لا تُسمن ولا تغني من جوع.
إنّنا لا نستطيع أن نستجدي نصراً ، أو نسترد حقوقاً من خلال اتّكالنا على منظمات حقوق الإنسان وغيرها ، وهل تتوقّع خيراً وفرجاً يحقّقه لنا اُولئك الذين فعلوا ما فعلوا بنا بالأمس القريب ، اُولئك الذين قتلونا وعذّبونا ، وأبعدونا عن ديارنا وأوطاننا ، ومزّقونا كلّ ممزق ، ثمّ بعد ذلك كلّه نطلب العون ونستجدي المناصرة منهم ؟!
إنّها سذاجة أن نفعل ذلك ، وإنّها لتعاسة نحن نعيش فيها عندما غدونا نتشبث بهؤلاء الشراذم فنهرب منهم إليهم ، ونعوذ من غضبهم برحمتهم ، وقد نسينا أنّ ربنا تعالى هو الأحقّ بالهرب منه إليه.
إنّ الموضوع المهمّ الذي اُريد الإشارة إليه هنا أنّ الحقّ يؤخذ ولا يُعطى ، فنحن لا ننال الحقّ إلّا بوعينا وتخطيطنا الهادف ، وإستراتيجيتنا الحكيمة من خلال تفجير ثورة حقيقيّة.
إذاً فنحن بحاجة إلى عودة لتلك الجذور والأصول الخيرة ، كما أنّ المسيرة بحاجة إلى جهود وطاقات لا تنضب ولا تكل من الحركة المستمرّة والعطاء المتواصل.
القمم الشامخة في النهضة الحسينيّة
مثل الناس في الحياة كمثل الجبل المرتفع الذي ترى فيه القمة العالية ، والسفح العالي ، ثمّ السفوح الواطئة حتّى تصل إلى الوادي السحيق. وهكذا الحال بالنسبة إلى الناس ؛ فالبعض منهم يعيش في القمّة ، وآخرون يعيشون في أعالي السفح ، وهكذا حتّى تصل إلى فريق من الناس يعيشون في مستوى متدنٍ.
كيف نعرف درجتنا الإيمانيّة ؟
والمراقب الذي ينظر من بعيد إلى منظر كهذا ، من السهل عليه أن يميّز درجات الناس ، ولكن الذي يجلس في موقع من مواقع الجبل فإنّ من الصعب عليه أن يميّز موقعه ، ربّما يمكنه أن ينظر إلى مَن هو تحته فيدرك أنّه أقلّ منه مستوى ، ولكن هل يستطيع أن يميّز من هو فوقه ؟
وفي الواقع فإنّ القليل من الناس يستطيعون ذلك ، فالأمر ليس بهين ؛ ذلك لأنّ حب الذات ، والأنانيّة المقيتة ، واعتقاد الإنسان بأنّ خطه هو السليم ، كلّ ذلك لا يدعه أن يفكّر في موقعه الذي هو فيه.
والذي يزيد الطين بلّة إن غالبية الناس يعلمون أنّ هناك اُناساً قد استقرّوا في أعالي القمم ، وأنّهم هم الحجّة الذين ينبغي أن نحاول الوصول إلى مستويات قريبة من مستواهم ، فنحن نعلم أنّ علينا الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وآله ، حيث يقول تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [ الأحزاب / 21 ] ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاقتداء بالأئمّة الأطهار والأولياء والصالحين.
نحن نعلم كلّ ذلك ، ولكنّنا مع ذلك لا نعلم المستوى الذي نستقرّ فيه ، وعليه فإنّنا لا نعلم حجم الجهد الذي يجب أن نبذله لنصل إلى تلك القمة.
فأنت ـ على سبيل المثال ـ تقف عند قبور أنصار الحسين عليه السّلام وتقول : فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم (5) ، ولكن هل تدري معنى ما تقوله ؟ وهل تعرف موقعك بالنسبة إلى من تريد أن تكون معهم ؟ لو كُشف لك الغطاء لعلمت بأنّهم في قمة شاهقة وأنّك في السفح الداني ، وأنّ عليك أن تصعد عالياً وطويلاً حتّى تصل إلى القمة ؛ فقد كان الواحد منهم مثل حبيب بن مظاهر الأسدي يختم القرآن في ليلة واحدة ؛ فقد كان يبدأ بقراءة سورة الحمد عند أوّل الليل وينتهي إلى كلمة الناس في ثانية المعوذتين عند طلوع الفجر أو قُبيله.
