بشائر خاتم الرسل في العهدين
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةبشائر خاتم الرسل في العهدين
إنّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم ، كان يحتجّ على اليهود
والنصارى ، بأنّه قد بُشِّر به في العهدين ، وأنّ الكليم والمسيح بشَّرا برسالته ، وأنّ
أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم ـ حتى بعد التحريف ـ لوجدوا بشائره فيها ،
وتعرّفوا عليه ، كتعرّفهم على أبنائهم . كان يحتجّ بهذه الكلمات ، ولم يكن هناك
أيّ ردّ من الأحبار والرهبان في مقابله ، بل غاية جوابهم كان السكوت وإخفاء
الكتب ، وعدم نشرها بين أتباعهم .
ولو كان النبي الأكرم غير صادق ـ والعياذ بالله ـ في هذا الإدّعاء ، لثارت
ثورتهم عليه ، ولملأوا الأجواء والطوامير بنقده وردّه ، غير أنّ صراحة النبي
وصموده أمام علمائهم بشدّة ، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الإدّعاء .
يقول القرآن الكريم : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ، يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (1) .
ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ) (2) .
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 146 .
(2) سورة الأعراف : الآية 157 .
ويقول : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم
مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ ) (1) .
ثم إنّ علماء المسلمين في الأعصار السابقة نقبوا في العهدين ، وجمعوا
البشارات الواردة فيهما . وَنْقلُ هذه البشائر ، يوجب الإسهاب في الكلام والخروج
عن وضع الكتاب ، ونكتفي في ذلك بهذه البشارة التي تكشف عنها الآية
الأخيرة ، فإنّ فيها تنصيص على الإسم مكان التنصيص على الصفات ، وهذه
الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات : الرابع عشر ، والخامس عشر ،
والسادس عشر . وإليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية :
1 ـ ( إِنْ كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم
مُعَزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) (2) .
2 ـ ( وأَمّا المُعَزِّي ، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو
يعلّمكم كل شيء ، ويذكّركم بكل ما قُلتُه لكم ) (3) .
3 ـ ( وَمتى جاءَ المُعَزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي
من عند الأب ينبثق ، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من
الإبتداء ) (4) .
4 ـ ( لكني أقول لكم الحق ، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا
يأتيكم المُعَزِّي ، ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالم على
خَطِيَّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونة ) (5) .
5 ـ ( وأمّا متى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه
__________________
(1) سورة الصف : الآية 6 .
(2) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملتان 15 و 16 ، ط دار الكتاب المقدس .
(3) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملة 26 ، ط دار الكتاب المقدس .
(4) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الخامس عشر : الجملة 26 ، ط دار الكتاب المقدس .
(5) إنجيل يوحنا ، الأصحاح السادس عشر : الجملتان 7 و 8 ، ط دار الكتاب المقدس .
لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يَسْمَع ، يتكلّم به ، ويخبركم بامور آتية ) (1) .
وجه الإستدلال يتوقف على بيان نكتة ، وهي أنّ المسيح عليه السلام ، كان
يتكلم بالعبرية ، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان ، لأنّه وُلِدَ وشَبّ بين ظهرانيهم ،
وأُمُّه أيضاً كانت عبرانية ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ المُؤَرِّخين أَجْمعوا على أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى ،
كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية ، وأمّا إنجيل متى فكان عبرياً من أوّل
إنشائه .
وعلى هذا ، فالمسيحُ بَشَّر بما بَشَّر باللغة العبرية أولاً ، وإنّما نقله إلى
اليونانية ، كاتب الإنجيل الرابع « يوحنا » وكان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في
مورد المُبَشَّرِ به ، لأنّ القاعدة الصحيحة ، عدم تغيير الأعلام ، والإتيان بنصِّها
الأَصلي ، لا ترجمة معناها . ولكن « يوحنا » لم يراع هذا الأصل ، وترجمه إلى
اليونانية ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح ، وفي غِبّ ذلك حصل
الإختلاف في المراد منه .
وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب « يوحنا » مكان اللفظ العبري ،
فهو مردد بين كونه « پاراقْلِيطوس » (2) الذي هو بمعنى المُعَزِّي والمُسَلِّي والمُعين
والوكيل ، أو « پِرِيقْلِيطوس » (3) الذي هو بمعنى المحمود ، الذي يرادف أحمد .
ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع ، حصل التردد في المُبَشِّر به .
ومُفَسِّروا ومترجموا إنجيل يوحنا ، يصرّون على الأول ، ولأجل ذلك ترجموه إلى
العربية بـ « المعزّي » ، وإلى اللغات الأُخرى بما يعادله ويرادفه ، وادّعوا أنّ المراد
منه هو روح القدس ، وأنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان
المسيح ، كما ذُكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل (4) . وزعموا أنّهم بذلك خلعوا
__________________
(1) إنجيل يوحنا ، الأصحاح السادس عشر : الجملة 13 ، ط دار الكتاب المقدس .
(2) في اليونانية هكذا : IIAPAKAHTOE . وبالأفرنجى هكذا : Paracletos .
(3) في اليونانية هكذا : IIEPIKAHOTE . وبالأفرنجية هكذا : Pericletos .
(4) أعمال الرسل ، الأصحاح الثاني : الجملات 1 ـ 4 ، يقول : ( ولما حضر يوم الخمسين كان ، =
المسلمين عن السلاح الذي كانوا يحتجون به عليهم .
ومع ذلك ، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المُبَشَّر به هو الرسول
الأعظم ، لا روح القدس ، وإليك تلك القرائن :
1 ـ إنّ المسيح بدء خطابه إلى تلاميذه بقوله : ( إِن كنتم تحبونني ، فاحفظوا
وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم « معزياً » آخر ، ليمكث معكم إلى
الأبد ) .
وهذا الخطاب يناسب أن يكون المُبَشِّر به نبياً ، لأنّ المسيح يحتمل ـ في هذا
الكلام ـ أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره ودينه ، ولذلك أثار عواطفهم في هذا
المجال لئلا يتخلّفوا . ولو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة ،
لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه ، ولا يبقى في
القلوب معه شكٌّ ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه وكلامه في القلوب
والأرواح ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين واستعدادهم .
ولأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته وقال : ( وقلت لكم
الآن قبل أن يكون ، حتى متى كان تؤمنون ) (1) .
2 ـ إنّه وصف المُبَشَّر به بلفظ « آخر » ، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير
روح القدس لعدم تعدده ، وانحصاره في واحد ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون
واحداً بعد الآخر ، في فترة بعد فترة .
3 ـ إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله : ( لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد ) وهذا
يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تُنْسخ .
__________________
= الجميع معاً بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ، وملأ كلّ
البيت حيث كانوا جالسين ، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، واستقرّت على كل واحد
منهم ، وامتلأ من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أُخرى ، كما أعطاهم الروح أن
ينطقوا ) . وسيوافيك عند التحليل أنّه لم يتحقق في يوم الدار هذا كلَّ ما ذكره المسيح ومنه قوله :
« يبكت العالم على خطيّة الخ . . » .
(1) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملة 29 ، ط دار الكتاب المقدس .
4 ـ إنّه يقول : ( وأَمّا « المعزّي الروح القدس » الذي سيرسله الأب
باسمي ، فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم ) وهذه الجملة
تناسب أن يكون المبشر به نبيّاً يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير
الشريعة السابقة على وشك الإضمحلال والإندثار . فيأتي النبي اللاحق ، يذكر
بالمنسيّ ، ويزيل الصدأ عن الدين .
وأمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوماً
من فَقْد المسيح ، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل (1) . أفيظن أنّ
الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح وتعاليمه حتى يكون النازل هو
الموعود به ؟! .
5 ـ ويصف المسيح المبشر به ، بقوله : ( فهو يشهد لي ) . وهذه العبارة
تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بُعِثَ مصدِّقاً للشرائع السابقة
والكتب السالفة ، وقد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ) (2) ، وغير ذلك . ومن
المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح ، ونَزَّه أُمَّه وابنها ، عن كل عيب
وشين ، وردّ كلَّ ما أُلصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة . وهذا بخلاف
ما إذا فسِّر بروح القدس ، إذ لم يكن للمسيح يومذاك أي حاجة لشهادته ، ودينُه
وشريعتُه بَعْدُ غضّانِ طريّان .
6 ـ إنّه يقول : ( لأنّه إن لم انطلق ، لا يأتيكم « المعزي » ، ولكن إن
ذهبت أرسله إليكم ) . وهذا يناسب أن يكون المُبَشّر به نبياً ، حيث علّق مجيئه
بذهابه ، لأنّه جاء بشريعة عالمية ، ولا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أُمةٍ
واحدةٍ .
