فضل محمّد صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم على غيره من الرسل بمزايا
أحمد مصطفى المراغي
منذ 9 سنواتفضل محمّد صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الرسل بمزايا
( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) أيّ هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله : ( وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فضّلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال ، فخصّصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره ، مع استوائهم جميعاً في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وخلاصة هذا ـ إنّهم كلّهم رسل الله ، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم ، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.
ثم بيّن هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :
( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ، كما قال تعالى في سورة النساء ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) وفي سورة الأعراف ( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) وفي الآية بعدها ( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ).
( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف ، والمراد به محمّد صلّى الله عليه وسلّم كما رواه ابن جرير عن مجاهد ، ويؤيّده السياق أيضاً ، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم ، مع أنّ دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولاً وعيسى آخراً ومحمداً في الوسط ، إشعاراً بأنّ شريعته وأمّته وسط.
ومن هذه الدرجات ما هو خصوصيّة في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله فى سورة القلم ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدلّ على ذلك قوله في فضل القرآن ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) وقوله : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ).
ومنها ما هو في أمّته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ).
ولو لم يؤت من المعجزات إلّا القرآن وحده لكفى به فضلاً على سائر ما أوتى الأنبياء ، لأنّه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات ، وقد روى البخاري أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال : « ما من نبىّ من الأنبياء إلّا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ».
وروى عنه أنه قال : « فضّلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيّون ».
( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البيّنات هي ما يتبيّن به الحقّ من الآيات والدلائل كما قال : ( وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ) وأيّدناه : أيّ قوّيناه ، وروح القدس هو روح الوحي الذي يؤيّد الله به رسله كما قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ).
وخصّ عيسى بإيتاء البيّنات تقبيحاً لإفراط اليهود في تحقيره ، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البيّنات القاطعة الدالّة على صدقه ، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنّه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.
( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) قوله : من بعدهم أيّ من بعد الرسل من الأمم المختلفة ، أيّ ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متّفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربّهم ، وقوله من بعد ما جاءتهم البيّنات : أيّ من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالّة على الحق الموجبة لاتباعهم ، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم ، وقوله : ولكن اختلفوا : أيّ إنّه لم يشأ عدم اقتتالهم ، لأنّهم اختلفوا اختلافاً كبيراً ، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل ، ومنهم من كفر بذلك كفراناً لا أمل معه في هداية.
وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلاً يتصرّف به في أنواع شعوره ، وفكراً يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسيّة والبدنيّة ، وجعل ارتقاءه فى إدراكه وأفكاره كسبياً ، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثمّ يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين ، كما جعل هداية الدين له أمراً اختياريّاً يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون ، وهذا هو منشأ الاختلاف.
مقتبس من كتاب تفسير المراغي الجزء الثالث
التعلیقات