وأنا هنا أدعوك لأن تجرب هذا العمل ولو لمرّة واحدة ، وعند ذاك انظر هل تستطيع أن تكون معهم أم لا ؟ فإن لم تستطع ، ووسوسة لك نفسك بأنّك تريد أن تنام وترتاح ، فعليك أن تفعل ذلك في ثلاث ليال ، فإن لم تستطع ففي خمس أو عشر ، وإن لم تستطع فاختم القرآن في ثلاثين ليلة ، وهكذا فإنّ عليك أن تصعد ثلاثين درجة حتّى تحرز صفة من صفات حبيب بن مظاهر.
لنحاول أن نكون كأصحاب الحسين عليه السّلام
حاول أن تصل إلى درجة الحرّ بن يزيد الرياحي مثلاً ، فإن صممت على ذلك فعليك أن تجرب نفسك كقائد جيش أو ضابط فيه ؛ حيث وسائل التضليل والتزوير ، والترهيب والترغيب متوفرة ، وحيث هناك عمليّات منظمة لغسيل الدماغ سُلّطت عليك ليل نهار فصوّرت لك أنّ الحسين عليه السّلام خارجي ، وأن شريحاً قد أفتى ، وخليفة المسلمين أمر ، وأمير الكوفة نفّذ ، والحسين (عليه السّلام) خالف , كلّ هذه الأوضاع تدعوك إلى أن تتبع الأوامر لأنّك عسكري ، ولكن عليك كإنسان أن تتجاوز هذه الأوضاع ، وتثور على هواك فتنتصر عليه ، وتنضمّ إلى جانب الحقّ. وهذا هو ما فعله الحرّ ، فإن أردت أن تكون معه فأفعل ما فعله.
وإذا ادّعيت أنّك تستطيع أن تصل إلى درجة الأصحاب ؛ لأنّك رجل مؤمن ، أو عالم دين ، أو خطيب مقتدر ، فجرّب نفسك إذا ذهبت مرّة إلى مجلس ورأيت خطيباً يصعد المنبر وقد التفّ الناس من حوله ، في حين أنّ منبرك لا يحضره إلّا القليل ، فقد تتساءل في هذه الحالة : لماذا التفّ الناس حول هذا الخطيب وتفرّقوا من حولي ؟
وحينئذ ستوحي لك النفس الأمارة بالسوء بأنّه ينتمي إلى الجماعة الكذائيّة ، أو لأنّه يكذب في كلامه ، أو لأنّه كذا وكذا ... وهكذا يوسوس الشيطان في صدرك حتّى تكاد تصدق الأمر ، ولكن ـ إذا كنت مؤمناً حقّاً ـ سرعان ما يرد إلى ذهنك نداء يدعوك إلى العدول عما وسوسه لك الشيطان ، والعودة إلى ما يأمرك به القرآن.
وهكذا فإنّ هداية الله تأتيك في لحظات ، وتمرّ عليك كالبرق الخاطف في الليالي المظلمة ، فإن كنت ذا إرادة قويّة فإنّك ستتمسّك بهذه الهداية ، وتنقذ نفسك من الهلاك. وإذا ما نُصبت ـ على سبيل المثال ـ إماماً لجماعة في مسجد ، ثمّ جاء آخر أفضل منك ، فعليك أن تختار التنازل عن هذه الإمامة لذلك الرجل ؛ لأنّه أجدر بها ، فهل لك القدرة والإرادة لأن تقوم بذلك ؟ فأنت إذا ما تمسّكت بحبل الله المتين فسوف يطمئنّ قلبك ، وتستطيع أن تزيل النواقص الموجودة فيك.