ولو كان المُبَشَّر به هو روح القدس ، لما كان لهذا التعليق معنى ، لأنّ روح
__________________
(1) أعمال الرسل ، الأصحاح الأول : الجملة 5 . والأصحاح الثاني : الجملات 1 ـ 4 ، ط دار
الكتاب المقدس .
(2) سورة النساء : الآية 47 .
القدس حسب تصريح إنجيلَيْ متى ولوقا ، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح
للتبشير والتبليغ (1) .
7 ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك يُبكّت العالم على خَطِيَّةٍ ، وعلى بِرّ ، وعلى
دينونة . . . ) . وهذا يؤيّد أن يكون المُبَشَّر به نبيّاً ، إذ لو كان المراد هو روح
القدس ، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم ، فما وَبَّخ اليهود
الذين لم يؤمنوا به أصلاً ، لعدم رؤيتهم إيّاه . ولم يوبخ الحواريين ، لأنّهم كانوا
مؤمنين به .
8 ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع
الحق ، لأنّه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور
آتية ) .
وهذا يتناسب مع كون المُبَشَّر به نبيّاً خاتماً ، صاحب شريعة متكاملة ، لا
يتكلم إلّا بما يوحى إليه ، وهذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه
وآله وسلم .
فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من « المعزي » المُبَشّر به ،
هو النبي الأكرم لا روح القدس ، ولو أمعنت النظر في سائر القرائن التي ذكرها
المحققون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ ، لعالت القرائن (2) .
غير أنّ البشارات لا تنحصر بذلك بل هي موجودة في العهدين ، واستقصاء
البحث وجَمْعها ، يستدعي تأليف كتاب منفرد حافل ، إلّا أنّا نلفت إلى نكتة
وهي :
إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح كان كتاباً واحداً ، وهو عبارة عن هَدْيِهِ
__________________
(1) لاحظ إنجيل متى : الأصحاح العاشر ، الجملة الأولى فما بعدها . وإنجيل لوقا : الأصحاح
العاشر ، الجملة 11 ، وفيها : ( ولكن إعلموا هذا : إنّه قد اقترب منكم ملكوت الله ) .
(2) من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى كتاب أنيس الأعلام في نُصرة الإسلام ، ج 5 ، ص 139 ـ
172 .
وبشارته بمن يجيء بعده ، ليتم دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من
قبله ، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم ، وإنّما كثرت
الأناجيل لأنّ كلَّ من كتب سيرته سماه إنجيلاً ، لاشتماله على ما بَشَّر وهدى به
الناس ، ومن تلك الأناجيل إنجيل « برنابا » . و « برنابا » حوريٌّ من أنصار
المسيح الذي يلقّبهم رجال الكنيسة بالرُّسل ، صحبه « بولص » زمناً ، بل كان هو
الذي عرّف التلاميذ ببولص ، بعدما اهتدى بولص ورجع إلى أُورشليم ، ولم يكن
من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عثروا في أُوروبا على نسخة منذ
قرابة ثلاثة قرون ، وهذا هو الإنجيل الذي حرم قراءته « جلاسيوس الأول » في
أواخر القرن الخامس للميلاد .
وهذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في عدّة أُمور :
1 ـ ينكر ألوهية المسيح وكونه ابن الله .
2 ـ يعرّف الذبيح بأنّه اسماعيل لا إسحاق .
3 ـ أنّ المسيح المنتظر هو « محمد » ، وقد ذكر « محمد » باللفظ الصريح
المتكرر في فصول ضافية الذيول .
4 ـ أنّ المسيح لم يصلب بل حُمل إلى السماء ، وأنّ الذي صلب إنّما كان يهوذا
الخائن . فجاء مطابقاً للقرآن .
ومن أراد الوقوف على بشائر هذا الإنجيل بوضوح ، فعليه بالرجوع
إليه (1) .
__________________
(1) وقد قام بترجمته من الإنكليزية الدكتور خليل سعادة ، وقدم له مقدمة نافعة ، وطبع في مطبعة المنار
بتقديم السيد محمد رشيد رضا أيضاً ، عام 1326 هـ ، 1908 م .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 447 ـ 453
التعلیقات