لنتجاوز نواقصنا البشريّة
أرأيت كيف أنّ أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام ضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ؟ إنّ هذه التضحية لم تكن في مقدورهم ما لم يتجاوزوا النواقص البشريّة والوساوس الشيطانيّة في أنفسهم.
فالحرّ قد قتل نفسه الأمارة بالسوء في لحظة واحدة ؛ فتقدّم نحو نور الهداية تاركاً وراءه الحقد والحسد ، وحبّ الرئاسة والانحرافات الاُخرى ، وكذلك بقية أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام ؛ إذ إنّهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، فالعبّاس عليه السّلام كان راكباً فرسه ليل نهار يحمي أهل البيت عليهم السّلام ، وعندما اقتحم بفرسه هذا المشرعة مدّ يده الكريمة ليغترف غرفة من الماء يشربها ، فيدور في ذهنه ما يدور ، ويلقي الماء ويقول :
يا نفسُ من بعد الحسين هوني |
وبعده لا كنتِ أن تكوني | |
هذا الحسين شارب المنونِ |
وتشربين بارد المعينِ | |
والله ما هذا فعال ديني |
ولا فعال صادقِ اليقينِ |
فهذه هي الإرادة المثلى ، فقس إرادتك على ضوئها ، فأنت عندما تصوم في أيّام الصيف فإنّك تذهب لتغسل وجهك عدّة مرات في اليوم ، وتنام تحت المكيف ، فهل يمكن أن تقاس إرادة العباس عليه السّلام بإرادتك ؟ ومع ذلك فإن من لطف الله تعالى أن لا يمتحن عباده بامتحانات صعبة دائماً ، وذلك جاء في الدعاء القرآني : ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) [ البقرة / 286 ] ، كما جاء به الدعاء أيضاً : « اللّهمَّ إنّي أعوذ بك من جهد البلاء » (6).
أمّا إذا كان إيمان الإنسان ضعيفاً ، فإنّه لا يستطيع أن يجتاز الامتحان وإن كان سهلاً.
أصحاب الحسين عليه السّلام قمم شامخة
نحن حينما نقف أمام هذه القمم العالية لا بدّ أن نشحن إرادتنا وعزيمتنا بمزيد من القوّة تمكّننا من أن نغذّي السير في مسيرة تكامليّة مستمرّة توصلنا إليهم ، أو إلى القرب من درجاتهم ، ولا نكن مثل ذلك الرجل الذي كان يقول في نفسه : مَن هم أصحاب الحسين ؟ إنّهم لم يفعلوا شيئاً سوى أنّهم قاوموا الأعداء ساعة واحدة ثمّ قتلوا ، في حين أنّني أفيد المجتمع.
وفي ذات الليلة رأى في المنام ساحة المعركة في يوم عاشوراء ، والإمام الحسين عليه السّلام واقف وأصحابه بين يديه يذبون عنه ، وعندما حان وقت الزوال ذكّر أحد الأصحاب أبا عبدالله عليه السّلام بالصلاة ، فقال له الحسين عليهم السّلام : « رحمك الله وجعلك من الذاكرين ». فأراد الأصحاب أن يصلّوا الجماعة بإمامه الحسين عليه السّلام ، فقال الإمام عليهم السّلام للرجل الذي كان يرى هذا المنام : « قف أمامي لتصدّ عنّي السيوف والرماح والسهام حتّى نصلّي ».
فوقف ، وإذا بالسهام تأتيه الواحدة تلو الاُخرى ، فأصابه سهم في ناحيته اليسرى ، فأدار رأسه يميناً وإذا بسهم آخر أصاب جنبه الأيمن ، وهكذا حتّى انهزم من المعركة. ثمّ استيقظ من النوم وإذا به يرى رأسه وقد ضرب حائط الغرفة فجرى منه الدم ، فجاء الرجل في الصباح إلى المجلس بين أصدقائه وهو مشدود الرأس ، فقصّ عليهم الرؤيا ، ثمّ قال لهم : سوف لن أقول بعد ذلك في زيارتي للأصحاب : « يا ليتني كنت معكم » ؛ لأنّني لست في مستوى تضحيتهم ومقاومتهم.
ضرورة عدم التهاون والانهيار
وأنت أيّها المؤمن عليك أن لا تتهاون وتنهار ، فإن أصابك في خلال العمل خلل بسيط كأن تغير برنامج نومك أو أكلك ، أو لم يحترمك شخص ما ، فعليك بالتريّث والصبر ، لا أن تعادي غيرك ؛ ذلك لأنّ العزيمة الراسخة ، والإرادة القويّة تشحنان الإنسان بقوّة اليقين والصبر حتّى توصله إلى هدفه السامي.
ومن أجل تحقيق ذلك فإنّك تحتاج إلى برمجة العمل خلال مدة زمنيّة معيّنة لكي تربي نفسك وتربي الآخرين ؛ وذلك بأن تقوّي إرادتك بتهذيب النفس وتزكيتها ، فإنّك إن لم تقض على الصفات الخبيثة كالحسد والحقد والكبر ... فمن الممكن أن تجرّك إلى متاهات ، وبالتالي تلقي بك في نار جهنّم.
فكن على حذر من تلك الصفات ؛ فإنّ ذرّة الكبر ـ مثلاً ـ تحرق بيدراً من الإيمان فلا يبقى لك من الإيمان شيء ، وعندئذٍ ستتكبّر على الناس وعلى الحقّ ، لا بل على الله الذي خلقك ؛ فتجنّب أن تتحدّث بلغة الأنا ، وهذه هي الخطوة الأولى في طريق التزكية.
قارن بين نفسك والآخرين
وأنت عندما تجلس في مجلس عزاء للحسين عليه السّلام وأخوك المؤمن جالس بجنبك ، فهل تعرف كم هي المسافة بينك وبينه ؟ ربّما تكون هذه المسافة كالبعد بين السماء والأرض ؛ فأخوك المؤمن يهتزّ قلبه إذا ما ذكر الحسين عليه السّلام ، فهو يعرف شأنه ، وبالتالي فإنه يعرف حجّة الله ، أيّ يعرفه الله ورسالاته.
فهو والحالة هذه يعيش في فضاء من السمو واليقين ، أمّا أنت فقد تفكّر وأنت تجلس في مجلس العزاء في قضايا شخصيّة ، وعندما تذكر مصيبة الحسين عليه السّلام قد تدمع عيونك بغزارة أكثر من صاحبك ، ولكن المقياس ليس في البكاء ، بل في اليقين والإرادة ، ومقدار استيعابك لتلك الثورة المقدّسة.
فبعض الناس يبكون في المآتم ليس حزناً على الإمام الحسين عليه السّلام ، ولا تأثّراً بمصابه ، بل يبكوا على مآسيهم ومصالحهم الذاتية ؛ وبناء على ذلك حاول دائماً أن تحلّق في عالم الكمال أكثر من ذي قبل ، ودقّق فيما حولك وخذ العبرة منه.
الشهادة الناطقة
مع حلول شهر محرّم الحرام نستقبل موسم الدم الذي هزم السيف ، ذلك الدم الذي جرى في أرض كربلاء ليبقى جارياً ، ولتبقى معه عاشوراء مبعث الألم والبطولة ، مبعث المأساة والتحدي , خالدة في ضمير الأجيال.
فيا ترى ما هي فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السّلام ؟ هذه الفلسفة تتلخص في كلمة واحدة هي أن الإمام الحسين عليه السّلام كان داعياً إلى الله تعالى ، وحينما رأى أن دعوته إلى الله بحاجة إلى أن تُكتب بدمه ، وتعمّد بشهادته وشهادة أبنائه حتّى الطفل الرضيع ، حينما أدرك ذلك اقتحم عليه السّلام ميدان الشهادة ، وبادر إلى العطاء في سبيل الله.
ولما كان الحزب الاُموي متجذّراً في السلطة ، كان المجتمع بحاجة إلى هزة عنيفة ليقتلع جذور الاُمويّة ، وهذا ما حدث بالضبط بفضل دم أبي عبدالله الحسين عليه السّلام.
ترى كيف حدث كلّ ذلك ؟ السرّ يكمن في أنّ الحسين عليهم السّلام كان دماً ناطقاً ، وإعلاماً داعياً إلى الله ، وشهادة من أجله تعالى ، هذه الشهادة التي نردّدها يوميّاً في الصلاة « أشهد أن لا إله إلّا الله ». ماذا تعني ؟ إنّها تعني إعلان الحقّ ؛ فأنت بإمكانك أن تجلس في بيتك وتقول « أشهد أن لا إله إلّا الله » ، فما الذي يدعوك إلى أن تصعد فوق المنابر وتنادي بهذه الشهادة خمس مرّات في كلّ يوم ؟ لأنّ الإسلام بحاجة إلى إعلام ؛ لأن هدف الرسالات الأساسي هو دعوة الناس إلى الله تعالى.
وفي بعض الأحيان تحتاج الدعوة إلى الله ، إلى صوت ، وفي أحيان اُخرى تكون بحاجة إلى دم ، وقد عرف الحسين عليه السّلام هذه المسيرة فأعطى الدم ، ومن المعلوم أنّ هذا الإعلام يجب أن ينسجم مع المبدأ ومع ظروف المجتمع ، ويجب أن يكون بحجم هذه الظروف.
أيّ إنّنا يجب أن نثبت صمودنا في هذا الإعلام من خلال ساحة الجهاد ، ومن خلال الدم الذي يُراق ؛ ولذلك فإنّ الإعلام الإسلامي يجب أن ينسجم مع روح الإسلام التي هي التضحية ، وتنازل الإنسان عن ذاته لدينه ، وعن دنياه لآخرته ، وهذا التنازل لا يمكن أن يتحقّق ببساطة.
فلابدّ للإنسان من أن يكون في مستوى الرسالة التي يحملها ؛ ولذلك فإن الذي يجلس على منبر أبي عبدالله الحسين عليه السّلام ، ويدعو إلى منهجه ، ويتحدث باسمه ، وينطق باسم الثورة التي قادها السبط الشهيد ، هذا الإنسان يجب أن يكون حسينيّاً ، بمعنى أن يكون مستعداً للتنازل عن كلّ شيء في لحظة واحدة إذا اقتضى الأمر ، حتّى تكون دعوته نافذة.
فالمنبر الذي يتحوّل إلى مهنة واحتراف لا يغني عن الحسين شيئاً ؛ لأن المنبر هو ساحة للجهاد ، فمن الممكن أن يرتقي الإنسان المنبر ويتحدّث بحديث تكون فيه نهايته الدنيويّة كما فعلوا بخطبائنا العظام طيلة التاريخ.
وهكذا فإن الإنسان المؤمن الصادق لابدّ أن يقتبس من نور الإمام الحسين عليهم السّلام شعاعاً عندما يرتقي المنبر ويتحدّث باسمه عليه السّلام ؛ ولذلك نراه يندفع إلى التضحية.
وهكذا الحال بالنسبة إلى إعلام القلم الذي ينطق باسم الإمام الحسين عليهم السّلام ، فيجب على حامل هذا القلم أن يكون حسينيّاً بمعنى الكلمة ، وأن يبتعد عن الارتزاق والمهادنة ؛ فالقلم الذي يعمل على مهادنة الطغاة يجب أن يتكسّر ، والورقة التي يكتب عليها يجب أن تتمزق.
نحن نتحدّث عن سيّد شباب أهل الجنّة ، عن سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله ، عن إمام من أئمّة الهدى الذين بولايتهم وباسمهم تاب الله على آدم ، وركب نوح السفينة ، وأصبح إبراهيم إماماً للناس.
الهوامش
1. بحار الأنوار 44 / 196.
2. مقتل الإمام الحسين عليهم السّلام للسيّد المقرم / 282.
3. بحار الأنوار 45 / 83.
4. مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / 16.
5. مفاتيح الجنان ـ زيارة الإمام الحسين عليه السّلام ـ الزيارة السابعة.
6. مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / 154.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الحسين عليه السلام مصباح هدى وسفينة نجاة ] / الصفحة : 19 ـ 45
التعلیقات